الأمانة الصحفية تقتضي أن أقول إنني استللت فكرة هذه المقالة - التي تنحو منحى اجتماعياً سلوكياً- من العمود السندس للدكتور كمال حنفي الذي يوزع فيه الأفكار والطرائف بصورة سلسة عبر لافتة (إلا قليلا). ومن باب الاستطراد أذكّر القراء أن السندس هو رقيق الحرير، وعكسه الاستبرق الذي يعني غليظ الحرير، وهي معلومة لا بأس من إيرادها على سبيل الفوائد اللغوية التي تأتي تبعاً دون أن يكون لها صلة رئيسية بأصل الموضوع. دعونا نعود إلى ذلك الخيط الذي أخذت بطرفه من عمود الدكتور كمال حنفي (إلا قليلا) ففيه إشارة طريفة وغريبة في آن واحد لما يحدث في المواصلات العامة بالخرطوم وربما مدن أخرى. المسرح الصامت ربما لا يلاحظ الكثيرون بل ربما لا يلاحظ الكافة - إلا قليلا منهم- هذا المسرح الصاخب والصامت في وقت واحد، والذي يتخذ مكانه من المحطات الرئيسية والشوارع التي تسير عليها البصات والحافلات داخل الخرطوم وخارجها. الصخب من السهل ملاحظته في المحطات الرئيسية التي ينادي فيها (الكموسنجي) على الركاب يحثهم على الركوب ويدلهم في ذات الوقت على وجهة الحافلة، ولكن ما أن تغادر هذه الأخيرة المحطة حتى يبدأ المسرح الصامت. في هذا المسرح هناك اتفاق بين الركاب من جهة وبين سائق الحافلة والكمساري من الجهة الأخرى، الاتفاق يقضي باستخدام لغة الإشارة للتواصل والتفاهم في كل ما يتعلق بعملية الركوب والنزول والمحطة التي تقصدها الحافلة أو الراكب، وبيان ما إذا كانت الحافلة ممتلئة أو أن بها مقاعد شاغرة أم لا؟، أو تحديد عدد المقاعد الشاغرة إذا ما لاحظ الكمساري أن عدد الركاب المنتظرين في المحطة أكثر من المقاعد. إشارة مختصرة الركاب داخل الحافلة يستخدمون هذه اللغة وهم يدفعون ثمن تذكرة الركوب. " إشارة مختصرة بأصابع اليد من الراكب للكمساري داخل الحافلة تكفي ليعرف أن هذا الراكب دفع ثمن التذكرة لنفسه فقط أم لآخرين معه " إشارة مختصرة بأصابع اليد من الراكب للكمساري تكفي ليعرف الثاني أن هذا الراكب دفع ثمن التذكرة له فقط أم أنه دفع لاثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة من زملائه أو رفقائه داخل الحافلة، ما على الراكب إلا أن ينصب أصابع بعدد الركاب الذين معه. الإشارة في المواصلات تغنيك أن تسأل، فمثلاً إذا ما حرّك الكمساري أو السائق أصبعه بصورة دائرية وكنت على طريق الغابة بالخرطوم أو على طول شارع الكلاكلات والشجرة من الناحية الغربية فهذا يعني أن الحافلة متجهة إلى اللفة والدليل الدامغ هو تحريك الأصبع بصورة دائرية. ذات الحركة يمكن أن يفعلها الشخص المنتظر في المحطة ليدرك السائق أو الكمساري أن هذا الشخص يقصد الكلاكلة اللفة وبناء عليه يقرر أن يقف أو لا يقف. أبوحمامة حتى المحطات التي يخيل إليك أنها تستعصي على لغة الإشارة أبدع لها هؤلاء حركة معينة تدل عليها ويفهم الجميع أنها المقصودة لا غيرها. أكثر المحطات حضوراً في ذهني هي محطة أبوحمامة في الخرطوم، كنت أعتقد أنها محطة من الصعب ترجمتها إلى لغة الإشارة، ولكن كذب ظني عندما رأيت صبياً يقود عربة (هايس) وهو يلوح بكفتا يديه إلى مجموعة من المواطنين المنتظرين على الرصيف في حركة تشبه خفقان الأجنحة، عندها عرفت فوراً وعرف المنتظرون على الرصيف أن الهايس وجهتها أبوحمامة. لا أحد يستطيع بالطبع أن يحدد أو يجزم على وجه الدقة من الذي ألهم الآخر هذه اللغة؟.هل أخذها السائق والكمساري من الركاب أم أن العكس هو الصحيح، أم أنها جماع اجتهادات الطرفين. حتى الحافلة الحافلة ذاتها يتم استخدامها في لغة الإشارة هذه وكأنها ترفض أن تكون وحدها الكلمة الشاذة، فإذا ما حرّك السائق (المنشات) يمنة ويسرة للوافقين على المحطة فهذا يعني أنه يعتذر بلطف عن التوقف، والعكس إذا ما أومض بالمصابيح الأمامية فهذا يدل على أنه (يستجدي) الركاب." البعض يقول إن لغة الإشارة في المواصلات أفضل كثيراً من لغة الكلام العادية، لأن الأخيرة تتسبب أحياناً في بعض المآزق وتوقع الراكب والكمساري في حرج " البعض يقول إن لغة الإشارة في المواصلات أفضل كثيراً من لغة الكلام العادية، لأن الأخيرة تتسبب أحياناً في بعض المآزق وتوقع الراكب والكمساري في حرج يكون مصدره الأساس أن أسماء بعض المحطات يمكن أن تكون غير لائقة إذا ما كان الطرف الآخر (يتحسس) ويفهم الكلمات خارج سياقها. بل إن استخدام الكلام العادي مظنة أن (يورّط) الكمساري في مشكلة مع أي راكب سهل الاستثارة والاستفزاز. فمن المعلوم أن بعض الكماسرة درج على مناداة الراكب باسم المحطة التي يريد أن يتوقف عندها، فمثلاً إذا قلت للكمساري (يا اخي نزلني في المنطقة الصناعية) فإن الحافلة ما أن تتوقف حتى يناديك الكمساري وهو يحثك على السرعة في النزول (يلا يالمنطقة حرّك شوية)، أو يقول (يلا يالجامعة بي سرعة) لمن كانت محطته المقصودة هي الجامعة. طرائف وتحكي الطرفة أن بعضهم كان يريد النزول عند محطة اللستك في الطريق نحو الدروشاب أو السامراب، فتوقفت الحافلة وأخذ الكمساري ينادي على الراكب (يلا يا اللستك) وعندها ثارت ثورة الراكب وكاد يشتبك مع الكمساري بسبب مناداته له ب(اللستك)، ولكن الموقف إنجلى عن تسوية سريعة بسبب سوء الفهم. وفي حكم الوارد إذا استخدم الكمساري لغة الكلام العادية وأهمل لغة الإشارة أن تحدث مشكلة أكبر مما حدث للنازل في محطة اللستك. فإذا ما نادى الكمساري على راكب (حمش) يريد النزول في محطة الماسورة بالقول (يلا يالماسورة تحرّك شوية)، فإنه لا أحد يستطيع أن يتنبأ بردة الفعل الذي ستحدث. عموماً فإن ما يحدث في مواصلاتنا العامة من سلوكيات تحتاج إلى وقفة ودراسة لأنها فيها الكثير من الدلالات التي تشكل مفتاحاً لفهم الشخصية السودانية وطريقة تفكيرها، وأظن دون مغالاة أن السودانيين هم أكثر الشعوب استخداماً للغة الإشارة في المواصلات العامة.