د. الطيب زين العابدين …… [email protected] …………. بسم الله الرحمن الرحيم ………. مقدمة ………. نشأت الحركة الإسلامية السودانية الحديثة في أوساط طلاب الثانويات والجامعات في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي (بدءً باسم حركة التحرير الإسلامي (1949-1954) ثم تحت إسم الأخوان المسلمون (1954-1964)، كما اتخذت عدة أسماء لأحزاب سياسية مسجلة في فترات مختلفة: جبهة الميثاق الإسلامي (1965-1969)، الجبهة الإسلامية القومية (1985-1989)، المؤتمر الوطني (1993-2012)، المؤتمر الشعبي (2001-2012). وكان لنشأة الحركة في أوساط الطلاب بجامعة الخرطوم والمدارس الثانوية والجامعات المصرية أثره الكبير في تكوين الحركة النفسي والفكري والسياسي، خاصة وأن التنظيم المنافس لها في أوساط الطلاب هو الحركة الشيوعية التي تأسست قبلها في منتصف الأربعينيات وكسبت غالبية القاعدة الطلابية إلى نهاية الخمسينيات. كان وجود الحركة الشيوعية المهيمن بين الطلاب يمثل تحدياً كبيراً للحركة الإسلامية دخلت بسببه مباشرة إلى العمل السياسي الطلابي بقصد السيطرة على اتحاد طلاب جامعة الخرطوم واتحادات الجامعات الجديدة (جامعة القاهرة الفرع وجامعة أمدرمان الإسلامية) ومعهد المعلمين العالي والمدارس الثانوية. وكما جاء في أحد كتب الدكتور الترابي، ما كان للحركة في بداية عهدها إلا أن تؤسس على محور فكري بضرورة كونها تذكراً لتعاليم الإسلام وتعاهداً وتعاوناً على تحقيق معانيه في الحياة، ويربط الجماعة أنها التقت على محور فكري يميزها بالمفارقة من الكيانات التقليدية التي جمدت على تراث شيخ نابه كان له دور في الدعوة الإسلامية، أو عصبية لقبيلة أو فئة اجتماعية التقت على عرف قديم أو مصلحة فئوية. لذا كان الفكر الإسلامي هو العامل الأساسي في التداعي إلى صف الجماعة لأنها في عهدها الأول لم تكن لها مواقف بائنة أو تطورت لها سيرة تشد إليها الناس. وقد نزعت الحركة نحو الفعل والتجريب أكثر منها نحو التنظير والتحرير لأن قادتها أهل ثقافة وحركة وسياسة وتنظيم أكثر منهم أهل علم وفكر وتأمل. وكان المنهل الأول لفكر الجماعة كتابات الشيخ حسن البنا وعبد القادر عودة ومحمد الغزالي وسيد قطب والعقاد ومالك بن نبي وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وسائر المنشورات الإسلامية الحديثة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كما راحت تتغذى بكتب التراث القديم متجاوزة المراجع المذهبية الشائعة، وانفعلت بالفكر الأوربي الذي استقاه روادها من مؤسسات التعليم الغربي في بلدهم وخارجها. وبحكم عناصرها الشبابية المتعلمة والتحدي الفكري الذي واجهته ضد اليساريين والعلمانيين، نظرت الحركة إلى نفسها منذ البداية على أنها حركة تجديدية مقارنة بالطرق الصوفية المنتشرة في السودان، وأنها تعمل في كل مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والدعوية على نمط حركة الاخوان المسلمون المصرية. يقول دستور جماعة الأخوان المسلمون (أجيز في 1981): إنها أولاً حركة إسلامية، وثانياً حركة أصولية تعتصم بالقرآن والسنة وأنها من بعد "حركة تجديدية تقدر الفجوة الهائلة التي وقعت نتيجة الخمول المتطاول الذي اعترى حياة المسلمين