……. عندما إنقلبت حكومة الإنقاذ على الوضع الديمقراطي فى 30 يونيو 1989 أثّرت بشكل سريع وكارثي على الصحة فى السودان وذلك عبر إتجاهين سياسيّن يسودان حتى الآن. الإتجاه الأول كان الإقصاء لكل من ليس منتمياً للتنظيم أو يلف حوله: تمثل هذا في التخلص من كافة الأطباء والعاملين الصحيين من غير أهل الثقة، وقد تم في أول عام من الإنقلاب التخلص من 42 طبيبا من مجموع 63 أخصائى صحة عامة (كنت ضمنهم)، وهؤلاء كانوا نتاج عقود من الإستثمار، و تراكم الخبرات وتولوا قيادة العمل الصحى والبرامج على مستوى القطر. هل كان البديل جاهزاً؟ لا. تولى كوادر الإخوان المسلمين ذوى التأهيل المتواضع، ليحلوا مكان ذوى الخبرة والتجربة، وأدى غياب الفكر الإستراتيجى تجاة تطور بنية الخدمات الصحيه إلى شيوع الفوضى والعشوائية وسوء الإدارة. وطوال تاريخها دفعت الأولوية المتدنية للصحة لنظام الإنقاذ، وبإعتبارها من الوزارات الفقيرة، إلى ترك قيادتها فى أيدى حلفائها من الأحزاب المنشقة مع سيطرتها على الجهاز الإدارى سيطرة كاملة. وخضعت وزارة الصحة كغيرها، إلى جهاز إدارى علني لا يملك أي صلاحيات، ومعظم وزرائها منشغلون بالسفر المستمر لحضور كافة الإجتماعات الهامة والتافهة التى تنظمها المنظمات الدولية، الإقليمية وغيرها. منذ نشوءها، حكم البلاد جهاز سري من قادة غير معروفين من الجسم الصلب من الحزب الحاكم، يحدد كافة السياسات والقرارات الهامة في البلاد. كذلك كان الأمر فى الخدمات الصحية، إذ حُصِرَ القرار بأيدى الوكيل وبعض الشخصيات على كل المستويات. هذه الحالة عبر عنها وزيران "أقر وزير الصحة الإتحادية بحر إدريس أبو قردة أمام البرلمان بأن وزارته تعاني من التهميش وليس لديها حاكمية في القرارات، وقال: إن ترتيبها يأتي في المرتبة الأخيرة، أو قبل الأخيرة بين الوزارات عند تخصيص الميزانيات". وكانت وزيرة الرعاية أميرة الفاضل قد طالبت بزيادة الصرف على التعليم في تصريحات قالت فيها: "لو ما قدرنا قلبنا الميزانية بزيادة الميزانية المخصصة للتعليم والصحة وتقديمها على الميزانية المخصصة للأمن والدفاع، لن نصل للمعادلة الصحيحة وذلك توجه تعمل به كل دول العالم". الإتجاه الثانى: إنسحاب الدولة من القطاع الصحي لم تكن الصحة بمعزل عن التدهور العام الذي أصاب كافة مناحي الحياة فى البلاد. فقد تناولنا في عرضنا الأثر الكبير الذي تحدثه المحددات الإجتماعية للصحه، وتابعنا قضايا الفقر والجوع في السودان. منذ 30 يونيو 1989 يمكن أن نقول بكل ثقة أن الإنحيازات الإجتماعية والإقتصادية لنظام الإنقاذ كانت بشكل واضح، محدد وقاسٍ ضد صحة السكان. ترجمت هذه الإنحيازات فى سياسات وقرارات أدت إلى وضع صحي مآساوي ومزري لكافة المؤشرات. لقد خرجت الدولة من تمويل الخدمات الصحية بالكامل وعند حلول 1992 كان العلاج فى السودان مدفوع الأجر. إن الناظر إلى الخدمات الصحية الآن يراها من أهم مواقع الرأسمالية الطفيلية (يجب عدم الإستهانه بالصحة كمجال للإثراء، فميزانية الصحة في الولاياتالمتحدة تصل إلى 12-15% من الدخل القومي وهي أسوأ دول العالم الأول في خدماتها الصحية من ناحية المساواة)، تنتشر في أنحاء العاصمة بشكل مبالغ فيه، العيادات الخاصة للأطباء؛ والصيدليات والمراكز الطبية الخاصة من ذات النجمتين إلى السبعة نجوم (حتى هذه لا تقدم خدمة مفيدة، ولا أظننا في حاجة إلى الإسترسال، ولكن دليلنا