روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(حريات) تقدم نماذج لبعض الحوارات المهمة بين مفكرين عرب حول اوضاع العالم الاسلامى
نشر في حريات يوم 02 - 07 - 2014


(حريات)
الحملة على الإسلام.. والحملة على العرب
رضوان السيد
لا يكاد يمر أسبوع إلاّ ونشهد أحد احتفالين أو الاحتفالين معا: احتفال بالحملة على الإسلام المتشدد والتكفيري والإرهابي، واحتفالٌ آخر بمفكر «تنويري» عربي ما ترك على جسد الإسلام الظلامي والتكفيري لحما ولا شحما. وهذه التنويرية ما حدثت الآن، بل إنها مستمرةٌ منذ ثلاثين أو أربعين عاما! ولو تأملْنا دخائل هذه الحملات الإدانية للموروث أو الأُصولية الجديدة، والأخرى الثنائية على عظمة التنويرية والتنوير، لوجدْنا عجبا دون الاضطرار لانتظار حضور رجب!
لنبدأ بفحص الحملات على الإسلام، تحت عنوان مكافحة التشدد والإرهاب. إنّ معظم الحاملين عليهما لا يتعاطون مع تصرفات هؤلاء وأولئك إلاّ في خاتمة مقالاتهم أو بحوثهم العلمية العميقة جدا. أمّا جوهر هذه الأُطروحات الضخمة، فهو الحملةُ على إسلام العصر الوسيط، أو الأرثوذكسية السنية، أو التقليد الأسود والجامد، أو بصراحة الإسلام السني. وهذا الفنُّ أو الأدب الإداني يزدهر الآن. أمّا أبوه الشرعي فهو الراحل محمد أركون. فقد أراد أولا تحطيم كل الأرثوذكسيات لأنها حجبت عنا القرآن والإسلام الأول. ثم قرر أنّ المهمة التحريرية تنقضي أو تتحقق بضرب الأرثوذكسية السنية، كما قال. أما الأرثوذكسية أو الأرثوذكسيات الأخرى المسيحية أو الشيعية فيجب تحطيمها أيضا، لكنّ المهمة معها أسَهل، ثم إن فيها باطنية وفيها خيالات وأساطير زاهية تبعث على البهجة، وليست حروفيةً نصوصيةً قاتمة مثلما هي عند السنة. وفي النهاية فإنّ الأصوليات الإسلامية الحاضرة تستند إلى تلك الأرثوذكسية القديمة لا غير. وقد ذكرتُ له في أواسط الثمانينات أنه لا علاقة حقيقية بين التقليد الإسلامي القديم، والإحيائيات الحاضرة، وإنما هو انتماءٌ رمزي وتأويل تأصيلي. وهناك فرقٌ كبيرٌ بين الاستمرارية التي يقتضيها التقليد، وبين التأصيل الذي تلجأ إليه حركةٌ جديدةٌ للشرعنة والتسويغ: فكيف تقول يا رجل بالاستمرارية، وأنت من أتباع قطائع فوكو، وبنيويات فلان وعِلاّن؟ وبالفعل فقد سارع الرجل إلى وضع كتاب باسم: استحالة التأصيل! ثم ما لبث أن نسي كلَّ شيء، ولجأ هو وتلامذته حتى اليوم (توفي أركون عام 2010) إلى تصفية حساباتهم مع الإسلام السني القديم (من القرآن وإلى محمد عبده) بحجتين: التقليد المتجمد، والأُصوليات القائمة اليوم على ذلك التقليد. ومن هؤلاء على سبيل المثال عبد المجيد الشرفي، الذي نشر كتابا قبل ثلاثة شهور لمناقضة الإسلام السياسي، وإذا به يزعم أنّ الإسلام السياسي فاسد لأنه يستند إلى التقليد الفاسد، والتقليد (في الفقه والتفسير) فاسد في فهمه للقرآن، ففي النهاية: الكل فاسد! وظهر لدينا أيضا قبل الثورات وبعدها فريقٌ تنويري يريد اجتراح إصلاح ديني، يشبه تماما ما فعله الأوروبيون مع تراثهم الديني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولذلك انصرف عشراتٌ من هؤلاء لاصطناع قراءات تنويرية وتحريرية للقرآن والسنة، والتيارات الفكرية والدينية السلفية والأشعرية، والخروج بعد كتبٍ ممتدةٍ، إلى أنهم تمكنوا من تحطيم الإسلام السني. وكانوا في زمن العسكريين والأمنيين الطويل، يحصلون على جوائز منهم بسبب العقلانية التي اشتهر بها حافظ الأسد وبشار الأسد ومعمر القذافي. وهم يجدون اليوم وسط المخاضات الفظيعة التي دخل فيها الجهاديون الحزبيون فُرَصا جمةً للإشادة من جديد بالتنوير الذي عليه الأسد وصدّام قبله، وإيرانيو الخامنئي ونصر الله من بعد (!)
