ما كان بمقدور أكثر (سيناريست) احترافاً، أن يتخيل المشهد الأخير والتداعي المفاجئ، الذي انتهت إليه (الجبهة الثورية)، التنظيم المسلح الذي يعارض الحكومة السودانية ويقاتلها على ثلاث جبهات استراتيجية. فالعالمون ببواطن الأمور كانوا يدركون أن الخلافات بين الفصائل الدارفورية والحركة الشعبية – شمال- قديمة، ومتجذرة، لكنها سريعاً ما كانت تطوى ويظهر القادة الخمسة (مالك عقار وياسر عرمان ومني أركو مناوي، وعبدالواحد نور، وجبريل إبراهيم) في كامل حللهم الأنيقة تسبقهم ابتسامات ذات مغزى، لتخرج بعدها كلمات موجهة فقط باتجاه النظام الحاكم كموقف موحد متفق عليه. الأزمة نشبت بقوة منذ عدة أشهر بين فصائل (الجبهة الثورية) المؤلفة من حركات دارفور الثلاث بجانب الحركة الشعبية، علاوة على تمثيل رمزي لكل من نصر الدين المهدي عن حزب الأمة والتوم هجو عن الاتحادي الديمقراطي، وإن كان الأخير مشاركاً في الحكومة، ولا يعترف بزج اسمه في تلك المنظومة القتالية. حجم الأزمة حجم الأزمة كان يظهر مع كل تصريح أو مقابلة صحفية يجريها الأمين العام للحركة ياسر عرمان، وهو يؤكد بمناسبة ودونها على وحدة قوى المعارضة، وتماسكها بالالتفاف حول برامجها، وصولاً لإسقاط النظام حال رفضه القبول بالمؤتمر القومي الدستوري ووقف الحرب، وغيرها من حزمة اشتراطات باتت مكرورة. والجبهة الثورية التي تأسست في العام 2011، وضعت لنفسها نهجاً داخلياً ينظم الإدارة والرئاسة والقطاعات الخاصة بالإعلام والعلاقات الخارجية، وغيرها من التقسيمات التي ضمنت لكل ممثلي الفصائل الإمساك بأحد الملفات لخدمة قضايا التنظيم واستراتيجيته. ومن بين التفاهمات الداخلية للثورية أن تكون الدورة الثانية بعد انتهاء رئاسة مالك عقار من حق إحدى حركات دارفور الثلاث، شريطة موافقة الاثنين على المرشح، وهكذا أكمل عقار أكثر من ثلاث سنوات في رئاسة الجبهة بسبب الخلاف بين القادة الدارفوريين. انتقال الرئاسة ومنذ العام 2013، قررت انتقال رئاسة التنظيم بحلول يونيو 2015، كحق مضمن في الوثيقة الدستورية المنظمة للكيان، وبرز اسم كل من جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي. وحسب لوائح الجبهة، فإن الأمر يجب أن يحسم بالتوافق والتراضي، وهو ما تعذر كلياً، وقتها. وبرغم ذلك، قرر المجتمعون أنه في أي لحظة يتنازل أحدهما ستؤول الرئاسة للآخر، وكان هناك قرار أيضاً أنه وفي حالة عدم تنازل أحدهما للآخر يستمر مالك عقار في الرئاسة إلى مدة لا تتجاوز العام، على أن يعدل الدستور ليجعل انتخاب الرئيس بطريقة تحل الأزمة. لكن وعندما عقد اجتماع (الثورية) في باريس خلال سبتمبر الماضي، فاجأت الحركة الشعبية الحلفاء برفضها تسليم السلطة، بحجة أن لها الحق في الاستمرار حتى يونيو 2016، ثم يتم انتخاب جديد. اجتماعات باريس وانتهت اجتماعات سبتمبر فى باريس بقبول اقتراح الحركة بتوسيع اللجنة المكلفة، وتسريع إجراءاتها لما قبل يونيو 2016. لكن حركات دارفور الثلاث ما فتئت تطالب بانتقال الرئاسة، وبدت متمسكة بتلك الرغبة، خاصة بعد إعلان مالك عقار بوصفه رئيساً للتنظيم الاستعداد لوقف إطلاق النار لستة أشهر، وهو ما أثار حفيظة عبدالواحد محمد نور، الذي قاطع الاجتماعات، لكنه لحق باجتماع نظمته بقية الحركات للمطالبة بانتقال القيادة فوراً. وهكذا انقسمت (الجبهة الثورية) إلى معسكرين، الأول قرر