كما ذكرت لكم في الاستراحة السابقة أنَّ هذه الذكريات كانت سريَّة ولكن مضى على ثورة الإنقاذ المباركة عشرون عاماً وحسب العرف الجاري فقد صار مسموحاً بنشر هذه الذكريات حيث كان الحاكم يُسمَّى حاكم الإقليم وأنا كنت رئيس اللجنة الشعبية للإقليم بحدوده الجغرافية حتى دنقلا وحلفا شمالاً وحدود مديرية الخرطوم.. ولكن كعادة الدنيا فقد ذهب ذلك الحاكم الرجل الفاضل وذهبت أنا كذلك أتحسر على تلك السلطة التي ضاعت.. هلا هلا بالعمدة بقيت رئيس بالمعاش وعمدة بالمعاش أو عمدة سابق لأنَّ العمد ما عندهم معاش بل مكافأة بسيطة أمَّا رئاسة اللجنة الشعبية فليس لها مُرتَّب ولكن لكل رئيس عربة فاخرة هي «ليلى بت علوي» وأنا الوحيد من رؤساء الأقاليم الذي لم يصرفوا له عربية، وظللت أركب البوكس المهلهل خاصتي وفي المشاوير البعيدة أركب مع الحاكم.. ولكنه كان ما بدور أمشي معاه عشان خطيب أحسن منو بشوية وكما ذكرت في الاستراحة السابقة كنت أقف أمام الجماهير استهل خطبتي بالشعر القديم قائلاً: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر وبالطبع أيُّها الشعب الكريم استجاب القدر والقيد انكسر وولدت ثورة الإنقاذ وكانت عند حسن الظن، وقامت بالشوارع والكباري التي هي أصل العمران والحياة وربطت البلاد والقرى والأرياف ببعضها ووصلت الكهرباء للقرى المختلفة.. هكذا ولنعد إلى ذكرياتي وأنا رئيس للجنة بقرار جمهوري زيي وزي الحاكم.. وظللنا نواصل سيرنا في تضامن وتلاحم ثوري ولكن إبليس لعب بيننا وكان الحاكم لا يجوز نقده ولكنني أنا كجعلي لا أخلو من شوية «شداعة» فقد كان الحاكم كل يومين يسافر الخرطوم بالطيارة من مطار عطبرة ويعود، وكان يفرض علينا مع السادة الوزراء وأمين عام الحكومة السيد حسان عطية أن نذهب لمدينة عطبرة لوداعه وبعد يومين نذهب للمطار لاستقباله.. وهذه المسألة شفتها صعبة كل يوم نطلع وننزل من عطبرة للدامر وجاءني أمين عام الحكومة وقال طيارة الحاكم تصل الساعة التاسعة صباحاً استعد معنا لاستقباله وقلت له ياحسان يا أخي نحن شغلتنا تبقى الحاكم ذهب والحاكم رجع ورسل من العربات لوداعه وأخرى لاستقباله ولذلك أنا عليَّ الطلاق ما بمشي وأنت يا حسان والوزراء ما تمشوا وقولوا له ساعة حضوره إنَّ السيد رئيس اللجنة أصدر قراراً بمنعنا من هذا الاستقبال لأنَّه ليس من أدب الثورة ومفاهيمها،، وقلت للسيد حسان إنَّ درجتي قدر الحاكم لماذا لا تعملوا لي هيلمان زي الحاكم وأنا حينما أصدر لكم قراراً بعدم استقباله يومياً بهذه الطريقة فإنني معين بقرار من السيد رئيس الجمهورية ولكنهم رفضوا طاعة أمري ونقلوا له عصياني عن الحضور لمقابلته، وإنَّني أمرتهم ألا يذهبوا له بالمطار.. هكذا سيداتي سادتي ظلَّ إبليس يدخل بيني وبين الحاكم وظل الوزراء مع الحاكم وهكذا لما رأيت الوزراء معه تمثَّلت بقول الشاعر العربي قديماً الذي قال: إذا غضبت عليك بنو تميم حسبت الناس كلهم غضابا وتمضي الأيام وتزداد الخلافات لأمور بسيطة.. وإذا بي ذات يوم جئت إلى مكتبي صباحاً كالعادة، وجاءني أحد حجَّاب الحاكم «الحرس» قال إنَّ سيادة اللواء