ولا يظنّنّ قارئٌ أنني أصطنع هذا النقاش للاستطراف والاستظراف. فبين يدي 17 كتابا كلّها صادرة بعد عام 2010 همُّها تحرير العرب والمسلمين من الإسلام السني على وجه الخصوص، بحجة صدور الجهاديين والإخوان منه وعنه. ويصارحك البعض الآخر بالانحياز إلى الأصولية الشيعية تارةً بحجة المقاومة، وطورا بأنّ الدين الشيعي متحرر أكثر من السني. وعندي أربعة كتب واحدٌ منها يربط آشور بانيبال بحسن نصر الله في معمعة القصير، والإسلام السياسي السني والعربي بجيفري فيلتمان، وثالث يركّز على العلائق الدينية الوثيقة بين الاثني عشرية والعلويين، ورابع يعتبر أنّ القومية العربية هي صناعة الأقليات الشيعية والعلوية والمسيحية، وعندما دخلتها الأكثرية فسدت؛ ولذلك لجأ القوميون السابقون واليساريون، ويلجأون، إلى «تحالف الأقليات» الذي يناضل باسمه اليوم حسن نصر الله والقوميون السوريون! أمّا الكتب الأُخرى (الأكثر جدية!) فتدخل في أبواب التحرير والتنوير والتطهير وضدَّ الإسلام السني فقط! ومن الفظائع التي روَّجها حسن نصر الله عندما أراده الخامنئي على الذهاب إلى سوريا لمقاتلة الشعب السوري لصالح بشار الأسد وإيران، زعمه أنّ خصومه هم التكفيريون، أي المسلمون السنة، إذ كيف سيفرّق مدفعُهُ بين من يكفّر الشيعة ومن لا يكفّرهم (!) ولستُ آخُذُ ذلك عليه فقد فعل دائما ما هو بهذه المثابة أو أفظع؛ بل الفظيع أنّ وسائل الإعلام العربية (والمصرية على وجه الخصوص) صارت تُسمّي كلَّ الداخلين في الأعمال الإرهابية: تكفيريين، في سيناء وغيرها! وهذا الأمر كمن يتهم نفسه ودينه. بل القتلة في سيناء وغير سيناء هم انتحاريون وإرهابيون ومُحاربون (كما سمّاهم القرآن)، ولا داعي لاستخدام مصطلحاتٍ ابتدعها غيرنا لإدانتنا. وها هو الخامنئي والمالكي والآخرون من ذاك المعسكر يعرضون على الأميركيين والدوليين القتال معهم ضد الإرهاب (السني بالطبع)، وهم يتقربون إليهم بأنهم يقومون بذلك في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأفغانستان!
هناك إذن مخاضٌ عظيم بداخل الإسلام. وقد دخلت فيه ضدَّ الدين فئتان: فئة باسم التنوير والتحرير، وفئة باسم الإسلام الشيعي ضد الإسلام السني. وإذا كان الإيرانيون وأتباعهم يفعلون ذلك من أجل مصالح عاجلة دونما تفكيرٍ بالعواقب، فلستُ أدري ما هي مصلحةُ الكاتبين العرب في الحملة على الدين بحجة الإصلاح، وقد كان بوسعهم إذا شاءوا أن يكافحوا الأصوليات والشموليات مباشرةً، ودونما حاجة لإثبات «سنية» هؤلاء أولا، ثم الحملة على أهل السنة منذ كانوا، وهم اليوم 90 في المائة من المسلمين في العالم!
ثم إنّ هؤلاء يقرنون تحرريتهم تجاه الإسلام السني، وإرادتهم الخلاص منه؛ بالانتصار للإيرانيين ولتنظيماتهم المسلَّحة، وحلفائهم الطائفيين في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين. ولستُ أدري ما العلاقة بين انزعاج جورج طرابيشي مثلا من الأرثوذكسية وأهل الحديث في القديم، وانزعاجه من فظائع الأصوليين، وعدم انزعاجه من بشار وفظائعه؛ وهو وأدونيس وعزيز العظمة وأشباههم! كل المعارضين الذين هم ضد مذابح بشار (بمن فيهم ميشيل كيلو المسيحي الماركسي) هم في نظر هؤلاء: طائفيون! أما الأسد ونصر الله فهم علمانيون تنويريون، وإلاّ فَلِمَ لم يحملوا عليهم كما حملوا على كل المعارضين لبشار بالداخل والخارج إمّا بحجة الإرهاب أو بحجة الطائفية!
لا أعرف – إلا فيما ندر- قوميا أو بعثيا أو يساريا إلاّ وهو اليوم مع بشار الأسد وخامنئي ونصر الله والمالكي. ويضاف لذلك المعسكر المصري الذي لا يمكن تصنيفه سابقا ولا لاحقا. وهذا المعسكر الكاره للعرب في مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق ما صار مع بشار وإيران عندما ظهر العنيفون في سوريا مثلا، بل هو منذ بداية الثورة في سوريا على هذا الموقف. وبعض هؤلاء طائفيون بالفعل – كما يحب طرابيشي أن يسمي كل خصومه الفكريين ومنهم محمد عابد الجابري – بمعنى أنهم من مجتمعات شيعية أو علوية أو مسيحية؛ لكن منهم أُناسا من أُصول عربية سنية، وهم يتشرفون بزيارة الأسد أو أحد مسؤولي حزب الله أو يذهبون إلى طهران، دوريا. وإذا دقّقت معهم ناحوا على صدام، كأنما إيران كانت أصدق أصدقائه، أو قالوا إنهم منزعجون لتفكيك جيش الممانعة السوري، كأنما هو يتفكك في مواجهة إسرائيل وليس في مواجهة شعبه!
هناك مخاضٌ عظيمٌ يمرُّ به العرب بشرا ودينا ومجتمعاتٍ ودُوَلا. وقد قال لنا رسولُ الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه إنه يأتي على الناس زمانٌ يكونُ فيه القابضُ على دينه كالقابض على الجمر. إنه زمانُ القبض على جمر الدين وجمر العربية والعروبة. نعم، نحن مسؤولون ولسنا مسؤولين وحدنا: «وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تُسألون».
…………………………………………..
الحملة على الإسلام.. قراءة مغايرة
جورج طرابيشي
أحدث مقال الكاتب رضوان السيد المنشور بتاريخ 18 أبريل (نيسان) الحالي تحت عنوان: «الحملة على الإسلام والعرب» جدلا كبيرا بين أوساط المثقفين العرب. «الشرق الأوسط» ولإيمانها بحق الرد على كل ما تنشره، تنشر اليوم رد الكاتب جورج طرابيشي.
