يحكي بعض معلمي المدارس الابتدائية والثانوية عن العصر الذهبي الذي مرَّ عليهم في الخمسينيات، وهم ينالون قسطاً وافراً من التدريب في مجال «التربية الريفية» وقد انحسر دور المدارس أو في الحقيقة اختفى تماماً في مجال استزراع الأشجار والزهور والحفاظ عليها. وأذكر ونحن تلاميذ وأعمارنا بين السابعة والعاشرة، كان لكلٍ منا حوض لا تقل مساحته عن مائة متر مربع نقوم برعايته وزراعته وسقايته وحصاد الخضروات منه، وإمداد أهلنا بما ننتجه من الملوخية والجرجير والعجور، وفي بعض الأحيان كنا نبيع من إنتاجه. ولكن اختفت هذه الظاهرة ومعها اختفت النسبة المئوية التي كان يحصل عليها الطلاب في الشهادة مقابل الانضباط في كورس التربية الريفية. وقد حكى أحد قدماء المعلمين أن المفتش الأكبر استدعاه في مكتبه بالمديرية وعرض عليه أن يذهب الى قرية بعيدة جداً وكان كل المعلمين قد رفضوا الذهاب الى المدرسة في تلك القرية، وأهم الأسباب هي أنه لا توجد بئر أو مصدر مياه في هذه المدرسة تساعد المعلم على تدريس كورس التنمية الريفية، وهذا يعني بالضرورة أنه لا توجد أشجار أو أية مزروعات في فناء المدرسة. وللعجب والدهشة فإن المعلم الذي استدعاه المفتش قد قبل الذهاب ليكون مشرفاً على تلك المدرسة (التعيسة) التي لا يوجد بها مصدر مياه، وحزم أمتعته واصطحب أولاده وسافروا أياماً وليالٍ الى أن وصلوا الى تلك القرية النائية التي لديها مدرسة بدون بئر للماء. وبعد مرور عام كامل قرر مفتش التعليم أن يقوم بزيارة لمدارس المحليات التي تقع في دائرة رقابته، وكانت مدرسة المعلم المذكور هي أولى المدارس التي سيذهب إليها ويقوم بتفتيشها. وكان يعتقد أنه عندما يصل الى المدرسة سيجدها قاحلة ناشفة في صحراء جرداء ولكنه عندما وصل وجد المدرسة محاطة بالأشجار والزروع والخضرة والظل الوفير، ولدهشته فإنه لم يجد بئراً في المدرسة ولا مصدراً للمياه، وبالطبع اجتمع بالمعلم وسأله إن كان أهل القرية قد حفروا قريباً من حائط المدرسة أو إن كانت الأمطار قد نزلت بغزارة خلال العام الذي لم يقم بزيارتهم فيه.. والمعلم قال إن أهل القرية لم يقوموا بحفر بئر والأمطار لم تنزل أصلاً خلال ذلك العام, ولكن ما حدث هو أن المعلم كان يطلب من كل تلميذ أن يحضر زجاجتين من الماء من أهله في الصباح عندما يأتي للمدرسة وزجاجتين في المساء عندما يرجع الى دروس المساء، وبهذا فإن كل طالب كان يحضر معه يومياً حوالي جالون من الماء والستمائة طالب الذين يدرسون بالمدرسة يحضرون معهم من أهلهم ستمائة جالون من الماء يومياً وفي الشهر يحضرون معهم ثمانية عشر الف جالون من الماء وفي العام يحضرون للمدرسة مائتي وستة عشر ألف جالون من الماء كانت كافية لاستزراع الأشجار والخضروات حول المدرسة.. وقد ذكرنا هذه الواقعة لنشير الى أن قضية زراعة الأشجار تظل رهينة بمدى إصرار الناس على إنفاذها وتجاوز مصاعبها, ولن يعفينا أن نقول إنه لا يوجد مصدراً للمياه, ولن يعفينا أن نقول إننا لا نملك الإمكانات المالية للزراعة حتى لو فقدنا الإمكانات المالية، فإن لدينا الإمكانات الذهنية والمقدرة العقلية والإصرار على الفعل ونذكر كل ذلك بمناسبة عيد الشجرة الذي يحتفل به اليوم أصدقاؤنا في الهيئة القومية للغابات, وكان الأجدر أن يكون الاحتفال في كل مكان وكل مكتب وكل دار وكل قرية وكل مدرسة وكل وزارة ولن أتجاوز الحقيقة إن قلت إن الكثيرين فيما عدا «ناس الغابات» لا يعرفون شيئاً اسمه عيد الشجرة لأنهم لا يهتمون أصلاً بالشجر..