في منتصف شهر أكتوبر من العام الماضي، كان رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريام ديسالين يرد على أسئلة واستفسارات نواب البرلمان الإثيوبي على خطاب الدولة الذي قدمه الرئيس الإثيوبي أمام الجلسة المشتركة للبرلمان والمجلس الفيدرالي الإثيوبي. ورغم إن إثيوبيا ليست من الدول ذات الصلة المباشرة بقضية محكمة الجنايات الدولية، إلا إنها أخذت حظها من استفسارات النواب وردود رئيس الوزراء الإثيوبي، ولم يجد ديسالين أي حرج في مهاجمة محكمة الجنايات الدولية وبعنف. ديسالين قال إن 99٪ من التهم التي وجّهتها المحكمة الجنائية كانت تجاه الأفارقة، متسائلاً "كيف إذاً تكون المحكمة مؤهلة في الحفاظ على حقوق الإنسان؟". وأضاف ديسالين "يجب على المحكمة ألا تصوب تهمها نحو الأفارقة وحدهم"، ونبه ديسالين النواب -وهم يعلمون- أن المحكمة الجنائية لم تنضم إليها العديد من الدول منها أميركا وروسيا وحتى إثيوبيا. وأضاف أن "محكمة الجنايات الدولية في الوقت الذي تنادي فيه بمحاسبة مرتكبي جرائم حقوق الإنسان تتخفى تحت ستار قيم العدالة". باب بديل لم يوصد ديسالين باب المحاسبة على ارتكاب الجرائم بصورة مطلقة، ولكنه أشار إلى أن "الاتحاد الأفريقي له قانون قوي للحفاظ على حقوق الإنسان والانتهاكات ولديه صلاحيات للتدخل في الدول الأفريقية من أجل تحقيق العدالة بموجب القانون". وفي هذا السياق، وصف ديسالين مثول الرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، أمام المحكمة الجنائية الدولية بأنه ذهب إلى المحكمة بعد أن فوّض نائبه لينوب عنه في جميع الصلاحيات، وعندما مثل الرئيس الكيني أمام المحكمة مثل باعتباره مواطناً كينياً؛ وأراد بذلك إرسال رسالة واضحة للمحكمة الجنائية. هذا الموقف الإثيوبي الواضح والقوي من المحكمة الجنائية الدولية كان سابقاً من حيث التاريخ لتقرير مدعية المحكمة والتي أعادت الملف إلى مجلس الأمن وطلبت منه بلغة ايحائية ولكنها ملحة بالضغط على السودان من أجل تسليم المطلوبين لدى محكمة الجنايات الدولية وعلى رأسهم الرئيس عمر البشير. تذكرة سفر " بعد إعادة ملف الجنائية إلى مجلس الأمن أصبح الفضاءان المتاحان أمام السودان لمعالجة الملف هما الفضاء العربي، والفضاء الأفريقي، وهما الإطاران اللذان تتوافر فيهما الفرص لمؤازرة موقف السودان من الجنائية، خاصة وأنه موقف يتسق بصورة عامة من موقف العرب والأفارقة " تصريحات ديسالين التي تلخص موقف بلاده من الجنائية تعتبر تذكرة سفر للدبلوماسية السودانية للطواف على العواصم الأفريقية وحشد إجماع أفريقي جديد ضد المحكمة الجنائية. وتبدو حاجة السودان ماسة إلى هذا الإجماع الأفريقي، نظراً إلى أنه وبعد أن أعيد ملف الجنائية إلى مجلس الأمن، فإن المعركة القادمة ستكون دبلوماسية أكثر منها قانونية. بعد إعادة ملف الجنائية إلى مجلس الأمن أصبح الفضاءان المتاحان أمام السودان لمعالجة ملف الجنائية هما الفضاء العربي، والفضاء الأفريقي، وهما الإطاران اللذان تتوافر فيهما الفرص لمؤازرة موقف السودان من الجنائية، خاصة وأنه موقف يتسق بصورة عامة من موقف العرب والأفارقة. فالدول العربية باستثناء الأردن وتونس وجيبوتي، كلها لا تؤيد منح ولاية للمحكمة، كما أن الموقف العربي الرسمي والشعبي أصيب بخيبة أمل بالغة من المحكمة الجنائية الدولية بسبب عجزها عن محاكمة القادة الإسرائيليين على ما اقترفوه من جرائم في عدوانهم على قطاع غزة أكثر من مرة، فضلاً عن عدم قدرة المحكمة على النظر في الانتهاكات الجسيمة التي قامت بها القوات الأميركية في العراق بدءاً من احتلاله في العام 2003. الإطار الأفريقي ويبدو الإطار الأفريقي أكثر مؤاتاة بعد أن مهَّدت إثيوبيا الطريق للمرة الثانية أمام السودان ودعت القادة الأفارقة إلى الانسحاب الجماعي من الجنائية. وقال ديسالين عقب لقائه وزير الدولة بوزارة الإعلام ياسر يوسف، إنه يؤيد موقف السودان ويسانده. ومن الواضح أن إثيوبيا ستكون ظهيراً للسودان خلال قمة الاتحاد الأفريقي المقرر أن تنعقد الشهر الحالي بأديس وستبحث بصورة أساسية موضوع المحكمة الجنائية الدولية. لكن ما