في مقال منشور في صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 18/4/2014 تحت عنوان: «الحملة على الإسلام وعلى العرب»، شنّ السيد رضوان السيد هجوماً شرساً على شريحة من المثقفين العرب ممثَّلين بالراحل محمد أركون وأدونيس وعبد المجيد الشرفي وعزيز العظمة وجورج طرابيشي. وكما هو واضح من عنوان مقاله، فإن التهمة الموجهة إلى هؤلاء المثقفين، كشريحة تمثيلية لغيرهم من المثقفين من ذوي الاتجاه اليساري والقومي والعلماني، هي التآمر – وليس أقل من ذلك – على الإسلام والعرب. ومن يقرأ بيان الاتهام هذا يلاحظ للحال أن مضمونه لا يطابق عنوانه. إذ بدون أن تغيب كلمات العرب والعروبة لفظياً، فإن الاتهام الموجّه إلى أولئك المثقفين الخمسة هو حصراً – وليس أقل من ذلك – المشاركة الفعالة في «الحملة على الإسلام». ولكن مع مزيد من التدقيق سيلحظ القارئ أن هذه الحملة المزعومة التي يقودها أولئك المثقفون ليست على الإسلام بإطلاقه، بل على «الإسلام السني» حصراً. وصائغ بيان الاتهام لا يتردد في أن يتبنى هذه الحصرية بقوله في السطر السابع من مقاله إن المقصود بالحملة التي يقودها حاملوها الافتراضيون هو «بصراحة الإسلام السني».
ولنكن بدورنا صريحين، ولنقل إن ذلك «الإسلام» الذي يحضر بإطلاقه في العنوان يخلي مكانه في النص ل«إسلامَيْن»: الإسلام السني والإسلام الشيعي. ففي نص لا يتعدى تعداد سطوره 42 سطراً تتردد 26 مرة ألفاظ «السنة» و«الشيعة»، و«السنية» و«الشيعية»، و«السني» و«الشيعي»، مع التوكيد مراراً على أن هدف الحملة المزعومة هو «تحطيم الإسلام السني» و«تحرير العرب والمسلمين من الإسلام السني على وجه الخصوص» و«التحرير والتطهير ضد الإسلام السني فقط».
وفي مقابل هذا «الإسلام السني» الضحية لا يحضر «الإسلام الشيعي» والمثقفون الخمسة المتآمرون معه إلا بصفة الجلاد. وشخصياً لست بصدد الانتصار للضحية، ولا بصدد تبرئة الجلاد. وإنما إن يكن هناك من ضحية في اعتقادي فهو «الإسلام» بإطلاقه وبألف ولام التعريف، وإن يكن هناك من جلاد، فهو الذي يتبنى ويروِّج لتلك القسمة المانوية للإسلام إلى إسلامين: واحدهما خيِّر كل الخير، وثانيهما شرير كل الشر، أو بالعكس: واحدهما شرير كل الشر، وثانيهما خيِّر كل الخير.
وما دام السيد رضوان السيد قد اختار لبيانه الاتهامي عنوان «الحملة على الإسلام»، فلأعترف له أن هذه الحملة قائمة على قدم وساق فعلاً، ولكنها بالضبط تلك الحملة التي تجعل من الإسلام إسلامين، وزيادة في الطين بلّة: إسلامين متنابذين ومتناحرين حتى النفَس الأخير.
وهنا ليسمح لي السيد رضوان السيد أن أسأله: إذا كان الإسلام هو الدين الذي نزل به القرآن، فهل القرآن سني أو شيعي؟ وإذا كان من أُنزل عليه هذا القرآن هو الرسول محمد، فهل كان هذا الرسول سنياً أو شيعياً؟
إن بليّة عظيمة قد نزلت بساح الإسلام تمثلت بمقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة، ثم بمقتل الحسين حفيد الرسول و«قرّة عينيه»، ثم باقتتال طائفي بالسلاح وبالكلام تتابعت موجاته بين علو وانخفاض على مدى قرون، وصولاً إلى يومنا هذا الذي يمثل مقال السيد رضوان السيد أحدث حلقاته بدون أن يكون آخرها.
إنها فعلاً إذاً «حملة على الإسلام» يقودها ويخوض غمارها كل من يتبنى ويرِّوج لتلك الثنائية المانوية التي لا تريد أن تتصورالخير في معسكر، إلا بقدر ما تنسب الشر إلى المعسكر الآخر، وذلك تبعاً للانتماء الطائفي الذي يلومني السيد رضوان السيد شخصياً على كوني بالغت في التحذير من وخامة عواقبه.
وبقدر ما أن بيان الاتهام يتصل بشخصي – إلى جانب الزملاء الأربعة الموضوعين في قفص الاتهام – فليسمح لي صائغه أن أتوقف عند نقطتين.
فثمة، أولاً، إشارة ضمنية في بيان الاتهام إلى أنني انفردت بنقد «الأرثوذكسية السنية» و«أهل الحديث» دون سواهم من ممثلي «الأصولية الشيعية». وأنا أقرّ بالفعل بأني في كتابي الأخير «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» لم أتعرض بالنقد إلا إلى أئمة المذهب السني بدءاً بمالك والشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل وانتهاء بابن حزم والغزالي والخطيب البغدادي وابن الجوزي. ولكن لو كان متهمي اطلع فعلاً على كتاباتي، لكان أدرك أني كنت سبّقتُ هذا النقد لممثلي المذهب السني، بنقد لا يقلّ صرامة من وجهة النظر العلمية عن نقدي لممثلي المذهب الشيعي في كتابين لي على التوالي: «هرطقات2» و«المعجزة أو سبات العقل في الإسلام»، وفي عدادهم الكليني والحلّي والعاملي والطبريان الشيعيان الكبير والصغير والنوبختي والطوسي والموسوي والراوندي والمجلسي والبحراني (من دون ترتيب للتسلسل التاريخي)، وصولاً إلى الإمامين الخوئي والخميني.