إن السودانيون ينفقون حوالي 250-300 مليون دولار سنوياً في الأردن ولا ندري كم ينفقون في مصر). حتى بداية السبعينات كان هناك توازن فى تطور الخدمات وإنتشارها، ولو ببطء. فقد تمثلت الحكومات المتعاقبة سلوك الدولة المسئولة وواصلت تقديم الخدمات بالمجان. مع بدء التحولات في النظام المايوى والإتجاة العام نحو الدولة المنهارة، تواصل الإهتمام بالصحة، ولو بشكل متناقص، من ضغط المجتمعات، النقابات والتراث الطويل من دور الدولة. مع دولة الإنقاذ والإنحياز الواضح نحو إقتصاد التجارة والخدمات، وضح الإتجاة كاسحاً نحو تسليع كافة الخدمات. سيطرت فئة إجتماعية صغيرة على مقدرات البلد، ووجهتها إلى تراكم الثروة، وأصبحت الخدمات الصحية نفسها مصدراً لها. مع الأزمات المتلاحقة وتآكل الشرعية، زاد إعتماد النظام على القبضة الأمنية. تجاور مع هذا الإقتصاد الطفيلى والتمكين، نمو مؤسسة الفساد التي أصبحت الرافد الأول لمراكمة الثورة وتركزها وقلة المرصود للخدمات. الحالة الصحية للسودانيين وصف تشرشل (المراسل الحربي للقوات الغازية ولاحقاً رئيس وزراء بريطانيا) الحالة الصحية عام 1900 "إن الجزء الأعظم من البلاد يعاني من الحمى وغير معافى" والحال أن السودانين الآن يساكنون عدد من الأمراض المتوطنة، الناشئة، المستجدة والأمراض التي عاودت الظهور. وتمثل قائمة الأسباب الرئيسية للمراضة والوفيات: الأمراض المعدية والطفيلية، مثل الملاريا والسل وأمراض الإسهال والتهابات الجهاز التنفسي، وفيروس نقص المناعة البشرية. وبالإضافة إلى ذلك، هناك مجموعة من الأمراض وتشمل داء التراخوما وإلتهابات الديدان الخيطية المعوية والبلهارسيا. ليس هذا فقط ولكننا نعاني أيضاً من عبء الأمراض المزمنة (السكري، ضغط الدم، السرطانات ومضاعفاتها). أوضح المسح المتدرج لعوامل الخطورة للأمراض غير المعدية لولاية الخرطوم، الذي أجري فى عام 2005-2006 أن حوإلى 23% يعانون من السمنة (النساء 30 %)، 19% يعانون من إرتفاع السكرى فى الدم وأكثر من 20% إرتفاع ضغط الدم. إن عملاً كثيراً ينتظر الخدمات الصحية، ويضغط على قدراتها القليلة بسيول من مرضى الفشل الكلوى، الأزمات القلبية والدماغية، وسائر مضاعفات الأمراض. تهيمن الأمراض المعدية والوبائية على الوضع الصحي، والملاريا هي التحدي الأكبر للصحة العامة فى السودان. بناءًا على المناخ والنماذج الوبائية، تشير التقديرات إلى أن حوالى 28.5 مليون من السكان موجودون فى المناطق عالية إنتقال الملاريا، والبقية في مناطق منخفضة إنتقال الملاريا، ويقدر أن هناك حوإلى 7.1 مليون أُصيبوا بالمرض عام 2006. يمثل المرض نحو 21% من حالات العيادات الخارجية، ما يقرب من 30% من المرضى الداخليين، ويعتقد أن تكون الملاريا السبب فى 16% من مجموع وفيات المستشفيات وتتراوح معدل إماتة الحالات للمستشفيات، بين الأطفال بين 5 و 15%. وقد شكلت الملاريا عام 2010 حوإلى 9.3% من المترددين على المرافق الصحية و 8.7% من دخول المستشفيات. ملاريا الحوامل تمثل مشكلة خطيرة في السودان، وترتبط بفقر الدم لدى الأمهات والوفيات، إنخفاض الوزن عند الولادة مع الأطفال حديثي الولادة ووفيات الفترة المحيطة بالولادة. ويتوفر العلاج الوقائي المتقطع (IPT) في نطاق محدود 22% للنساء الحوامل. وتقدر دراسة أخرى أن عبء السل يقدر ب 50،000 حالة خلال عام 2009، ونسبة الإنتشار المقدرة بحوإلى 209 