الأزمة الاقتصادية الخانقة التي أطبقت على مفاصل الحياة المعيشية، أدخلت البلاد والعباد نفقاً مظلماً لا يلوح في آخره نورٌ، وأعادت إلى الأذهان سنوات التسعينيات العجاف. صناع القرار اتخذوا جملة من التدابير الآنية والاستراتيجية على المستوى الاتحادي في مواجهة غول الغلاء الفاحش الذي التهم في وقت وجيز كل موارد وأحلام السواد الأعظم للعمال والمزارعين وصغار الموظفين والبسطاء من العامة الذين يكسبون قوتَ يومهم من المهن الحرة والهامشية. جشع التجار وما بين عشية وضحاها، انقلب الحال بخروج موارد النفط من الميزانية دون استئذان وخسارة الجنيه السوداني لمعركته أمام الدولار بالضربة القاضية الفنية فيما قفز معدّل التضخم درجات. ؛؛؛ منافذ البيع قد تكون من أفضل الحلول لتوفير السلع بأسعار مناسبة للشرائح الاجتماعية الضعيفة، ولكنها قد تكون مدخلاً للثراء الحرام ؛؛؛ الجميع تسارع ليس للبحث عن عصا موسى بل لإخضاع الاقتصاد إلى إسعافات أولية سريعة ومباشرة وكبح جماح التدهور والانزلاق نحو القاع. وبالطبع فإن عودة العافية تحتاج إلى سنوات من صبر قد لا يحتمله الضعفاء. لقد تم رفع الدعم الجزئي عن المحروقات وزيادة تعرفة الموصلات قبل إنفاذ زيادة الأجور والمعالجات الاقتصادية والتي كانت سوف تخفف من وطأة المصيبة التي أفقدت البعض صوابه. وفي ظل هذه الظروف تتفاقم معاناة مواطني ولاية الخرطوم ذات الكثافة السكانية العالية بمتوالية هندسية تفوق قدرة الاحتمال بسبب عامل إضافي (جشع التجار) الذين يسعى الكثير منهم إلى جني أرباح باهظة، مستفيدين من التحرير، حيث تتباين أسعار السلع من كنتين لآخر ومن مول لمول بصورة تدعو للدهشة. وإذا سألت عن السبب سوف تسمع العجب، والرد واحد: (ده السعر البيناسبنا وإذا ما عجبك أشرب من البحر)، وبالطبع ليس أمام المستهلك إلا الإذعان لتوفير ضروريات المائدة اليومية والجوع كافر خاصة حينما يتعلَّق بالأطفال. منافذ البيع سلاح ذو حدين سياسات حكومة ولاية الخرطوم في مجال تركيز الأسعار عبر منافذ البيع الثابتة والمتحركة، الفكرة تبدو عملية وسبق وأن طبقتها الخرطوم في الثمانينيات من خلال شركة الرواسي التي كانت معنية بتوفر اللحوم بأسعار مخفضة لمواجهة جشع الجزارين آنذاك، لكنها فشلت لأسباب متعددة وأغلقت أبوابها وظلت بعض مبانيها قائمة حتى وقت قريب. ومنافذ البيع هذه قد تكون من أفضل الحلول لتوفير السلع بأسعار مناسبة للشرائح الاجتماعية الضعيفة، ولكنها قد تكون مدخلاً للثراء الحرام في حال تسرب تلك السلع والمواد التموينية إلى السوق الموازي. وخير مثال على ذلك النشاط الطفيلي والتسريب الذي صاحب تجربة توزيع السكر التي اتبعتها الولاية والسبب يعود صعوبة إحكام السيطرة على تلك المنافذ والذي يحتاج تأسيس آليات للرقابة وحماية حق المستهلك في الحصول على السلع ومكافحة السوق السوداء. أصول الجمعيات التعاونية الأزمة الاقتصادية نفضت الغبار عن الجمعيات التعاونية وأعادتها إلى الواجهة الاجتماعية والاقتصادية كأحد خيارات الضبط وتوفير السلع للمواطنين عبر البطاقة