وهناك، ثانياً، التهمة الموجهة إليّ شخصياً ومفادها أني، في عداد جملة القوميين واليساريين والعلمانيين، أؤيِّد النظام السوري ورئيسه الأسد. ولن أردّ هنا على هذه التهمة الموجهة بالجملة إلى ممثلي هذه التيارات، مع أن العديد منهم كانوا من نزلاء سجون النظام السوري. ولكن لست أجد مناصاً، ما دام الأمر يتعلق بشخصي واسمي وموقفي، من أن أتحدى متهمي بأن يأتي بدليل واحد على ما يدعيه من تأييدي للنظام السوري ورئيسه. فأنا، بعد تجربة في السجن في عهد البعث، اضطررت إلى أن أهاجر عن بلدي منذ 42 سنة؛ وطيلة العقود الأربعة التالية، ورغم كل ما أسهمت به في خدمة الثقافة العربية (نحو من مائتي كتاب مؤلف ومترجم)، لم أُكرَّم قط في بلدي، ولم أُمنح جائزة من مؤسساته، بل لم أًدعَ ولو مرة واحدة إلى حضور ندوة واحدة من الندوات التي كانت تنظمها هذه المؤسسات. وهذا فضلاً عن أن كتابي الذي يجرِّمه متهمي ضمنياً، وأعني «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، قد صودر في معرض دمشق للكتاب ومنع من دخول سورية. وعندما اندلعت الانتفاضة السورية قبل ثلاث سنوات كتبت مقالاً عرف توزيعاً واسعاً بعنوان «سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء» طالبت فيه النظام السوري، لا بإصلاح نفسه – فتلك كانت خطوة قد فات أوانها – بل بإلغاء نفسه بنفسه، إذا كان يريد تجنب الحرب الأهلية في بلد كسورية متعدد الأديان والطوائف والإثنيات. ومنذ ذلك الحين لم أعد إلى كتابة أي مقال آخر، لا عن النظام ولا عن المعارضة، ولا عن الغزوة التكفيرية القاعدية الطالبانية. فعندما يرى الإنسان بلده يُدمَّر على نحو غير مسبوق في تاريخ الحروب الأهلية، فإن الألم يشلّ القلم، فلا يبقى له أن يكتب إذا استطاع أن يكتب سوى: وداعاً يا سورية التي كنت أعرف.
*كاتب سوري.
……………………………………
الخليج لا يحتاج إلى (قرضاوي) آخر
د. محمد عبد المطلب الهوني
طالعتنا صحيفة «الشرق الأوسط» في عددها الصادر يوم 18 أبريل (نيسان) الحالي، بمقال للأستاذ رضوان السيد تحت عنوان «الحملة على الإسلام.. والحملة على العرب»، يهاجم فيه كوكبة من المفكرين العرب، وهم الأساتذة جورج طرابيشي وعزيز العظمة وعبد المجيد الشرفي والمرحوم محمد أركون.
وعلى الرغم من ضعف تماسك المقال، وهو سمة مشتركة لأكثر كتّاب المقالات اليومية، فإن الاتهامات التي وردت فيه ضد هؤلاء المفكرين كانت صادمة، بسبب تضمنها وقائع مجافية للواقع. ولنتناول هذه التهم التي ساقها الكاتب في مقاله من دون أن يكلف نفسه عناء الإتيان بقرينة واحدة للبرهنة على حدوثها وإثبات صحتها.
يتهم رضوان السيد هؤلاء المفكرين بأنهم جندوا أنفسهم لهدم الإسلام السني التكفيري لمصلحة الإسلام الشيعي والانتصار للإيرانيين وحلفائهم وتنظيماتهم المسلحة، في كل من العراق وسوريا واليمن والبحرين.
إن إطلاق هذه التهم في حقيقته جريمة، أما من الناحية الفكرية فهي تدل، بافتراض حسن النيات، إما على عدم القدرة على فهم ما كتبه هؤلاء، أو تدل على محاولة ليّ عنق الحقيقة لمصلحة عاجلة، القصد منها التقرب إلى هيكل العجل الذهبي للسياسة بقرابين أسماء فذة امتنعت عن أن تشرك بوحدانية الحقيقة من أجل مغريات الأباطيل.
أما من الناحية الواقعية، فإنني أتحدى الكاتب، وعلى رؤوس الأشهاد، أن يثبت ما يقوله عن «عزيز العظمة» و«جورج طرابيشي» و«عبد المجيد الشرفي»، من أنهم انتصروا لأي طائفة ضد طائفة أخرى، أو كتبوا أو حاضروا في تمجيد الطوائف، سواء أكانت شيعية أم سنية أم خارجية، أو حتى أدلوا بحديث صحافي أو مقابلة تلفزيونية يشتمّ منها ولوغهم في مثل هذه الفعلة.
أما اتهام الراحل الكبير «محمد أركون»، بأنه سخّر قلمه لتحطيم الإسلام السني، فهذا ما لم يستطع قوله حتى القرضاوي. وإن قراءة محمد أركون، تحتاج إلى جد وصبر لا يمكن أن يتحققا بمجرد الاطلاع على عناوين فصول كتبه خلال فترات الاستراحة القصيرة للمؤتمرات.
ما كان يريده محمد أركون، هو تفكيك التراث، لا تحطيمه، من أجل إسلام أجمل، ومسلمين متصالحين مع عصرهم ومع تاريخهم، وبالرجوع إلى النص القرآني وينابيعه الصافية لاستنطاقه وتأويله حتى يكون لدينا فقه عصري جديد ينقذ المسلم من وضعيته التعيسة التي يعيش فيها.
إن سوريا اليوم ولبنان، معرّضان للتشظي والانقسام إلى دويلات طائفية بسبب عدم القدرة على ولوج الحداثة وعلى نبذ الطائفية. إن أركون قد رأى كل ذلك تنبؤا. أما صاحب المقال فلا يرى ذلك الواقع، على الرغم من أنه يعايشه. ثم يقول الكاتب: «خرج علينا قبل الثورات وبعدها فريق تنويري يريد اجتراح إصلاح ديني، يشبه تماما ما فعله الأوروبيون مع تراثهم الديني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولذلك انصرف عشرات من هؤلاء لاصطناع قراءات تنويرية وتحريرية للقرآن والسنة، والتيارات الفكرية والدينية السلفية والأشعرية، والخروج، بعد كتب ممتدة، إلى أنهم تمكنوا من تحطيم الإسلام السني. وكانوا، في زمن العسكريين والأمنيين الطويل، يحصلون على جوائز منهم بسبب العقلانية التي اشتهر بها حافظ الأسد وبشار الأسد ومعمر القذافي. وهم يجدون اليوم وسط المخاضات الفظيعة التي دخل فيها الجهاديون الحزبيون فرصا جمة للإشادة من جديد بالتنوير الذي عليه الأسد وصدام قبله، وإيرانيو الخميني ونصر الله من بعد».