عايزك بمكتبه.. ولبست هندامي وحملت عصاتي التي أتوكأ عليها وليس لي فيها مآرب أخرى إلا إذا دعا الحال وكان الذي يأتي لمقابلة الحاكم «الحرس» يأخذون عصاته ولكنني كجعلي ورئيس اللجنة لم يتعرضوا لعصاتي إلا أنَّ الحاكم يبدو على وجهه أنَّه لا يرتاح لحمل هذه العصا والدخول بها عليه وجئت مُلبِّياً دعوته ووجدت الوزيرين اللذين معه يجلسان واحد عن يمينه وآخر بشماله ويجلس معهما حسان عطية أمين عام الحكومة وحضر أيضاً محمد خير أحمد الذي هو رئيس لجنة المديرية.. وأنا طبعاً رئيس لجنة الإقليم.. وبدأ الحاكم الكلام بداية بسم اللَّه الرحمن الرحيم إنَّ السيدالعمدة الذي هو رئيس لجنة الإقليم ارتكب أخطاء ويكتب في الجرائد والثورة غلطانة في تعيينه.. وظل يُعدِّد أشياء وبعد أن انتهى قلت بسم اللَّه الرحمن الرحيم.. السيد الحاكم أظنك عامل لي مجلس تأديب أولاً أنا لست أفندي في مكتبك حتى تعمل مجلس تأديب ثم أنا معين بقرار جمهوري مثلك والجرائد بكتب فيها من زمان قبل هذه الثورة وسأكتب طوالي وقلت له باكر أنا سوف اتصل بالرئيس أوريه أمورك دي ومجلس التأديب هذا وأنا قدرك في الوظيفة ثم قلت له أنت عامل عربات تقابلك في الخرطوم وعربات هنا وأنا كرئيس لجنة لا أملك عربية وفي الخرطوم أحوم كداري وأركب المواصلات.. وهنا قال لي يا سيادة العمدة أنت قائم الخرطوم متين قلت له باكر ومسك التلفون وضرب لمدير مكتبه وهو عسكري ريش.. وقال له السيد العمدة رئيس اللجنة قادم باكر بالطائرة تقابلو بالمطار وتديهو عربية بسواقها يقضي بها أغراضه وشكرته وتغير مجلس التأديب إلى ونسة وذكريات وهكذا كان ذلك الحاكم رجل طيب وبعد مدة من إحالته من العمل ومعه أحد الوزراء، وجاء بعده حاكم آخر وهكذا حال الدنيا وبعد ثلاثة أشهر تمَّ فصلي أنا من اللجنة ورئاستها.. وهكذا فقدت سلطات العمودية وفقدت رئاسة لجنة الإنقاذ وظللت أترقب الفرص وجاءت الانتخابات الولائية ولكنني تركتها ولم أترشَّح لشخص ظل يخدمنا وهو كمان ارتقى لمناصب عليا ومن خلالها ظلَّ يخدمنا للآن والدائرة المركزية الاتحادية ممثلنا فيها رجل ممتاز وأول نائب فتح مكتب للخدمات وقدم خدمات بناء مدارس ومراكز صحية ونحمد الظروف التي جاءت لنا بهؤلاء النائبين ولائي ومركزي . وظللت أترقب قلت يمكن أتعين مستشار أو عضو في مجلس الولايات.. ولكن هذا لم يحصل والمهم عدت لكتابة الاستراحات واليوميات بالجرائد اليومية، وعملت مكتب بالشارع مرة بالخرطوم ومرة بالدامر ومرة بنهر عطبرة وعملت سكرتارية مكونة من الابن المناضل محمد حسن دياب والابن عبد الواحد العمدة الذي هو في درجة أمين المال.. هكذا سيداتي وسادتي سردت لكم ذكرياتي حينما كنت رئيساً للجنة الإنقاذ وطبعاً يا إخواني هذه الدنيا ليست دائمة وأخدنا أيامنا فيها مرات عمدة ومرات نائب في البرلمانات وبعد ذلك كفانا وربنا يدينا حسن الخاتمة وأن يجعلنا من عباده الطائعين الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه أقول هذا وأستغفر اللَّه لي ولكم ، ولي استراحة قادمة خلال الأسبوع ودمتم في رعاية اللَّه وحفظه إنَّه سميع مجيب.