وفكرهم فتخلفت عن التطور الهائل في ظروف الواقع المادي والبشري، ومن ثم فالحركة تدعو إلى إجتهاد كثيف من أجل استبانة مقتضى الدين في حاضر الحياة". وهي أيضا حركة إصلاح ديني تقوية للواهي من عرى الإسلام وإحياء للدارس من شعائره وفضائله، وحركة تغيير اجتماعي لا تقنع بإصلاح أمر الفرد بل تجمع إلى ذلك استصلاح المؤسسات والأجهزة لذلك تأخذ بأسباب التعبئة العامة والتنظيم المحكم. واتسمت الحركة الإسلامية منذ بداية عملها السياسي العام في 1964 باختلاف كبير مع الأحزاب التقليديةالكبيرة (حزب الأمة القومي، والحزب الاتحادي الديمقراطي) التي تستند على طوائف دينية عريقة في التاريخ السوداني ولكنها ذات طبيعة محافظة تمشياً مع مزاج عامة أهل السودان وتقاليدهم الصوفية العريقة. بدايات العمل السياسي وتطوره تعنى هذه الورقة بتسجيل وتحليل مواقف الحركة الإسلامية السودانية في بعض مجالات حقوق الإنسان الهامة (الديمقراطية، الحريات الأساسية، الأقليات الدينية،العدالة، حقوق المرأة،الحقوق الاقتصادية)، وتطور هذه المواقف أثناء فترة الديمقراطية الثانية عقب ثورة أكتوبر(1965-1969) عندما دخلت الحركة الساحة السياسية كحزب سياسي يخوض الانتخابات العامة لأول مرة، وأثناء الديمقراطية الثالثة (1985-1989). وقد نجحت الأطروحات النظرية للحركة الإسلامية في جذب أعداد كبيرة من المثقفين مما أدى إلى اكتساحها لكل دوائر الخريجين في شمال السودان في انتخابات عام 1986، وقفز تمثيلها البرلماني من خمسة نواب إلى أكثر من خمسين نائباً مما جعلها بجدارة الحزب الثالث في البرلمان من حيث العدد ولكنه الأول من حيث التنظيم وتأهيل الكوادر. واضطرت الحركة الإسلامية أثناء نشاطها السياسي وخوضها الانتخابات العامة في 1965 و 1968 و 1986 لبلورة وتحديد أفكارها حول القضايا السياسية التي تشغل الساحة السودانية مثلنظام الحكم بين الجمهورية الرئاسية والحكومة البرلمانية، ماذا يعني الدستور الإسلامي؟ حقوق المرأة السياسية، حل مشكلة الجنوب ووضع الأقليات غير المسلمة، النظام الاقتصادي بين الرأسمالية والاشتراكية، الإصلاح القانوني والعدلي وإلى غير ذلك من القضايا. وقد حاولت الحركة جهدها في استنباط حلول اجتهادية تنفتح على تجارب العالم المتقدم وفي ذات الوقت تتسق مع تعاليم وأحكام الإسلام، وتستجيب لطموحات وتطلعات القطاعات الحديثة في المجتمع. وأحسب أن تلك الأطروحات كانت متقدمة في زمانها على معظم أطروحات الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، وقد بذلت الحركة جهداً فكرياً مقدراً في تأصيل تلك الأطروحات وفقاً لتعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.ووجدت تلك الأطروحات نقداً من التيارات الإسلامية السلفية والمحافظة لأنها جديدة على التراث الفقهي التقليدي ولأنها تأثرت إلى حدٍ ما بالأفكار السائدة في الدول الغربية، ولكن الحركة ثبتت على تلك الأطروحات ولم تستجب للنظرة السلفية المحافظة ووجدت قدراً من القبول في أوساط الأحزاب السياسية الكبيرة التي تحالفت معها في بعض الأوقات ضد الحركات اليسارية، وبدأت بعض الحركات الإسلامية في عدد من دول العالم الإسلامي تتأثر بالنموذج السوداني وتقتدي به. المواقف النظرية من قضايا حقوق الإنسان اهتمت الحركة بقضية الاجتهاد الديني في مشكلات العصر، وكان زعيمها ومفكرها حسن الترابي ينتقد فكر الإسلاميين المعاصر لأنه بغالبه قاصر عما ينبغي له من الإستواء النظري وعما بلغته الحركة العلمية الحديثة، وقاصر فى مقولاته النظرية خاصة في مجال الاجتماعيات وقاصر في فنونه الجدلية.