إنني آسف لكاتب في حجم رضوان السيد، يطلق كلاما على عواهنه بهذه الخفة المرسلة. إنني أرد عليه بمجموعة من الأسئلة عليه أن يجيب عنها بالوقائع والبراهين الدامغة:
1- متى ذهب أي من هؤلاء المفكرين إلى إيران؟ ومتى اجتمعوا بالمرشد الأعلى؟
2- متى التقى أحد هؤلاء المفكرين بمعمر القذافي أو ببشار الأسد أو صدام حسين أو حافظ الأسد؟
3- متى حصل أي من هؤلاء على جوائز من أولئك الحكام؟ وأين؟ وفي أي تاريخ؟
4- في أي مطبوعة قرأ الكاتب أن هؤلاء المفكرين أشادوا بحسن نصر الله أو حزب الله، حتى عندما كان في أعلى درجات شعبيته، ويطلقون عليه لقب «سيد المقاومة»؟
5- متى وأين قرأ السيد أن أحد هؤلاء الكتاب أيد مذابح بشار في سوريا أو مدح فظائع نظامه؟
أما قوله إن هؤلاء المفكرين قد كونوا فريقا يهدف إلى اجتراح إصلاح ديني كالذي حدث في أوروبا، فهو صحيح، وللكاتب كل الحق في أن ينتقد هذا المسلك ما دام يرى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
إن المفكرين التنويريين الذين قال الكاتب كل هذا في حقهم، ودبج بقلمه الكثير من الأباطيل، هم أكبر من أن ينخرطوا في حرب طائفية مقرفة لن تكون لها غير نهاية مدمرة للأوطان والمجتمعات.
من حق السيد أن يكون أحد فرسان هذه الحرب ومغاويرها، لكن ليس من حقه جر آخرين إلى خوض غمارها.
ويبقى سؤال قلق، يحوم حول هذا الكم الهائل من الادعاءات والأخبار غير الصحيحة، يبحث عن إجابة:
لماذا هذا الهجوم الشرس على مفكرين يعرفهم الكاتب حق المعرفة، ويعرف أنهم لم ولن يقوموا بما اتهمهم به، ويعرف أنهم ما كانوا في يوم من الأيام أبواقا لأحد، ولم يبذلوا ما بذلوه من جهد خوفا من وعيد أو طمعا في وعد، وحتى عندما تغيرت آراؤهم ومواقفهم من الآيديولوجيات المختلفة، كان ذلك بفعل نقد ذاتي استعملوا فيه العقول؟
إن هؤلاء المفكرين ومَن على شاكلتهم قد نأوا بأنفسهم عن دوامة الحقد والكراهية، واعتبروا أن مسؤولياتهم التاريخية الجسيمة تحتم عليهم تضميد الجراح، ورسم خارطة طريق للمستقبل بعد أن تضع هذه الحروب الطائفية أوزارها، فأمعنوا في نقد البنى الفكرية والاجتماعية السائدة من أجل بناء أوطان للأجيال المقبلة التي لن تعرف سوى دولة الإنسان المواطن.
إن التكفيريين السنة لا يقتلون أهل الأديان والنحل والملل والمذاهب الأخرى فقط، بل هم طائفة داخل الطائفة السنية، يقتلون كل من اعتبروه فاسقا أو ملحدا أو كافرا. فهنيئا لرضوان السيد والقرضاوي بهذه الصحبة الجديدة التي تخلط بين الدين والسياسة، وبين الدولة والطائفة!
عندما قرأت المقال للمرة الثانية استوقفتني كلماته الاستهلالية، وأنقلها حرفيا: «لا يكاد يمر أسبوع إلا ونشهد أحد احتفالين أو الاحتفالين معا: احتفال بالحملة على الإسلام المتشدد والتكفيري والإرهابي، واحتفال آخر بمفكر «تنويري» عربي ما ترك على جسد الإسلام الظلامي والتكفيري لحما ولا شحما».
إذا علم القارئ أنه في يوم 5 من هذا الشهر، ومن هذه السنة، أقيم في تونس حفل تكريمي للمفكر العربي جورج طرابيشي، بطل العجب.
إن هذا الحفل الذي أقامه عدد من المثقفين من مختلف الأقطار العربية احتفاء بجورج طرابيشي، وعرفانا له بما بذله من جهد فكري وثقافي كتابة وترجمة ونقدا في تاريخ العرب الحديث، كان هو القادح على هذه الحملة. فربما اعتملت الغيرة في صدر «صاحبنا»، فأخذ يخبط خبط عشواء، وطاشت أسهم حنقه غيظا، فأصابت الأحياء والأموات.. وإلا فبم نفسر كل هذا الهراء؟
إن رابطة العقلانيين العرب كرّمت جورج طرابيشي لأن له تاريخا في البحث والنقد والترجمة والتأليف، يمتد على نحو مائتي كتاب. وكان من حق رضوان السيد أن يهاجمنا لو أننا قمنا بتكريمه لأنه حضر ألف مؤتمر أو أضاع عمره في المشافهة والنجومية الكاذبة.
وأخيرا، نناشد السيد أن يبتعد بحمولته التكفيرية عن دول الخليج، التي بقيت البقعة الوحيدة الطاهرة من دنس الطائفية، والمعبر الوحيد اليوم عن فكرة التعايش السلمي بين كل الأديان والطوائف. فالخليج العربي بالتحديد، ليس في حاجة إلى قرضاوي آخر.
* كاتب ليبي
………………………………………
مقال (الحملة على الإسلام).. اختلاق وتقوّل غريبان
عزيز العظمة
* نشر الدكتور رضوان السيّد، بتاريخ 18 أبريل (نيسان) 2014، في هذه الجريدة تحت عنوان: «الحملة على الإسلام… والحملة على العرب» مقالا أثار نقاشا واسعا بين المثقفين العرب، وحملة واسعة من الردود على الأفكار والاتهامات التي جاءت فيه، إذ أورد الكاتب أسماء بعينها في سياق مقاله.