انتخاب جبريل إبراهيم بأغلبية أربعة أصوات هي العدل والمساواة وجناحا حركة تحرير السودان مناوي وعبد الواحد إضافة للتوم هجو، بينما أبدى المعسكر الآخر المكون من الحركة الشعبية وجبهة الشرق وممثل حزب الأمة نصر الدين المهدي اعتراضهم على تلك الخطوة. وبحسب مصادر وثيقة الصلة بالحركة، فإن عقار وعرمان ومشايعيهما، لم يظهروا اعتراضاً على تولي جبريل للرئاسة طالما أن الخطوة اتخذت بالتوافق مع البقية، لكنهم طالبوا قبل نقلها بحسم اللوائح والتغييرات التنظيمية، وأن يتم اتخاذ القرارات في الثورية بالأغلبية، وليس التوافق. عملية الانتقال ويرى الفريق الآخر أن الأهم هو عملية الانتقال، ومن بعد ذلك يسهل الاتفاق على بقية التفاصيل. ومع اتساع الهوة بين الفريقين المتشاكسين، غادر مالك عقار باريس، دون أن يخطر المجتمعين، وهو ما أثار حنق معارضيه من رافضي الاستمرار بالزعامة، فسارع مسؤول قطاع الإعلام في الجبهة الثورية لإصدار بيان أعلن فيه انتقال الرئاسة لجبريل إبراهيم دون أن ينسى إزجاء الشكر لعقار الذي قاد الجبهة لأربعة أعوام. تلك الكلمات المقتضبة التي وزعها التوم هجو وطارت في الأسافير بسرعة البرق، أشعلت شرارة الخلافات المكتومة بين مكونات الجبهة الثورية، وما كان من مبارك أردول، وخلال أقل من نصف ساعة، إلا أن يعمم بدوره تكذيباً لبيان الانتقال، ويؤكد أن التوم هجو يعبر عن موقفه الشخصي، وليس قرار الجبهة التي قال إنها لم تبت بشأنه. ولم يكتفِ بذلك، بل رأى في الخطوة التي قامت بها الفصائل في المعسكر الآخر محاولة لاختطاف قرار الثورية. المشهد البائس ومن بعد ذلك تدافع غالب الفصائل لإصدار بيانات توضيحية انحصرت جلها على تحميل الحركة الشعبية مسؤولية المشهد البائس الذي ظهر به التنظيم. من تلك التطورات اللافتة تبدو الجبهة الثورية أمام مفترق طرق، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار موقفها الميداني المتعثر، وعجزها عن إسقاط النظام عسكرياً ولا حتى سياسياً. وثمة من يربط بقوة بين تلك التطورات ومشروع (الحوار الوطني) الذي انطلق في داخل السودان، ويمد عرابوه أيديهم يومياً، مطالبين من الآخرين الانضمام بتأكيد أن الأبواب مشرعة لمن يرغب مع توافر كل الضمانات للمسلحين. وتدريجياً لانت مواقف كل من جبريل إبراهيم ومني أركو مناوي، حيث أعلنا غير مرة تأيدهما للحوار، لكن في إطار والحل الشامل مع أهمية مراعاة خصوصية دارفور وأن توقع الحكومة السودانية اتفاقيات مع الفصيلين قبل أن يتجها للمشاركة في حوار الداخل. إعلان برلين أما عبدالواحد نور، فيبدو أنه اختار أن يعزل نفسه، خاصة بعد توقيع الجبهة الثورية وقوى المعارضة على (إعلان برلين)، وتغليب الحل السلمي. ومنذاك الوقت بدأ نور ينظر بعين متشككة لكل من حوله، ويعتقد أنهم أضاعوا الفهم الرئيسي للمعارضة المتطاولة بقبولهم مبدأ الحوار مع النظام. وهكذا تعكس الصورة الكاملة حالة التشتت والضعف وسط حركات دارفور، التي تضعضعت قدراتها القتالية بعد معارك (النخارة) و(قوز دنقو). وعليه، يبدو المشهد بكلياته مفتوحاً على تطورات مثيرة خلال الأسبوعين المقبلين، ولا يستبعد أن تدعو الآلية الأفريقية رفيعة المستوى لعقد اجتماع بين الحكومة والحركات المسلحة لتوقيع (وقف العدائيات) وربما استرضائهم حال قبلت الحكومة بملتقى تحضيري مصغر قبيل الانضمام للحوار الوطني بمعية حزب الأمة.