يظل الاحتفاظ بالقيم والموروثات النبيلة سمة من سمات القبائل السودانية التي تتنافس على توثيق ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها وخاصة قيم التراث ويلعب دوراً بارزاً في حياة الأمم والشعوب.. كيف لا وهو قلب الأمة النابض ووجدانها المشع بالحضارة. يعد "دق النحاس" المستخدم في إشعال جذوة الحماس في الحروب، والمناسبات الاجتماعية، من أروع صوّر الموروث الشعبي في السودان. وتحتضن منطقة "الكتياب" بولاية نهر النيل التي تقطنها قبيلة الحسناب إرثاً ضارباً في القدم يرتبط بدولة المهدية. وجاء "نحاس الحسناب" من وحي حياة القبيلة المتسامحة مع ذاتها وغيرها ليضيف بعداً تاريخياً عميقاً للمنطقة، فنحاس القبيلة الذي يعود إلى عهد الأمير محمد صالح الحسنابي يقول أهل المنطقة إنه دفن قبل موته خوفاً من أن تطاله يد المستعمر، فحفظ النحاس عبر السنين وخرج ليحكي قصته. قصة الاختفاء يؤكد شيوخ القرية أن كبيرهم الشيخ محمد صالح الحسنابي وبعد عودته من المعارك مع المستعمر كان يحرص كثيراً على حفظ "النحاس" حتى لا يقع في أيدي المستعمر الدخيل الذي كان يود إنهاء أي موروث له علاقة بالثورة المهدية فقام الشيخ بدفنه في مكان لم يخبر به أحداً. ويعتبر النحاس حسبما يرى أهل المنطقة من أعرق ما وجد في المنطقة ويتكون من (6) قطع تعود للأعوم 1850- 1330م وتم لاحقاً جمعه في موقعة أبوطليح الشهيرة لتوجيه النداء لأهل المنطقة استعداداً للحرب وتم استخدامه أيضاً بمعركة النخيلة. ومن أهم مميزات النحاس، وهو آلة إيقاعية كبيرة تتكون من عدة قطع، أنه عند الضرب عليه يشكل دافعاً قوياً لمعاني الاستنفار. ثلاثة رمزيات " النحاس سواء كان عند الحسناب أو الكتياب يرتبط بكبير الأحداث، وعند ضربه يجتمع كل الناس رجالاً ونساء وصغاراً وشباباً من كل حدب وصوب ويتدافع الفرسان والشعراء "وتتجسد رمزيات القبيلة في ثلاثية تجمع السيف والحصان والنحاس، عند قدوم أي مناسبة تختص بالأفراح وإكرام الضيوف وعندها يكون النحاس في مقدمة المستقبلين ليس بنغمة واحدة وإنما بأصوات متعددة. ويرتبط النحاس، سواء كان عند الحسناب أو الكتياب، بكبير الأحداث، وعند ضربه يجتمع كل الناس رجالاً ونساء وصغاراً وشباباً من كل حدب وصوب ويتدافع الفرسان والشعراء ويستفز شعور القوة الذي يحفزه صوت النحاس ذاكرة الشعر عندهم، فكل ضربة من النحاس هي استرجاع لسيرة حدث أو شيخ أو بطل أو رجل كريم. وتحيط بأجواء النحاس مظاهر أخرى من وحي المكان وحتى الصغير عندما يعتلي جواده لا يخالط يقينه شك بأن إحساسه بصوت النحاس يمنحه صفة الفارس، لذلك تراه مملتئاً بالثقة ولا يخشى المنازلة والمنافسة في سباق الخيل. وفي منطقة الحسناب عندما يحل ضيف أو شخص عزيز عليهم يخبرونه بقصصهم في ضرب النحاس ويبتسم لك الحظ عندما تكون حاضراً وترى النحاس يضرب لضيف قادم.