يكتب: في تذكر نجوى قدح الدم: القضايا ذات الجدل العرب والغرب واسرائيل (1) في عدد أبريل من العام ألفين، نشر إدوارد سعيد بشهرية (لوموند دبلوماتيك)، مقالاً موجعاً ومدهشاً ومثيراً للتفكير في ذات الوقت، ربما أفشى سراً ظل يؤرقه لعهد طويل، أو ربما (طويل الجرح يغري بالتناسي) خاصة إذا كان من قبيل الجرح الفلسطيني النازف لآماد بعيدة. يقول إدوارد: في يناير 1979م تلقيت برقيةً من باريس جاء فيها: تتوجه اليكم مجلة الأزمنة الحديث بدعوة للمشاركة في لقاء يبحث موضوع السلام في الشرق الأوسط يومي 13 و14 من الشهر المقبل نترقب جوابكم: توقيع جان بول سارتر وَسيموند دي بوفوار. لأول وهلة إبتسمت دواخلي لمزحة الصديق الذي أراد أن يذكرني كم أنا مغمور إزاء الأسماء المتلألئة في سماء عالم الفكر والأدب والفلسفة والثورة يومئذٍ، ولكن لم ألبث أن تبينت جدية الأمر، ومن ثم سافرت إلى باريس فمن ذَا الذي يدعوه سارتر وسيمون ولا يبالي؟. كان إدوارد سعيد قد نشر قبل عامين كتابه المبهر (الاستشراق) وأخذ بأنفاس المجتمع الأكاديمي والأدبي والسياسي، وقلب مناهج البحث في موضوع الاستشراق إضافة لمدى إتساع رقعة الموضوع وكثافة القراءة المحيرة كما جاء في دورية (بوك رفيو)، كما شهد العام السابق إنضمام إدوارد سعيد لمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت شارتها (الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني)، وكما أضطرت الموجة الغامرة من الشعراء الفلسطنيين نحو أواخر العقد السبعين، معين بسيسو وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم، أضطرت أسطورة الشعر العربي نزار قباني أن يصدر ديوانه (شعراء الأرض المحتلة)، ثم اعترافه الماكر لهم (نتعلم منكم منذ سنين نحن الشعراء المهزومين)، أضطر البزوغ المفاجئ في الأفق الأدبي والسياسي لنجم إدوارد سعيد سارتر وسيمون لبذل تلك الدعوة التي لم يكن يتوقعها من العمالقة الذين كانوا يغطون الآفاق. كانت خيبة مشوار إدوارد سعيد إلى باريس وحجه إلى الأساطين تشبه في مظاهرها خيبة مشواره مع منظمة التحرير الفلسطينية، وإن كان الأخير أشد عمقاً وأشقى مضاضةً، فلم يكن كل ما يلمع ذهباً بل جله من الصفر المزيف الكبير. يقول إدوارد: رغم أني اعتقدت في البداية أن الأمر يتعلق بمزحة، فكيف لشخص نكرة أن تصله رسالة من رمزين أسطوريين، لكن عند وصولي الفندق وجدت مذكرة مقتضبة تشبه اللغز: لأسباب أمنية لن تنظم الندوة في المكان المحدد سلفاً بل عند ميشيل فوكو. يصف إدوارد سعيد لحظة دخوله بيت فوكو: وجدت سيمون دي بفوار تعمر عمامتها الشهيرة وتتحدث بغطرسة مسرحية يغمرها إعجاب بنفسها عن زيارتها لطهران بصحبة كيت ميليت وإستعدادهما للتظاهر ضد الشادور، ورغم أني كنت أتطلع لسماع وجهة نظرها حول القضية الفلسطينية فقد بدت غير راغبة في سماع أية وجهة نظر، وطفقت ترغي وتزيد عن بشاعة أوضاع حقوق الإنسان في ذلك البلد، وقد راعني الإصغاء المذعن الغبي من الحضور. لم يخسر سعيد شيئاً عندما خرجت بعد ساعة بالتمام من الحديث وقبل وصول سارتر، يقول سعيد وكأنه لا يتأسف (ولم أقابلها بعد ذلك قط). رغم خيبة الأمل والريبة من مفاجأة تغيير المكان فقد كان ميشيل فوكو لطيفاً بذل كل مافي وسعه من مودة ليرحب بإدوارد سعيد، فقد كان سعيد أول من احتفل بمنهج فوكو وأوسع من طبقه في دراسة الاستشراق، وربما كان حفياً به بأكثر من مجرد حسن الاستقبال، فعندما مات فوكو حملت القناة الثانية بالتلفزيون الفرنسي صوراً من طاولة الدرس الأخيرة في بيت فوكو، وكان كتاب (بدايات) لإدوارد سعيد يتصدر المشهد إلى جانب حزمة من الأوراق، لكن المفاجأة الثانية كانت عندما استأذن فوكو ليلحق بموعده الذاتي مع المكتبة الوطنية حيث ما يزال يدرس بانتظام منذ عقد ونصف، أي منذ عودته من التدريس في الجامعة التونسية بعد حرب 