[email protected] ( كلما يتطلبه الطغيان للوجود هو بقاء ذوي الضمير الحي صامتين) توماس جيفرسون لا اظنني احتاج الى ادلة وبراهين لتبيان عجز النظام الحالي وضعفه وخواره، فهذا اوضح من الشمس في عز الظهر، ولا انفضاض الناس من حوله كنفور السليم المعافى من الاجرب، ولا ما استطاعت الجبهة الثورية من اثباته في أرض الواقع من ضعف مليشيات الانقاذ وجبنها، فكما مل القارئ من قراءة ما يحدث في السودان من فساد وترويع ودمار، كذلك مل الكاتب من التكرار! اذن سأدخل في صلب الموضوع مباشرة، وأبدأ بالسؤال: لماذا لا يرى غالبية الشعب السوداني الفضل تاكل منسأة النظام هذا؟ لماذا لا يتقدم خطوة واحدة ، واكرر واحدة ،كفيلة بدفنه في مزابل التاريخ؟ما الذي يجعل نظاما متهالكا، متشققا، يقوى على الصمود كل هذا الوقت؟ في حين تنهار أنظمة اقوى منه بعشرات المرات في لمح البصر ؟ الاجابة على هذه الاسئلة تبدو واضحة اذا تمعنا في اسطورة سيد القرود. ولكن ما هي اسطورة سيد القرود؟ اورد (جين شارب) في كتابه القيم ( من الدكتاتورية الى الديمقراطية) اطار تصوري للنضال اللاعنيف، هذه الاسطورة الصينية والتي تسمى (اسطورة سيد القرود): كان يعيش في ولاية تشو الاقطاعية رجل عجوز، وقد استطاع هذا الرجل البقاء على قيد الحياة من خلال احتفاظه بقرود لخدمته، وكان أهالي تشو يسمونه جو غونغ أي "سيد القرود". كان هذا الرجل العجوز يجمع القردة كل صباح في ساحته ويأمر أكبرها أن يقودها الى الجبال لجمع الفاكهة من الأجمة والأشجار. وكان سيد القرود يفرض على قردته قاعدة وهي ان يقدم كل قرد منها عشر ما جمع اليه، وكان يعاقب كل قرد يتخلف عن ذلك بجلده دون رحمة. كانت معاناة القردة عظيمة ولكنها لم تجرؤ على الشكوى. وفي يوم من الأيام سأل قرد صغير القرود الاخرين قائلا: "هل زرع الرجل العجوز جميع اشجار الفاكهة والأجمة؟" فأجابوه:"لا انها تنمو لوحدها." ثم تساءل القرد الصغير فقال:" ألا نستطيع أن نأخذ الفاكهة دون اذن من الرجل العجوز؟" فأجابوه:"نعم نستطيع". فقال القرد الصغير:" لماذا اذا نعتمد على الرجل العجوز، لماذا علينا أن نخدمه؟ فهمت القردة جميعها ما كان يرنو اليه القرد الصغير حتى قبل أن ينهي جملته. وفي نفس الليلة وعند ذهاب الرجل العجوز الى فراش النوم حيث ذهب في سبات عميق، قامت القردة بتمزيق قضبان أقفاصها جميعها، كما انها استولت على الفاكهة التي كان العجوز قد خزنها وأخذتها الى الغابة. لم تعد القردة الى العجوز بعد ذلك ابدا، وفي النهاية مات العجوز جوعا. هذه الاسطورة التي اوردها جين شارب في بحثه القيم، ان تمعنا في ابعادها جيدا وحاولنا سبر غورها واستخلاص الحكم فيها نجد انها وصف رائع ودقيق للحاكم الديكتاتوري والشعب المقهور، فالحاكم الدكتاتوري رغم عجزه فانه يسيطر على شعبه المقهور "القوي" بالحيلة والمكر والخداع والترهيب. هذا الحاكم الديكتاتوري يستمد قوته من هذه الجماهير المغلوبة ويمارس ذات هذه القوة لمزيد من الغلب للجماهير الخانعة الغارقة في وهم قوته اللامتناهية والتي هي وهمية. وما فعلته القردة في هذه الاسطورة من تحدي للدكتاتور العجوز، واخذها لمصائرها بيدها، فعله الشعب السوداني في ثورتين عظيمتين تحدث بهما العالم اجمع، هما ثورة أكتوبر 1964 ضد حكم الدكتاتور عبود، وثورة مارس أبريل 1985 ضد حكم الدكتاتور نميري، والجيل الحالي ما هو الا امتداد لجيل تلك الثورتين وهو قادر على انتزاع مصيره بيده وانقاذ البلاد من عصابة المؤتمر الوطني، ولكن تنقصه القيادة القوية ذات الخبرة، فمعظم ان لم يكن كل احزاب المعارضة السودانية صارت ادوات تخذيل ومعيقات في سبيل تطور الثورة السودانية لنهايتها الحتمية الا وهي الانتصار الشامل على العصابة الحاكمة. وستفرز حتما نضالات الجماهير واحتكاكاتها بالنظام تلك القيادة المرجؤة ستولد القيادات الجديدة من رحم الصراع بين قوى الحق وقوى الظلام. في الثورتين الماضيتين استخدم الشعب السوداني سلاح العصيان المدني أو( اسطورة سيد القرود) كما يسميه جين شارب، ورغم اندلاع حرب الجنوب الا انها كانت بعيدة عن المركز، الا انه اليوم في وجود الجبهة الثورية وانتصاراتها الميدانية على سلطة الخرطوم في مواقع قريبة من المركز، يصير الحديث عن التغيير باستخدام العصيان المدني وحده غير واقعي ويتجاهل قوى صار لها وزنها في الواقع السياسي، ومخطئ الأمام الصادق المهدي ان ظن بان الجبهة الثورية يمكن ان تذوب في الاثير، والحديث عن تغيير عسكري للنظام من غير مشاركة حقيقية من القوى المدنية مستعينة بسلاح العصيان المدني ايضا خاطئ ويتجاهل كل القوى المعارضة لهذا النظام لكنها لا تنتمي للجبهة الثورية أو ببساطة لا تعتقد في التغيير بهذه الوسيلة وبالطبع لها الحرية الكاملة في هذا الاعتقاد. الحل والطريق الاوحد لانجاح الثورة وضمان استمرار نجاحها هو الجمع بين السلاحين العصيان المدني والكفاح المسلح، الكفاح المسلح يجب ان لا يغتر بانتصاراته اليوم فالدكتاتور لا يجيد شئ مثل اجادته لفن الحروب ومستعد للتضحية بكل الشعب السوداني وتقديمه وقودا لها، وكذلك يجب ان لا يخنع الشعب ويعقد كل اماله على الجبهة الثورية، علاوة على ان الكفاح المسلح او حرب العصابات لا يتضرر منها النظام وحده انما المواطنين ايضا يدفعون ثمنا غاليا فيها اقله فقدانهم للامن، ان لم يكن فقدانهم لحياتهم حين يقعون بين نيران الطرفين، أيضا هناك حقيقة مهمة يجب وضعها في الاعتبار الا وهي ان السودان يفتقد لمؤسسات مجتمع مدني قوية، فقد دمرتها حكومة الجبهة منذ زمن طويل، هذه المؤسسات هي سند واساس اي نظام ديمقراطي جديد، وفي غيابها يمكن الارتداد عن الديمقراطية بسهولة ويسر، بعبارة اخرى اذا استطاع الطريق المسلح الوصول الى ازاحة النظام الحالي من غير المشاركة المدنية القوية فان فرص قيام نظام ديكتاتوري جديد تظل قوية جدا.