البؤس الضاحك: أن أهل حلفا منذ مأساة التهجير وحتي الآن، يقابلون الشجن بإبتسامة، والألم بنكتة ضاحكة، والبؤس بإبتسامة عذبة أحياناً وغير عذبة أحياناً أخرى، أنهم يضحكون على الزمن وعلى مآسي الزمن، على حظهم العاثر، على أرض ذكرياتهم التي غمرتها المياه، على حضارتهم التي غرقت تحت الماء، أن بؤسهم هو البؤس الضاحك حيث يعالجون كل هذا بالنكتة، بالضحكة. وأذكر أنني ذات مرة ذهبت لتعزية أحد الأصدقاء في رحيل نسيبته، أو حماته كما يقول الإعلام المصري، وبدأ هو بنفسه في أطلاق نوادر ونكات عن حلفا وأهل حلفا، وكان كل ما سمعته نكات جديدة أخذت مني ضحكات عالية وبريئة، وشعرت أنني لم أضحك مثلما ضحكت، ولكن جاءني النكد من مشاعري الداخلية، كيف أضحك هكذا وأنا قادم للعزاء في بيت، ولكنني قلت للصديق، أنا لم أتعامل كثيراً مع حماتك ولكنني اليوم أجزم بأنها إمراة صالحة، فأنا لم أضحك من قلبي مثلما ضحكت اليوم، أن ذكراها وطيبة قلبها جعلتني اليوم سعيداً، وهذا أعتقد أنه سوف يكون في صالح حسناتها. لقد كتب أيوب إسماعيل كتابه عن تهجير النوبيين نتائج تجربة، وقلبه يعتصر ألماً، وطموحه معجون بالأمل، الأمل في أن يعود مجد حلفا إلى حلفا، وهذا ما جمعني به، ولكنه في كتابه إختار حلفاوياً لطيفاً هو زكريا أحمد ليكتب المقدمة، وجمع زكريا أحمد في مقدمته بعض النكات عن هذه المأساة، لأن الحلفاوي يعبر عن ألمه بالنكتة، ويغتصب الإبتسامة من موقع الأزمات، لأن زكريا يحاول أن يلفت إنتباه الناس، بل هو يحاول أن يطالب بجزء يسير من عائدات السد العالي بطريقة لطيفة، وشبه نفسه بالشحٌات الذي كان يقف على باب الشاعر الكبير حافظ إبراهيم، وكان يبدأ نشاطه في الصباح الباكر، وينادي صائحاً: يا محسنين حتة رغيف وصحن طبيخ، وتضايق الشاعر من صياح الشحٌاذ، ربما كان يقطع أفكاره ويجعل ملاك الشعر يفر هارباً، وربما كان في صراع نفسي فهو يريد أن يعطيه ولكن، وكان حافظ إبراهيم ينزل السلالم بقامته الشامخة، ويطرد الشحّاذ ويقول له: أفرض أعطيناك خبزاً، فمن الذي يستيقظ الآن، ويسخن لك الطبيخ في الثالثة صباحاً، وأعتقد أنه هذه من ظرفات الشاعر، لأنه كان من الممكن أن يعطيه الطبيخ من دون تسخين، ولكن زكريا حامد كان يلمح بأنه هو وكل حلفا لم يستفيدوا شيئاً من السد العالي، وكان يطالب بالغذاء والكساء مقابل الماء والكهرباء. زكريا أحمد: ووسط مأساة الألم، والبؤس الضاحك ينادي المؤلف ومقدم الكتاب أن النوبة قادمة، وأن حلفا ستعود مدينة، وهذا هو ما أتفق عليه معهم فيما سميناه ولاية حلفا العتيقة، وقدمناه رجاء للرئيس وطرحاً لحكومتنا الرشيدة، ويحكي زكريا عن حسن نوري الذي أصابته ملاريا حلفاالجديدة، ولم تكن حلفا العتيقة تعرف الملاريا، ودخل نوري في مرحلة الغيبوبة، وأبتدأ يهضرب ويقول العلوج، الفالوجا، النفط مقابل الغذاء، لوكربي، غزة، أريحا، العولمة، وهنا علق الحاج صالحين، وهو يراجع المريض بالشباك وقال متسائلاً خبر أيه يا جماعة.. أصلوا حاج نوري ركبوا ليه " دَربْ" ولا دش. ويري زكريا أن الجماهيرية الليبية حولت ملايين الدولارات لصالح عائلات ضحايا "لوكربي" ولكن سوء حظ ضحايا السد العالي مازالوا نهبا للملاريا والبلهارسيا في خشم القربة، ويتساءل أي عقلية تلك التي تأخذك على حين غرة من ضفاف نهر النيل العظيم مدينة وادي حلفا، وتقذف بك في مستنقع ذي مسكيت وحسكنيت ويكفي الإسم "خشم القربة" ويقول حامد أن الأجيال الجديدة التي ترعرعت في غير حلفا العتيقة مثل أشجار الشوك نحاف صيفاً أقزام شتاءاً، ويبدو أن زكريا لم يتعز بوجود كم من الحمير في حلفاالجديدة سميت حمير عبود. وفي مقدمة زكريا قصة الحلفاوي الذي تعاقبت عليه إبتلاءات الزمن، ودقت التجارب بابه، مع أننا نقول للرب لا تدخلنا في تجربة، فلقد إحترق دكانه الصغير وقال له الناس الصبر طيب، وسرقت أغنامه الأربعة فقالوا له الصبر مفتاح الفرج، وبعد هذا ماتت زوجته فطالبوه بالكف عن البكاء والمزيد من الصبر، ولكن الحلفاوي إنفجر في الحاضرين وقال: يا أخوانا مفيش مسلمين غيرنا، إن الحلفاوي يتميز الآن بسرعة النكتة، وبداهة التعليق، ولقد قال حلفاوي لماذا إستولي الإنقاذ علي السلطة، فقالوا له: كان السودان مثل عربة معطلة، والانقاذ دفع العربة إلي الأمام، فقال الحلفاوي: يدفروا ويزقوا أيوه، لكن يركبوا لا لا. سودانويات هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته