إن كانت أغاني الحقيبة قد شهدت بدايتها الحقيقية على يد محمد أحمد سرور كما يرى البعض، فإن دخول (العربية) إلى الأغنيات السودانية في العصر الحديث ربما شهد بدوره بدايته الحقيقية على يد ذات الرجل. عندما غنى في عشرينيات القرن الماضي قصيدة العبادي: (يا السايق الفيات عج بي وأخد سندة.. بالدرب التحت تجاه ربوع هندة)، وغناها بعده كثيرون، أبرزهم علي إبراهيم اللحو. دخول العربات إلى الغناء السوداني الحديث من أوسع أبوابه لم يتم على يد سرور وحده، فسرعان ما انتقلت العربات وسيرتها إلى ألسنة غيره من فناني الحقيبة وعباقرتها، مثلما حدث عندما غنى رائد آخر هو زنقار أغنية شديدة الخفة: (دودو بي اللوري دودو بي). لوري زنقار ودخول (العربية) أغاني البنات (العربية) مع زنقار، لم تدخل إلى الحقيبة فحسب، بل يمكن القول إنها دخلت إلى ضرب واسع الانتشار من الغناء، هو أغنيات البنات، فبعد زنقار، واشتهار أغنية اللوري على لسانه، كثرت العربات في الأغنيات الخفيفة، التي عرفت باسم (الكسرة)، واسم أغاني البنات." القندراني، واللوري، والفيات، والهنتر، وغيرها من العربات دخلت في أغاني مطلع القرن الماضي، لأن السيارة كانت ضيفاً جديداً على شوارع الخرطوم " يقال إن العربات كثرت في الأغنيات منذ الخمسينيات، التي شهدت دخول الهنتر إلى شوارع الخرطوم شبه الخالية حينها من السيارات مقارنة بأيامنا هذه، وقبله دخل القندراني إلى السودان، وإلى أغانيه أيضاً، والأغاني الخفيفة بالتحديد، وترددت أغنية (كده كده يا الترلة القاطرة قندراني). وجود القندراني، واللوري، والفيات، والهنتر، وغيرها من العربات في أغاني ذلك العصر، طبيعي بالنسبة لكثيرين، فالسيارة في مطلع القرن الماضي، وطيلة نصفه الأول، كانت ضيفاً جديداً على شوارع الخرطوم، رغم أنها دخلت السودان منذ مطلع القرن العشرين عندما ركبها حكامه من الإنجليز، ويرد في الروايات، أن عدد السيارات بالخرطوم في مطلع العشرينيات كان محدوداً للغاية، ويمتلكها عادة كبار رجال الإدارة الاستعمارية. دخول (العربية) إلى الأغنيات إذاً، خلال ذلك العهد، كان جزءاً من تفاعل السودانيين مع واقعهم الحضاري الجديد، وانفتاحهم على طرق الحياة العصرية آنذاك، فدخلت السيارات الكبيرة والصغيرة إلى الغناء، مثلما دخلت الكثير من الأدوات الجديدة والمدهشة إلى تراث العالم الثقافي عبر العصور. العربات وأدب الأسفار والرحلات بعد الشقة بين أرجاء السودان، واتساع نواحيه، وترامي أطرافه وقراه ومدنه، وبعدها عن بعضها البعض، سبب آخر محتمل لدخول العربات بمختلف ماركاتها إلى الغناء، في إطار الارتحال والسفر، وتقول الأغنية التراثية الكردفانية (اللوري حلا بي دلاني أنا في الودي). اللوري، ليس وسيلة النقل الوحيدة التي دخلت إلى الأغنيات وقلوب مستمعيها، فهناك وسيلة نقل مغايرة، شقت طريقها كذلك إلى ألسنة الشعراء والعشاق الملتاعين لفراق الأحبة، ودخلت إلى الأغنيات الرصينة أو الخفيفة على حد سواء، وهي القطار، وما أدراك ما القطار في الشعر والغناء السوداني الحديث، وفيه قيل الرصين من قبيل: (القطار المرَّه) عند عثمان الشفيع، (ومن بف نفسك يا القطار) عند زنقار، والخفيف من قبيل: (القطر الشالك انتا... يتسكر حتة حتة). القطار، واللوري، وكل وسائل النقل التي دخلت الغناء السوداني على هامش تنقل الشعراء ورحلاتهم، ليست غريبة عن طبائع الشعراء والمغنيين الذين تعلقوا منذ القدم بالأسفار ووسائل النقل، وذكروا في أشعارهم وأغنياتهم الخيول، والجمال، والسفن، وأخيراً تغنى هؤلاء باللواري والقطارات. العربات، واللواري، لم تدخل الغناء من أبواب الحب والغزل والشوق وحدها، بل دخلته من أبواب أخرى، باعتبارها من لوازم الحياة اليومية، كباب المدح على سبيل المثال في قول المغني: (عجبوني أولاد الأهالي.. عجبوني وسروا بالي.. ترسوا البحر بالطواري.. ما شالونا باللواري). (سيد العربية) شغف الغناء ب(العربية)، لا يكاد يخفي شغف الفتيات بسائقها، أي صاحبها، ف(العربية) دخلت إلى الأغنيات السودانية، خاصة أغاني البنات خلال العقود الأخيرة، من باب الشوق والغزل، غزل يوجه مباشرة إلى سائقها، الذي هو مالكها بطبيعة الحال، بما لملكية (العربية) من دلالة اجتماعية على المكانة والثراء، ومن جاذبية في عيون النساء والفتيات. " "السايق الفيات" كتبت عقب رحلة للعبادي داخل الفيات مع مجموعة من أصدقائه وتحول ذاك (السايق الفيات) لاحقاً إلى عريس (لقطة) في أغاني البنات، والأغنيات الخفيفة " (السايق الفيات) تغنى بها العبادي وسرور كجزء من أدب الاخوانيات، والرحلات، إذ تتواتر الروايات بأن الأغنية كتبت عقب رحلة للعبادي داخل الفيات مع مجموعة من أصدقائه، وتحول ذاك (السايق الفيات) لاحقاً إلى عريس (لقطة) في أغاني البنات، والأغنيات الخفيفة. العريس الثري الوجيه غنى له ضمناً حسن عطية: (يا سيد العربية)، وغنت له الكثير من البنات في مختلف أنحاء السودان وعبر مختلف الأزمنة: (يا السايق التايوتا ولابس السكروتا)، و(الكريسيدا السمحة وسمح سيدا)، و(تعال لي ضروري.. تعال بالباجوري). طموحات البنات المضمرة وأحلامهن بالحياة الثرية لم تقتصر على التغني بسيد العربية، أو العربية نفسها، بل تعدت التغني بالعربية وصاحبها إلى مخاطبته على نحو صريح، والكشف عما وراء ذلك الشغف الشديد بالعربات وسائقيها في أغنيات البنات، وتقول إحداها: (سجل لي عرباتك..). الأغنيات، أصبحت سجلاً صوتياً حياً لماركات العربات التي شقت طريقها ذات يوم في شوارع الخرطوم وغيرها من المدن والبلدات، فسجلت تلك الأغاني الفيات، واللوري الفورد، والقندراني، والترلة، والهنتر قديماً، وسجلت التايوتا والكريسيدا واللادا والبوكس وغيرها لاحقاً، لتعود على هذه الأيام وتدون في ذاك (الكتلوج) الغنائي ماركات من قبيل اللكزس، والمارسيدس، والفي إكس آر، والباجيرو، والكامري وانتهاءً بالهمر الأميركي. وفي سياق مختلف، لكنه متصل، لم يقتصر وجود العربات في التراث الشعبي على الغناء الرصين أو الخفيف وحده، بل انتقلت (العربية) إلى المديح، وإن كان ذاك الانتقال في سياق أدب الرحلات والأسفار الصوفية، كما هو الحال في قصيدة (البوكس) الصوفية الشهيرة. غناء المراكب والمراكبية السائقون أنفسهم، ولو كانوا لا يمتلكون العربات التي يقودونها بالضرورة، إلا أنهم وجدوا نصيبهم من الأغنيات الخفيفة التي تخاطبهم مباشرة بمختلف الصيغ: (سواقنا)، و(يا السواق)، وتجد جماعات منهم متعة فائقة الخصوصية في الترنم بأغنيات العربات. حتى المراكب، باعتبارها وسائل نقل، لم يخل الغناء السوداني منها ومن المراكبية في إطار أوسع من التنقل والترحال، فالمراكب ترتبط بالنهر والارتحال وبالليل أحياناً، وهي عوالم شعرية وغنائية بامتياز، وها هو مصطفي سيد أحمد يغني: (وأنا راكب يا مراكب)، و(يا المراكبية البتبجد.. من فك الموج الغريق)، وها هو النور الجيلاني يغني: (يا ريس المركب.. ما تخلي الشباب يركب.. أصلو المكان أرحب يا ريس). جدير بالذكر هنا، أن التغني بالمراكب والمراكبية، كثير في جنوب مصر، وكتب فيه عبد الرحمن الأبنودي وغيره، وغناه محمد منير وآخرين. (العربية) وأخواتها لا يخلو الغناء البشري عامة – والسوداني على وجه الخصوص- من تفاصيل الحياة اليومية وأدواتها ووسائلها التي تصبح عند الشعراء والمغنيين أكثر من مجرد أداة أو وسيلة، وإن كانت (العربية) قد دخلت التراث الغنائي السوداني باعتبارها ابنة واقع اجتماعي وثقافي وتكنولوجي معين، فإن العديد من تفاصيل العصر دخلت بدورها إلى الغناء، كالعمارة، والكبري، والتلفون، والأنترنت، والطائرة، وحتى القنبلة، والكلاشنكوف (الكلاش). دخول (العربية) إلى الغناء على يد العبادي إذاً، كان من باب الاخوانيات وأدب السفر الذي يخالطه الغزل سيراً على عادة كبار شعراء التراث العربي في البوح بالشوق إلى المحبوب في حضرة الاخوان وأثناء الرحلات والأسفار، فأغنية (يا السايق الفيات) تبدأ فيما يروى بذكر طريق ربوع هندة، ثم تتغنى بالطبيعة وحكمة الخلق، وتمدح الرفيق، حتى يقول فيها العبادي: (أنزل يا صديقي وشوف يد القدرة.. وشوف حسن البداوة الما لمس بدرة)، وفي رواية أخرى يقول الشاعر عوضاً عن يا صديقي: (أنزل يا سرور)، وورد أن سرور كان هو (السايق الفيات) بين سنار وسنجة. الشغف بالعربات اللافت في الأمر، أن شغف الأغنيات عامة، وأغاني البنات تحديداً ب(العربية) لم يخفت منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى أيامنا هذه في القرن العشرين، واللافت كذلك، أن الشغف بالعربات يتجاوز الغناء إلى الحياة اليومية، ويتقاسمه الرجال مع النساء، والصغار مع الكبار، ويعني البعض بحفظ ماركات العربات، ويمتلكون قدرة فائقة تميز بين الطراز والآخر، والموديل وسابقه." الغناء للعربات وأصحابها لم يقتصر على المدح والمناداة فقط، بل فيه الهجاء كذلك، وتقول الأغنية الخفيفة: (الكندة الشينة حلت بينا.. بين جبل أولياء والقطينة) " واللافت أيضاً، أن الغناء للعربات وأصحابها لم يقتصر على المدح والمناداة فقط، بل فيه الهجاء كذلك، وتقول الأغنية الخفيفة: (الكندة الشينة حلت بينا.. بين جبل أولياء والقطينة)، والكندة ماركة سيارات عرفت في الخرطوم بعد منتصف القرن الماضي. حتى (البوري)، وغيره من متعلقات العربات، كالزجاج، والإطارات، وجد طريقه إلى الأغنيات، في سياقات لا تختلف كثيراً في العادة عن سياق التغني بالعربات نفسها. لماذا كثرت العربات من كل طراز وماركة في الغناء السوداني، خاصة أغاني البنات؟، ولماذا بقيت (العربية) النجمة الأولى في أغاني البنات منذ (اللوري دودو بي) وحتى (سمحة العربية وسمح سيدا)..؟ من العربات ما دخل الغناء لأسباب ربما توصف بالموضوعية، كما حدث مع الفيات التي كان الشاعر والمغني على متنها، أو الهنتر التي يقال إن جهاز الأمن في عهد نميري كان يكثر من استخدامها، فقيل لقائدها في الأغنية: (راكب هنتر وعامل عنتر).. في المقابل، دخلت عربات أخرى لأسباب ربما توصف بالذاتية، كالطموحات، والأحلام النسائية والظروف الاجتماعية العامة. لا شك أن حب السودانيين للحياة، وأشواقهم الحضارية الدفينة، وقوة تفاعلهم مع مفردات حياتهم اليومية، ضمن الأسباب التي دفعت بالعربات إلى واجهات الأغنيات الخفيفة، وحتى الرصينة، ويبدو أن غناء النساء ل(العديل والزين) لا يعني فقط الرجل في شخصه، ومكارمه وخلقه وهمته ورجاحة عقله، لكنه يتعداه أحياناً إلى ثروته، وماركة عربته..!