جريدة «الشرق الأوسط» كمنبر مفتوح لتبادل الآراء والتعليقات وإتاحة الفرص للكتاب والمثقفين العرب للإدلاء بدلوهم في هذا السياق وإبداء وجهات النظر حول هذه المسائل والقضايا، ترحّب بنشر الردود والتعليقات والآراء.
كما كان لاتّهام الدكتور رضوان السيّد لعدد من المثقفين وذكرهم بالاسم في مقاله، مثار مزيد من التعليقات في بعض وسائل الإعلام.
وكان من الردود التي نشرتها الجريدة أخيرا، ردّا الأستاذين جورج طرابيشي ومحمد عبد المطلب الهوني.
وها هي «الشرق الأوسط» تنشر اليوم مزيدا من الردود حول مقال رضوان السيد، بما فيها رد السيد نفسه، ورد الكاتب السوري الدكتور عزيز العظمة، كما تنشر تعليقا للكاتب المغربي سعيد بنسعيد العلوي.
* ما سبق لي أن ناقشت رضوان السيّد في نصّ مكتوب، ولو أن معرفتنا الشخصية تعود إلى أربعين عاما. ما سبق لي أن ناقشته لأنّني ما كنت مقتنعا بجدوى النقاش معه، وما زلت على هذا الرأي. إن لرضوان ذاكرة استثنائية، وهو محقق جيّد للنصوص التراثية، وله قراءات عريضة في مجالات متعددة، ولو أنّني أرى أنّ اطلاعه على ما تجاوز كتب التراث متسرّع وسطحي يكتفي بالإدراك التقريبي وباستخدام هذا الاصطلاح أو ذاك على نحو خطابي. ولذلك فإنّه لم يسبق لي أن ناقشت كتاباته التاريخية والسياسية ولم أستشهد بها، لاختلاط الأمور فيها ولانطوائها على مقاصد دفاعية وسجالية متأتية عن إشكاليات تاريخية متوهّمة، الكثير منها عامي، وهي تروم نتائج آيديولوجية في خدمة مواقف دينيّة اجتماعية وفكرية محافظة من أفق رأيناه يضيق كثيرا في السنوات الأخيرة. تلك هواجس وسجالات تطبّع بها رضوان السيّد منذ حداثة أمره في الأزهر، مرورا بتتلمذه على العلاّمة الدكتور صلاح الدين المنجد – ذي الهوى الإخواني في السياسة والثقافة – ثمّ تسلقه السلّم في معهد الإنماء العربي الّذي أسّسه القذّافي في بيروت، وصولا إلى حيث هو الآن.
وكما أنّه ما سبق لي أن ناقشت رضوان السيّد كذلك لا أعتزم أن أناقشه اليوم استنادا إلى ما كتبه في جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 18-04-2014 تحت عنوان «الحملة على الإسلام… والحملة على العرب». ولكنْ لديّ تعليق يتناول المقاصد والنتائج والأساليب، إذ إن رضوان هاجمني شخصيا (مع غيري من الأفراد المذكورين بالاسم)، وكفّرني في السياسة كما فعل بغيري. كما أن لديّ طلبا سأسوقه في الختام.
إن ما كتبه رضوان يوم 18-04 كثير الاختلاط كالعادة وغير متماسك في تسرّعه واستعجاله، ويتعذّر فيه على قارئه تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ هذا القارئ الذي يجد نفسه منقادا إلى أن يستشعر من خلال ما يقرؤه من سطور المقال، عصبية طائفية بدائية غير قادرة على التمييز بين الأمور وعلى التعالي عن عماء التعصّب والانتصار لعصبية ما دون السياسة وما فوقها، عصبيّة لا ترى حولها إلاّ فسطاطَيْن: فسطاط الذّات التي لا تحجم، في غياب ملكة التمييز لديها، عن المماهاة بين الولاء للدّم الطائفي والذهاب بهذا الولاء – على تقادمه وضرره – إلى تأييد كل ما نطق باسمه من عاقل أو ناعق أو تكفيري، وفسطاط الآخر الذي ليس على استعداد لانتضاء لواء الاقتتال الطائفي واتّخاذ رضوان السيّد مناضلا قدوة في هذا. على هذا النّحو يصبح كل من كان غير مستعدّ لانتضاء هذا اللّواء متهما بتأييد الفقيه الولي وحزب الله ولواء أبي العبّاس والحرس الثوري وغيرهم.
تلك تهّمة يكيلها لي رضوان ولغيري أيضا، باستسهال يدل إمّا على الخفّة بل الحمق، وإمّا على تهتك في الكيان الأخلاقي والمعنوي. هذه – وغيرها ممّا جاء فيما كتب رضوان – بهتان صرف لا يستند إلى شذرة في الواقع، وليس لديه عليه أي مستند في قول أو نصّ أو فعل. هذا اختلاق وتقوّل غريبان إذ إن رضوان ليس غريبا عنّي ولا هو بجاهل بمواقفي. أمّا أنّه يتهمني بأنّني أعتقد أن الصديق والرفيق ميشيل كيلو طائفي، فهذا أمر غريب إلى درجة العبث. باختصار شديد، إنّ ما أتى به رضوان من بهتان تجاهي، وتجاه البعض من زملائي وأصدقائي ومعارفي، إنّما هو يشكل على الأرجح ومن وجهة نظر القانون قَدحا وذمّا مكتملي الأركان، وهو لم يرتدع عن أن ينشر ما نشر وما كان يجب ألا ينشر في جريدة محترمة على صورة قد ورّطها معه في هذا الأمر. ما فعله الرجل غير أخلاقي ومخالف للقانون، ولعلّه يستذكر أنّ فقه أهل السنة يوجب إقامة الحدّ على القدح والقذف والإفك.
لقد حاولت جاهدا أن أفكر في الأسباب التي أوجبت على رضوان تجاوز حدود الأمانة والأدب والمروءة والقدْر، والافتراء على غيره بهذه الدرجة من الاستهتار. حاولّت تلمّس ما يدعو إليه من التشبيح والضرب يمنة ويسرى علّه يصيب هدفا ما، وهو يطلق خطابا غوغائيا لعله يطمح من خلاله إلى الظهور على شاكلة قرضاوي صغير.