حالة لكل مائة ألف من السكان. وأورد البنك الدولى إحصائيات عن معدل الحدوث السنوى 124 (2008)، 117 (2011) لكل مائة ألف من السكان. المحددات الإجتماعية للصحة فى السودان أورد وزير الصحة في ورشة الأمن الغذائي التي نظّمتها وزارة الزراعة بمجلس الوزراء نتائج مَسح أجرته الوزارة في (13) ولاية أثبت أن (13) مليون مواطن يعانون نقص الغذاء، وأن (ثلث) سكان السودان يعانون من سوء التغذية، وواصل الوزير: إن سوء التغذية يعتبر واحداً من ثلاثة أسباب رئيسية في وفيات الأطفال دون سن الخامسة، وأوضح أنّ (1 من 3) أطفال يعانون من سوء التغذية، وأن (1) من كل (12) طفلاً في السودان يعانون من نقص الغذاء الحاد، وقال: إنّ (15%) من سكان السودان يعانون من سوء التغذية، وأشار إلى أن مُحاولات تقليل حالات وفاة الأطفال عند الولادة لم تصل إلى النتائج المطلوبة برغم إنخفاض العدد إلى (83) حالة من كل حالة ولادة حية في العام 2010م عن (112) حالة وفاة العام 1990م. وفي سياق آخر، كشف وزير الصحة، عن تزايد نقص الحديد وسط النساء، وقال: إنّ (99%) من النساء الحوامل يعانين من فقر الدم (الأنيميا)، وإن حالات الغدة الدرقية الناتجة عن نقص اليود تصل إلى (22%)، وأشار إلى أن (1 – 4.8%) يعانين من العمى الليلي نتيجة لنقص فيتامين (أ). الإنفاق الصحي على صحة المواطن يعتبر الإنفاق الصحي أحد أهم محددات تحسن صحة السكان، لكن الإنفاق يرتبط أيضا بالإنحياز الإجتماعي للدولة. فرغم أن الولاياتالمتحدة من أكثر الدول إنفاقا على الصحة حوإلى 13% عام 2000 17% عام 2010، لكن يتميز نظامها بعدم مساواة كبيرة على عكس إنجلترا التى تنفق حوالى 7% عام 2000 وحولى 9% عام 2010. وهناك بيِّنات وفيرة على وجود إرتباط كمِّي وثيق بين معايير الوضع الإقتصادي، مثل: الدخل والثروة، وبين المحصلة الصحية. "ولكن الثابت أن الأُسَر ذات الدخل المتواضع، تضطر لدفع جزء كبير من دخلها للخدمات الصحية، مما يدفع بها إلى الفقر، فتضطر للإقتراض، أو بيع الأصول، أو العزوف عن تلقِّي الخدمات الصحية للأزمة والتعايش مع المرض. وكنتيجة للرابطة الديناميكية المتبادلة بين إعتلال الصحة والفقر، فان العديد من الأُسَر لن يمكنها الفكاك من براثن الفقر وإعتلال الصحة إذا ما وقعت فريسة لهما". من ميزانية تبلغ حوإلى 8- 12% من الميزانية الحكومية فى أعوام 1956-1969، تدهور الإنفاق العام على الصحة في السودان إلى حد كبير، في حدود 0.4٪ – 0.9٪ من الناتج المحلي الإجمالي. في عام 2004 كان الإنفاق العام على الصحة 0.4٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يساوي 1.9٪ من ميزانية الحكومة، وتصل إلى حوالي 2.1 دولار أمريكي للفرد الواحد. في عام 2005 كان الإنفاق الصحي في الميزانية حوالي 0.56% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يساوي 2.1٪ من ميزانية الحكومة التي تبلغ 3.3 دولار أمريكي للفرد الواحد. وتبلغ الرسوم التى يدفعها المرضى السودانيين ومستخدمي الخدمات الصحية حوالي 70-80٪ من مجموع النفقات الصحية (2.5-3.