التموينية والحركة التعاونية العالمية التي يعتبر روبرت أوين الأب الحقيقي لها، مهدت إلى ظهور أول نموذج تعاوني ناجح عام 1844 في روتشديل بإنجلترا بمبادرة عمالية، ثم كان ظهور التعاون الاستهلاكي. ؛؛؛ الجميع تسارع لإخضاع الاقتصاد إلى إسعافات أولية وكبح جماح التدهور والانزلاق نحو القاع، ولكن عودة العافية تحتاج لسنوات من صبر قد لا يحتمله الضعفاء ؛؛؛ والسودان عرف التعاون منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث أسس المواطنون مئات الجمعيات، ولا يكاد يخلو حيٌّ في الخرطوم من وجود تعاون. وارتبط ازدهار الاتحاد التعاوني السوداني في توزيع سلعة السكر ثم الخبز في الثمانينيات حينما ضرب الجفاف والتصحر البلاد. ولعل اختزال مهمة الجمعيات التعاونية في توفير سلعة واحدة من أكبر الأخطاء التي أسهمت في انصراف الناس عنه بانتهاء أزمة السكر والرغيف. الاتجاه الذي تبلور أخراً لإعادة إحياء التعاونيات يفرز عدة استفهامات تدور في أذهان المواطنين حول اشتراكات الأعضاء وأصول الجمعيات التعاونية السابقة التي كانت قائمة في الماضي أين ذهبت؟ وكيفية معالجة تلك الإشكاليات. العلاج بالكي ويتفق معظم المواطنين بأن التعاون هو الحل الأمثل لتخفيف أعباء الضائقة المعيشية التي طالت كلَّ مناحي الحياة، وأصبحت حديث المجالس ودكان التعاون ليس مجرد مكان لتوزيع السلع بل مؤسسة اجتماعية يلتقي عندها سكان الحي ويتفقدون بعضم بعضاً. ؛؛؛ العلاج الحقيقي في (كي) جذور الأزمة الاقتصادية وإعادة تدوير عجلة الإنتاج وتنمية الموارد الزراعية والحيوانية واستكشاف المزيد من المعادن والنفط وتطوير الصناعة المحلية ؛؛؛ ومن التعاون خرجت الكثير من المبادرات الاجتماعية الأخرى وبعض الجمعيات التعاونية في الماضي أنجزت الكثير من المشاريع من عائد الأرباح. والحركة التعاونية السودانية والتي ظلت في حالة ثبات عميق لسنوات طويلة تحتاج إعادة بناء كوادرها وهياكلها بتضافر الجهد الشعبي والرسمي لتنهض من جديد وتؤدي الدور المطلوب منها بكفاءة وتتجاوز وضعها الحالي إلى آفاق أهدافها الأساسية وترتاد مجالات أخرى خارج إطار النمطية. الأزمة الاقتصادية لم تطال الزيت والخبز واللحم فقط، ولكن آثارها انعكست على روشة الدواء الذي ارتفع سعره بنسبة كبيرة وقطع الغيار، وكل هذه الجوانب تحتاج إلى معالجات لامتصاص أكبر قدر من الآثار السالبة. التعاطي مع الأزمة الاقتصادية يتطلب قدراً عالياً من الشعور الوطني والمسؤولية الأخلاقية تجاه أنفسنا أولاً والآخرين وما من شاهد منطقي على ثراء البعض في زمن المسغبة أبلغ من هذه الأبراج الخرسانية التي تعلن عن نفسها هنا وهناك، وتتطاول كل يوم في مشهد يتناقض مع واقع الراهن الاقتصادي المأزوم. وكل تلك الجهود والمعالجات تبقى مجرّد مسكنات للوجع حتى وإن لامست النجاح والعلاج الحقيقي في (كي) جذور الأزمة الاقتصادية وإعادة تدوير عجلة الإنتاج وتنمية الموارد الزراعية والحيوانية واستكشاف المزيد من المعادن والنفط وتطوير الصناعة المحلية وإلى أن يستعيد الاقتصاد السوداني.