لم أوفق في التوصل إلى الأسباب الممكنة، مع أنّني قلّبت في ذهني الخلافات الآيديولوجية والثقافية والسياسية والفكرية الممكنة، ولكنّني لم أوفق في التوصل إلى الباعث على هذه الفرية على الأشخاص الذين هم على خلاف معه بصدد الشأن الطائفي، وشأن التحرّر والفكر الحرّ. وعلى ذلك فإنّ الأرجح في تقديري هو الشأن الأقرب والأسهل الّذي تراكب على أوهام آيديولوجية وأدّى به إلى هذا التجني وارتضاء استقبال لوثة باعثة على ما كتبه. والأرجح في تقديري أنّه فعل ما فعل لشيء في نفسه. أترك لغيري الإفصاح عن تقديره.
وفي النهاية، إنّني أطالب رضوان وهو منقلب اليوم من ذيل الكهولة إلى بداءة الشيخوخة أن يتوسّل الأمانة والصدق والمروءة، وأطالبه ثانيا بالاعتذار في هذا الموقع بالذات راجيا ألاّ يكون في هذا الطلب تكليف بما لا يطاق. قلت يوما لرضوان، وأنا أمازحه معاتبا إيّاه على الإخلال بالوعد، إنّه من العسير عليّ أن أعتقد أنّه على ذلك القدر من السّوء الّذي يحاول أن يظهر عليه نفسه والّذي بات يتحدث عنه الكثيرون. ولأقلها بصراحة: هذه فرصة تتاح له الآن ليفاجئنا.
* كاتب ومفكر سوري
…………………………………..
ردا على طرابيشي والهوني : لماذا حملتُ على (العقلانيين العرب)؟
رضوان السيد
قرأتُ مقالتَي الأستاذين جورج طرابيشي ومحمد عبد المطلب الهوني، ردا على مقالتي ب«الشرق الأوسط» في 18/4 بعنوان: «الحملةُ على الإسلام والحملةُ على العرب». وقد توقّعت الردَّ بل الردين. وكنتُ قد انتقدت من قبل في مقالةٍ بجريدة «الاتحاد» كتاب الأستاذ عبد المجيد الشرفي الأخير «مرجعيات الإسلام السياسي»، وأردتُ من وراء ذلك الدخول في نقاشٍ معه، لكنه لم يردّ. وقد صَدَقَ حَدْسُ الأستاذ الهوني في الدوافع المباشرة لمقالتي الأخيرة «الحملة على الإسلام». فقد أثارني الاحتفال ببيت الحكمة بتونس الذي أقامته جمعية «أوان» وما قيل فيه. وسأوضّح سببَ أو أسبابَ ذلك.
أولا: أنا مهمومٌ مثل كثيرين من العرب مما يجري بداخل الإسلام، ومما يجري على أرض العرب: فما يجري بداخل «الإسلام السني» من انشقاقاتٍ بسبب الانفجارات الجهادية، وبسبب الإسلام السياسي، منذ أكثر من ثلاثة عقود، يبعثُ على الروع والفزع. وما يجري على أرض العرب منذ الغزو الأميركي للعراق، والتدخل الإيراني المباشر وعبر التنظيمات المسلَّحة وغير المسلَّحة في ست أو سبع دول عربية، يبعثُ على الغضب. وقد تابعتُ مثل غيري من العرب (وعبر ثلاثة عقود) وقائع الانشقاقات والاختراقات بداخل الإسلام، وأصولها القريبة، وصدرت لي عدة بحوثٍ وكتبٍ فيها هي: «الإسلام المعاصر» (1987)، و«سياسيات الإسلام المعاصر» (1997)، و«الصراع على الإسلام» (2005). ويصدر لي الآن بأبوظبي (وهو أول كتبي وليس بحوثي بعد الثورات) كتابٌ عنوانه «أزمنة التغيير: الدين والدولة والإسلام السياسي». ووجهةُ نظري الإجمالية التي لا يتّسع للتفصيل فيها هذا الردّ أنه كان هناك في القرن العشرين إحياءان: سني وشيعي. والإحياء السني وسط ظواهر الحداثة والاستعمار، وتجريفات الدولة الوطنية الفاشلة ذات الأنظمة العسكرية والأمنية، واصطفافات الحرب الباردة؛ تولدت عنه: الأحزاب العقائدية الدينية – السياسية الكبرى مثل الجماعة الإسلامية بباكستان، وجماعة الإخوان المسلمين بمصر ومتفرعاتها العربية، وهذا من جهة.. ومن جهةٍ ثانيةٍ: السلفيات الجديدة التي انفجرت عنفا وجهادياتٍ منذ السبعينات.
أما الإسلام الشيعي فقد نجمت عن إحيائه أيضا حركات عنيفة ضد الدولة الإيرانية الحديثة، وانفجرت في ثورةٍ شعبية عام 1979، وتولت قيادتها المؤسسة الدينية التقليدية، التي أقامت نظام ولاية الفقيه. ولا مجالَ هنا لشرح عِلَل اختلاف المصائر بين الإحياءين، ذوي الأصول الواحدة، واللذين يشتبكان الآن للمرة الأولى بمبادرةٍ من إيران. لكنني زعمتُ في بحوثي وكتبي السالفة الذكر أنّ من أسباب الافتراق في المآلات: صمود الأنظمة العسكرية العربية بسبب اصطفافات الحرب الباردة، في حين تخلّت الولايات المتحدة عن الشاه – وأنّ المؤسسة الدينية السنية لا تملك قوة المؤسسة الدينية الشيعية، بينما لم تبلغ «التحويلات المفهومية» على خطورتها والتي أحدثها الأصوليون السنة درجة تغيير طبيعة الإسلام؛ في حين استطاعت المؤسسة الشيعية تغيير الطبيعة التاريخية للمذهب.