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي)، ويصل هذا المبلغ إلى 15-20 دولار أمريكي من نصيب الفرد. وقد أظهرت نتائج دراسة الحسابات الوطنية للصحة عام 2008 أن الإنفاق على الصحة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) جاء حوإلى 5.6٪، ويساهم المستخدم تقريبا بنسبة 64٪ من الإنفاق (ما يعادل 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي). قدرت الموازنة للعام 2013 بمبلغ 25.2 مليار جنيه، ورصدت تقديرات لميزانيات قطاعات الدولة كان أعلاها لقطاع الدفاع والأمن والشرطة الذي بلغت التقديرات الموجهة للقطاع حوالي (8.59 مليار جنيه)، والقطاع السيادي (1.55 مليار جنيه)، والزراعي ( 5.977.060) جنيه، فيما بلغت ميزانية الصحة والتعليم (555.662.251 ) جنيه(26). الخدمة المقدمة إن الحصول على الخدمات الصحية المحلية على مستوى الرعاية الصحية الأولية في السودان منخفض جداً، ويتراوح ما بين 40٪ -66٪ مع أكبر تفاوت بين الحضر والريف 84٪ إلى 58٪ لكل منهما على التوالي، على الرغم من حقيقة أن حوالي 70٪ من السكان يعيشون في المناطق الريفية. حوالي ثلث السكان ليس لديهم إمكانية الوصول إلى المرافق الصحية، لكن هذا الرقم يخفي الفوارق الكبيرة بين الولايات وكذلك داخلها. فعلى سبيل المثال: في ولاية جنوب دارفور 34.5٪ فقط من السكان لديهم إمكانية الوصول إلى المرافق الصحية، فى حين أن 99٪ من السكان في الولاية الشمالية لديهم إمكانية الوصول إلى مرافق الرعاية الصحية، لكن برغم ذلك فإن ما يجدونة من خدمة ضئيلة. يمكن بشكل عام وصف التغطية للخدمات الصحية بأنها ذات جودة منخفضة، سيئة التخطيط، إدارتها غير فعالة، وموزعة بطريقة غير عادلة، وندخل العقد الثانى ونسبة التغطية بالخدمات الصحية تتراوح من وحدة صحية لكل 3109 مواطن في الشمالية إلى 20779 مواطن فى جنوب دارفور. المعدل الوطني للتغطية تبلغ وحدة صحية لكل 6،816 مواطن والمعدل المعياري وحدة صحية لكل 1500 مواطن. أخيراً لا نعرف في التاريخ الحديث عن خدمات صحية جيدة إلا في ظل نظام جيد (لا تعنى بالضرورة الأنظمة الديمقراطية، ولكن الأنظمة التي لديها رؤية واضحة للبناء الوطني، وهناك الأمثلة الشهيرة من عُمان، كوبا، سريلانكا..إلخ)، فإن الدولة ذات الرؤية الواضحة، الإستراتيجيات وخرط الطريق هي التي سترى في التعليم الأساس العلمي، وأن الصحة الجيدة هي السند الحقيقي، أي تطور وتنمية الوطن. وترتبط الرؤية الصحية، كغيرها من القطاعات الخدمية والإنتاجية، برؤية وطنية شاملة مبنية على إنحياز إجتماعى ومفاهيم العدالة الإجتماعية من دولة مسئولة. رغم أهمية هذه الإستراتيجيات، إلا أنها تمثل البعد التقني في المكافحة وتتجاهل البعد الإجتماعي والمسئولية المجتمعية. لن تختفى الملاريا وغيرها من الأمراض الوبائية، إلا بمشاركة فاعلة من المجتمعات تعالج الأسباب وليس النتائج (الطفيل، الحامل والناقل). وكذلك تدخُل الدولة الحاسم في إعادة الكوادر الصحية المجتمعية (عاملى الناموس، ملاحظي الصحة وضباطها)، ولدينا فى تأريخنا من التجارب الناجحة مما يغنينا عن إعادة إختراع العجلة. إن هذه الدولة الإنقاذية عاجزة تماماً عن إتخاذ السياسات والقرارات الملائمة التي سوف تقود إلى وضع الوطن في طريق المستقبل، وفي قائمة الأولويات تأتي قضايا الحوكمة والإدارة، قضايا الإنفاق على الصحة وتجلياتها، التغطية بالخدمات الصحية ضمن توجه إستراتيجى يعتمد على مفاهيم الرعاية الصحية الأولية، وتنمية القوى البشرية. من: كتاب الرؤية السودانية: صحة السودان: تفصيل الإطار العام -عمرو محمد عباس محجوب – تحت الطبع زمالة الكلية الملكية للصحة العامة- بريطانيا مستشار إقليمى سابق بمنظمة الصحة العالمية