٭ كنا في الشرق«المعافى» نعرّف الحضارة الغربية بأخلاق المسيحية السمحاء والقانون الروماني القوي آنذاك والفكر والفن الإغريقي العظيمين «آنذاك أيضاً» وبلا شك أن الكل يعرف أن ذاك المنتج كان حصيلة للتواصل التاريخي بين حضارتي الشرق والغرب- أي - انه وليد لحضارة مابين النهرين وحضارة وادي النيل كذلك تلك التي نشأت في الهند والصين. ٭ إمتزجت تلك الحضارات بروح وفكر الإسلام العظيم وإنصهرت في بوتقته لتفضي إلى منتج انساني هو خير ما أخرج للناس حين كانت تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وقبل أن تصيبها عدوى «تعدد الآلة» تلقت البشرية جمعاء، ذلك المنهج في دفء واقتناع غير أن الغرب وعلى الرغم من كل المساهمات الكبيرة لهذه الحضارة ودورها النافذ في التكوين العلمي والأدبي وبفعل امتلاكه وسيطرته اليوم على التقنيات العالية ٭ الغرب يعتبر نفسه مصدراً للعلم والمعرفة وموطناً لأهل القوة ويطرح ذلك على الساحة البشرية بكل الغرور والصلف ودافعه في ذلك الإحساس بالقيادة والريادة على الآخرين إلا الإذعان والولاء والتلقي في صياغة حياتهم زرع الخوف والرهبة في حاضر ومستقبل الإنسانية، وبدأ سيناريو الإستراق في المشروع المادي الذي استنزف العقل وعتم على المعين الروحي والأخلاقي، تم التعبير عنها في ما يُقدم من صور مشوهة يتم الترويج لها من خلال أحدث التقنيات. ٭ إنما أطلق عليه إسم الحضارة أو الحداثة، قد أسس على بنية جانبها الثبات كذلك على نزعات فردية طاغية تعمل على مصادرة القيم عبر حركة مؤسسات ودوائر تسوقها وتحركها نوازع العنف والهيمنة، ولقد كان الإستعمار ومنذ قرون مضت وإلى يومنا هذا ينهج ويحرص على سياساته «الميكافيلية» والتي يسمونها ايضاً ب«سياسة الأرض المحروقة» وهي تلك التي تهدف إلى إيجاد فرص تقود إلى تغطية العجز في الميزان الحضاري والروحي الذي إبتلي به لأن القضاء على جوهر الأديان للعديد من الحضارات الإنسانية ومسخ الشخصية الثقافية المتميزة لها كان ذلك من أولى الخطوات لتأسيس الأرضية الملائمة والممهدة للتسلط والإستغلال. ٭ بعد هذه السياحة في عالم الحضارة الغربية وثقافتها التي لم تضف إلينا غير البوار تتكشف لنا أخطر مفارقات المشهد، ففي ظل هذا الإستلاب الثقافي انتهينا إلى مرحلة عرفها السابقون بالتبعية العمياء وسماها اللاحقون ب«سلخ الجلد» وأنه لمن مفارقات المشهد الثقافي أن يتحول وفي ظل هذا الزحام أفراد عرفوا بتشددهم الهيمنة وثقافتها تحولوا إلى أشد المتحمسين للترويج والتعاطي مع أطروحات وأجندة ذاك النفوذ وتحضرني هنا تلك الإتفاقية الكارثية والمفصلية في الوطن العربي والمسماة «كام ديفيد» التي فتحت الباب لكل المنهزمين في «دنياوات» السياسة والأدب والفن والإقتصاد وشتى جوانب الحياة الإجتماعية والذين لا زالوا ينادون ويمارسون التطبيع مع إسرائيل حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى اعتبار مقولة التناقض والصراع الحضاري مع «الدولة العبرية» «مجرد حالة سايكلوجية مبعثها التخلف وعدم القدرة على استيعاب روح العصر والإفتقار إلى عقلية الحوار» وقد اتسعت أثر ذلك ظواهر النكوص والإذعان وأصيب «البعض الكبير» بحمى التنازلات في ذلك الطريق المعبد من جانب واحد وتجلى ذلك في غلبة مفردات أصبحت شائعة وقابضة في الآونة الأخيرة، كالتطبيع والحداثة حتى مقولة «ثقافة السلام» قد أفرغت من محتواها الحقيقي فأضحت تعني السلام من جانب واحد أو ما يسمى بسلام الشجعان. الحرب تدمر الإنسان والمدينة والمعابر والبقاع ولا يعالج «سلام الشجعان» آثارها ولا تداعياتها والسلام المفروض أو الهدنة المفروضة تتولد دوماً في عقلية «عراب الحرب» وفي أجندة كل الناكصين وجميع الأصوات المتنكرة لخلفياتها وتراثها والمتمردة على ثوابت الأمة كذلك لا عجب أن تظل تهمة «الإرهاب والتشدد والتطرف» تلاحق كل من يرفض التطبيع والذوبان والدوران في فلك اليانكي أو يرفض الرضا بإهدار الحقوق. في المشهد السوداني تتبين حالات التجلي للعقلية الإستلابية في أوضح من صورة وموقف حيث يتحقق اختراق «التاريخ» مثلما تم اختراق «الجغرافيا» وفي المشهد السوداني سارع الغرب إلى احتضان كل الفصائل المتمردة ضد المركز في دارفور مثلما احتضن ولا زال «الحالة الجنوبية» وآلت مفاتيح الأزمة ومغاليقها حينئذ إلى الأجنبي بشقيه «الانجلو سكسوني» و«الفرانكفوني» وفي النهاية والبداية كانت المصالح هي الهدف الأخير لتلك الأيلولة. هناك اختراق وثغرة قد حدثت في جدار الوطن، ونقصد بذلك الوطن المادي والوجداني كذلك نشير إلى الوطن التاريخي و الجغرافي والقي ذلك الظلال وتداعيات في غاية الخطورة تمثلت في استسخاف ثوابت الأغلبية بل والطعن في حقيقة تلك الأغلبية. ٭ اننا محتاجون إلى مراجعة علاقاتنا مع تراثنا الحضاري وما يذخر به من قيم روحية وثقافية هي مفاتيح الحل لكل الأزمات بإستشعارنا بحالة التميز هذه نستطيع أن نعيد الثقة في قدراتنا على تجاوز حالة الرهبة التي ترسخت في دواخلنا منذ مئات السنين كذلك نستطيع أن نرفد الفكر الإنساني بما يجبره على الإعتراف بوضوح بصماتنا في خارطة التحديث والتطور العلمي الإنساني.