وكان يدعو بشجاعة لتجديد الفكر الديني حتى في أصوله الفقهية كي يكون قادرا على مجابهة مشكلات العصر المعقدة الكثيفة التي تحيط بالدول النامية، ويرتقي إلى التحدي الكبير الذي يطرحه الفكر الغربي في أوجه الحياة المختلفة.ونتعرض في هذا الجزء لمواقف الحركة الإسلامية السودانية في بعض مجالات حقوق الإنسان الأساسية التي تبنتها أثناء عملها السياسي منذ عام 1964 إلى عام 1989 حين وقع الإنقلاب العسكري الذي دبرته ونظمته الحركة الإسلامية. ولعل أهم الوثائق التي تتضمن مواقف الحركة النظرية من حقوق الإنسان نجدها في دستور جماعة الأخوان المسلمين لعام 1981 والذي قصد به أن يكون مقدمة لدستور الدولة الإسلامية التي تسعى الحركة لإقامتها بعد زوال نظام الرئيس جعفر نميري وقد انتقل جزء كبير منه خاصة في مجال الأهداف لدستور الجبهة الإسلامية القومية التي أسست حزباً سياسياً في 1985 بعد سقوط نظام الرئيس نميري؛ وفي بعض المحاضرات والكتيبات التي ألفها زعيم الحركة الدكتور حسن الترابي، ثم في وثيقة السودان لحقوق الإنسان التي أجازها المجلس الوطني الانتقالي في عام 1994 ولكنها غير معروفة. 1- دستور جماعة الأخوان المسلمين جاء في الباب الثاني من الدستور تحت بند (الأهداف) أربعة فصول تتحدث عن: الأهداف السياسية والدستورية؛ الأهداف الاقتصادية؛ الأهداف الاجتماعية؛ الأهداف الثقافية. ونورد فيما يلي بعض ما ورد في هذه الفصول وله صلة بحقوق الإنسان. الأهداف السياسية والدستورية تقول المادة (5): إقامة الحكم الإسلامي القائم على الشورى والمساواة وحرية المواطنين في اختيار الحاكم وممثلي الأمة وحقهم في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون تسلط أو إرهاب. المادة (6): كفالة حرية المواطن في الاعتقاد وعدم اكراهه في الدين وضمان حرية المواطن في التعبير عن رأيه وحريته في الحركة والاجتماع والتنظيم وحماية دمه وماله وعرضه وحرمة منزله ومراسلاته. المادة (8): تسعى الجماعة لتأكيد مسئولية الحاكم الذي تختاره الأمة عن تصرفاته الشخصية وأعماله الرسمية مسئولية دينية وسياسية وقضائية. المادة (9): حماية المواطنين من الاستبداد والفساد السياسي والاستغلال الاقتصادي وأي شكل من أشكال القهر والظلم. وإقامة الحكم على المؤسسات منعاً لتسلط الفرد ونشداناً للاستقرار. المادة (10): اشاعة العدل وتوفير المساواة للمواطنين أمام القانون وضمان استقلال القضاة ونزاهتهم وتوفير الخدمات القانونية للمواطنين. المادة (14): حقوق الأقليات مصونة في الدولة الإسلامية وتضمن لهم المساواة في الحقوق السياسية والمدنية والعدالة الاقتصادية وحرية الاعتقاد والعبادة واستقلال قوانين الأحوال الشخصية والتعليم الديني. الأهداف الاقتصادية المادة (20): تأمين الحاجات الضرورية لكل مواطن من العيش الكريم والصحة والتعليم والأمن ورفع الظلم والفقر والمعاناة.