1967م بين العرب وإسرائيل، فيزعم فوكو: أنه لم يعد يحتمل الطقس المعادي للسامية. إذا بدا واضحاً لماذا لا يرغب فوكو في سماع حصة نقاش حول الشرق الأوسط ضيف الشرف فيها المفكر اللامع والسياسي المنهمك بشدة في عمل منظمة التحرير الفلسطينية. بعد عهد لم يطل عرف إدوارد سعيد سبب إستئذان فوكو من رسالة بعثها له صديق المفكر الفرنسي المرموق جيل دلوز والمشهور بهواه الفلسطيني: لقد إنتهت علاقتي بفوكو، لقد اشتجرنا حول القضية الفلسطينية. المفاجأة الأكبر كانت عند حضور سارتر، ولعلها هي التي منحت مقال إدوارد سعيد عنوانه (خيبة الأمل المريرة)، أو لعلها وراء دراسته (الآلهة تفشل دائماً)، فقد تجاوز سارتر الثمانين يومها فأحالته السنين إلى شبح باهت يشبه الرسوم الكاريكتيرية التي كانت تدمن شكله بأنفه الغليظ وغليونه الكبير. محاطاً بمساعديه دخل سارتر إلى الندوة، وعندما بدأ إدوارد سعيد حديثه كان شبه متأكد أن أذني الأسطورة لم تكن تسمع، فبعد العرض المثير المصحوب بمشاهدات إدوارد سعيد وحواراته في أميركا ومع ياسر عرفات وبقية قادة المنظمة في بيروت، لم يكن سارتر راغباً في سؤال أو تعليق، ولأن سارتر يجب أن يتكلم فقد تلا نصاً من ورقتين في الغالب أعدت من قبل مرافقه الدائم (يبير فيكتور)، اليهودي الذي ولد في مصر وكان يحمل اسم (بيني ليفي) قبل أن يغيره إلى اسمه الأخير والذي أصدر به مع سارتر دورية (اليسار البرولتياري) الناطقة يومئذٍ باسم الماركسية الماويه، قبل أن يواصل (فيكتور) تقلباته فيرتد يهودياً أرثوذكسيا متعصباً مؤيداً لإسرائيل. كانت ورقتا سارتر نصاً سخيفاً كال المدح لأنور السادات مثمناً زيارته لإسرائيل واصفاً له بالشجاع ذو الرؤية الثاقبة. لم يتطرق المفكر المشهور بمواقفه الثورية الباهرة والحائز على جائزة نوبل الرافض لاستلامها مستنكفاً أن تكرمه الإمبريالية وتفرعاتها ذات الجوائز والأكاديميات، ثم هو الماركسي الماوي صديق فرانز فانون وكاتب المقدمة الباهرة ل(معذبو الأرض)، إنجيل الثوار عندئذٍ والمؤلف الرائع بحق الذي لا تمل قراءته، لم يتطرق مطلقاً لمأساة الشعب الفلسطيني ولم ترد كلمة واحدة عن الاحتلال ولا عن الإقتلاع ولا عن النضال اليومي للفلسطينيين، إستجمع سعيد كل طاقته من التهذيب وإذ لابد له أن يسجل في السانحة التاريخية للقاء الذي لن يتكرر، ويطرح سؤالاً صريحاً مصوباً دون أدنى مواربة إلى جون بول سارتر وليس لأحد غيره: ما رأي المفكر الكبير في القضية الفلسطينية؟ بالطبع اعترض فيكتور على المباغتة المربكة واعتبرها حرجاً لا ينبغي أن يوضع فيه سارتر ووعد بالرد كتابةً. في حواره المطول مع ذات القناة الثانية بدا المؤرخ ورئيس الجمهورية والسياسي المخضرم فرانسوا ميتران في مقام الحيرة الصوفية، اللهم زدني تحيراً فيك، عندما طرح عليه المحاور ذات سؤال إدوارد لسارتر. قال ميتران: القضية الفلسطينية هي أكبر مشكلة تحيرني إذ هي بلد واحد وشعبان. الحيرة تنحسر عندما ترى أن المفكر الذي واجه شعبه في قضية بالغة الخطر مثل الحرب الجزائرية ودعا دون أدنى مواربة إلى مواجهة العنف بالعنف، بل وكتب فلسفة كاملة لذلك في مقدمة (معذبو الأرض)، تراه يهتز ويخاف عندما يأتي ذكر القضية الفلسطينية، في حالة جان بول سارتر التمس له العذر المفكر الفرنسي إيمانويل تود: لقد أدلى سارتر بتلك الاجابات المعتوهة لأنه كان يعاني من خرف الشيخوخة، أما المؤرخ الرئيس ميتران فقد كان صريحاً مع نفسه عندما قال: إذا قبلت أن الأرض هي الحق المشروع للفلسطينيين فإن كل ما رسخ في ذاكرتي وشعوري من قصص العهد القديم وآياته وتراتيله التي حفظتها في طفولتي باطلة، وإذا انحزت إلى وجداني الكاثوليكي وشعوري ولا شعوري فاني سأنقض الواقع والحق المشروع. لكن دعني أتوقف لأتأمل المشوار الآخر وأسير مع إدوارد مساره مع فلسطين والقيادة الفلسطينية.