يجب على الحكومة السودانية فعله هو ضرورة التحرك العاجل والسريع قبل وأثناء قمة الاتحاد الأفريقي رغم ضيق الوقت لشرح الموقف الرسمي للسودان وإضفاء الطابع القاري عليه أثناء القمة. وكانت وزارة الخارجية أصدرت بياناً الشهر الحالي طالبت فيه مجلس الأمن بإلغاء قراره 1953 القاضي بإحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وأكد البيان أن القرار يناقض بوضوح أحكام اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969. إعادة النظر " إثيوبيا عززت المقولة الرائجة التي تصف المحكمة بأنها أقيمت لمحاكمة السياسيين الأفارقة، إذ إن خمس حالات كانت تحقق فيها المحكمة كانت أفريقية، واحدة تتعلق بجمهورية الكونغو الديمقراطية، وأخرى شمال يوغندا، وثالثة بجمهورية أفريقيا الوسطى، ورابعة بكينيا إلى جانب دارفور " وطالب البيان مجلس الأمن بأن "يعيد النظر في القرار 1593 دعماً لمجهودات السلام والتنمية التي بدأت تؤتي ثمارها في دارفور". وأوضحت الخارجية في بيانها أن السودان "يتمسك بموقفه القانوني السليم من حيث عدم انعقاد أي اختصاص للمحكمة الجنائية الدولية على السودان بحسبانه ليس طرفاً في نظامها الأساسي. ولأن البيانات الدبلوماسية تتم ترجمتها في الغالب إلى مواقف وتحركات، فإن التحرك في الفضاءين الأفريقي والعربي يمهد بصورة طبيعية ومنطقية لطلب الفيتو الروسي الصيني داخل مجلس الأمن. فإثيوبيا نفسها عززت المقولة الرائجة التي تصف المحكمة بأنها أقيمت لمحاكمة السياسيين الأفارقة، إذ إن خمس حالات كانت تحقق فيها المحكمة كانت أفريقية، واحدة تتعلق بجمهورية الكونغو الديمقراطية، وأخرى شمال يوغندا، وثالثة بجمهورية أفريقيا الوسطى، ورابعة بكينيا إلى جانب دارفور. وقد أحيلت ثلاث من هذه الحالات من قبل الدول نفسها، وفي حالة كينيا قام بفتح البلاغات المدعي العام للمحكمة الجنائية استناداً إلى معلومات حول جرائم تدخل في اختصاص المحكمة. الإطار العربي ولكن رغم هذه المقولة الرائجة أفريقياً، فالمنطقة العربية هي أقل المناطق تمثيلاً في المحكمة، حيث إن ثلاث دول فقط هي أطراف في نظام روما الأساسي هي الأردن وجيبوتي وجزر القمر. ويؤخذ على المحكمة –عربياً- أنها لم تنظر في الانتهاكات التي حدثت في غزة بعد أن أصدرت اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق تقريرها المكون من 254 صفحة والذي يدعو إلى إحالة الجرائم في غزة إلى محكمة الجنايات الدولية. ويؤخذ –أيضاً- على المحكمة أنها لم تر في أحداث العراق بدءاً من احتلاله ما يرقى لمستوى المحاكمة، إذ قال مكتب المدعي العام إن التطورات في العراق لا تستوفي المطلوبات القانونية لبدء تحقيقات رسمية. وقال إنه ليس لديه اختصاص فيما يقوم به فاعلون غير أطراف: (الولاياتالمتحدة، العراق)، حيث إن دولهم ليست طرفاً في نظام روما الأساسي. الدول الأطراف " رغم إن ما قاله المندوب الأردني قد يعبر عن سياسة الأردن تجاه المحكمة، خاصة وأن الأردن من الدول العربية التي تعترف بسلطة المحكمة وولايتها، لكن موقف المندوب لا يعبر عن الرؤية العربية بشأن المحكمة " وذكر أن المحكمة نظرت في تصرفات الدول الأطراف بالمحكمة الجنائية مثل المملكة المتحدة وكندا ودول أخرى، ورأت أن تصرفات منسوبيها لا ترقى إلى المستوى الذي يستدعي إجراء تحقيقات. وحث الدول العربية على دعم موقف السودان أمام المحكمة الجنائية الدولية، إذ تتبدى أهميته القصوى والعاجلة من خلال تداعيات البيان الذي ألقاه مندوب الأردن في مجلس الأمن ممثلاً للمجموعة العربية والذي دعا فيه السودان إلى التعاون مع محكمة الجنايات الدولية. فرغم إن ما قاله المندوب الأردني قد يعبر عن سياسة الأردن تجاه المحكمة، خاصة وأن الأردن من الدول العربية التي تعترف بسلطة المحكمة وولايتها، لكن موقف المندوب لا يعبر عن الرؤية العربية بشأن المحكمة. ومن هنا تنبع أهمية التحرك الدبلوماسي العاجل للحكومة السودانية، وعدم الاكتفاء باستدعاء السفير الأردني بالخرطوم والاطمئنان إلى التبريرات التي قدمها والتي لا تتعدى تطييب الخواطر والتواؤم مع مقتضيات العرف واللياقة الدبلوماسية.