وعلى أي حال، وعندما اندلعت حركات التغيير العربية عام 2011 من جهات الشبان وقوى المجتمع المدني، ما استطاعت الانفراد بإسقاط الأنظمة، كما لم تستطع إقامة أنظمةٍ جديدةٍ، فبرز الإسلام السياسي (الإخواني ومتفرعاته) على السطح لقوة تنظيماته، وشعبيته المعتبرة، وعادت الجهاديات للانفجار في الموجة الثانية بعد تشرذم «القاعدة» ومقتل أسامة بن لادن، وهي الموجة المصنوعة في معظمها من التداخلات بين المحلي العربي، والإقليمي، والدولي. وما سُرَّت الدولة الإيرانية للظاهرة الجديدة (ظاهرة التغيير العربي بجوارها) وارتبكت، بين كلام خامنئي عن إسلامية الثورات وتقليدها للثورة الإسلامية الإيرانية، أو أنها حركاتٌ مصنوعةٌ من جانب أميركا وإسرائيل! لماذا ارتبكت السلطة الإيرانية رغم صداقتها الطويلة للإسلام السياسي المعارض في مصر وغزة وتونس، ورغم احتضانها لجهاديي «القاعدة» بعد تشتيت الولايات المتحدة، والدول العربية لهم؟ لأنها كانت وبالتشارك أو التجاذب والابتزاز قد أقامت وفي حضور الولايات المتحدة مناطق نفوذ في كل مكانٍ بالعراق والمشرق العربي والخليج.
وأحدثت حركات التغيير مَورانا في كل مكانٍ من العالم العربي يُهدّد مناطق النفوذ تلك، وليس في سوريا فقط. وعندما حدث التمرد الشعبي في سوريا تحقّقت إيران من وقوع الخطر، ولذا ما اكتفت بالوسائط مثل حزب الله والتنظيمات العراقية، والمتطوعين الشيعة الآخرين من اليمن وإلى أفغانستان، فتدخَّل الحرسُ الثوري في سوريا أيضا، ودعم الحركة الانفصالية (وليس الحوثية فقط) في اليمن، ونازع على رئاسة الجمهورية في أفغانستان! إنما الجديد الجديد ما كان تدخل الحرس المباشر، بل تلك اللهجة المذهبية الحادّة التي سادت في التحرك كُلِّه، في تجاوُزٍ غير آبِه لكلّ دعاوى الممانَعَة والمقاومة. حسن نصر الله قال إنه ذاهبٌ إلى سوريا لقتال «التكفيريين»، كأنّ مدافعه في القصير والقلمون وحمص وريف دمشق قادرة على التمييز بين المؤمن والكافر أو المكفِّر من أهل السنة بالذات! هل كان ذلك لضمّ الغربيين إلى جانبه أو إسكاتهم بداعي مكافحة الإرهاب.. أم لإقناع المقاتلين المتطوِّعين بضرورة حماية مقام السيدة زينب، الموجود في ضاحية دمشق وليس في القصير، أم الأمرين معا؟
ثانيا: لقد أطلَّ علينا نحن العرب عام 2013، و«الإخوان» ومتفرعاتهم يسودون في تونس ومصر ويتحركون بقصد الاستيلاء في عدة بلدان أخرى، و«الجهاديون» التكفيريون وغير التكفيريين يحضرون في ليبيا وغزة والعراق وسوريا وسيناء، والإيرانيون باسم التشيُّع (وليس المقاومة) يقاتلون لفرض استمرار النفوذ أو تهديد العرب الآخرين في سوريا ولبنان والعراق واليمن والبحرين.
عبر العقد الماضي، أُكل رأس الإسلام السني، إذا صحَّ التعبير، واسودَّ وجْهُهُ عبر العالم وفي دياره من خلال الانشقاقات الجهادية، ومن خلال التضييع في المفاهيم الذي أحدثه الإسلام السياسي بمقولات تطبيق الشريعة، والإسلام هو الحلّ. وجاء الإيرانيون مع الأميركيين وبعدهم لشرذمة المجتمعات وتقسيم الدول (وليس السلطات فقط) تارةً باسم الممانعة والمقاومة، وطورا باسم الشيعة المؤمنين، وضدَّ التكفيريين السنة.
ثالثا: كيف كانت ردود فعل (وليس فعل) المثقفين العرب القوميين واليساريين والتحرريين على ربع المليون قتيل في سوريا، وعشرات الأُلوف بالعراق واليمن وليبيا، واستيلاء حزب الله على الحكومة اللبنانية، وانشلال الدولة بالبحرين، ومهازل العسكريين القاتلة بالسودان والجزائر؟ معظم المثقفين السوريين ناضلوا مع شعبهم ولا يزالون. أما في غير سوريا مثل لبنان ومصر والأردن وتونس وديار الاغتراب، ولدى قلة من المثقفين السوريين، فقد ظهرت ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الذي يعتبر إيران وحسن نصر الله محقّين في ما يفعلانه في العالم العربي. والاتجاه الذي يذهب إلى أنّ العلّة في الإسلام الأُصولي السني ولذا لا بد من الوقوف مع بشار الأسد حتى لا يصيبه ما أصاب صدّام حسين؛ فهو البقية الباقية من القومية العربية الميمونة، والعرب غير مهيئين للديمقراطية بعد! والاتجاه الثالث الذي وجد ضآلتَه المنشودة في المخاض الهائل الحاصل، فانصرف مباشرة لمتابعة برنامجه التنويري لتحرير الإسلام، ليس من الجهاديات والحزبيات فقط؛ بل ومن «الإسلام التقليدي»، على طريقة المحافظين الجدد، الذين كتبوا عشرات الكتب خلال العقدين الماضيين في التأصيل للإرهاب والعنف في الإسلام السني. وهذا هو الذي أزعجني في كتاب عبد المجيد الشرفي المفكر البارز والمحترم، وكتبتُ ضده.
فعنوان الكتاب «مرجعيات الإسلام السياسي». وهو لا يتحدث عن ظواهر هذا الإسلام المعاصر أو الجديد، بل يمضي بعد الصفحات الأولى لالتماس مرجعيات سيد قطب وراشد الغنوشي مثلا في كلاسيكيات الإسلام في تفسير القرآن، وفي فهم آيات المواريث، وقضايا المرأة. كأنّ خلافنا مع «الإسلام السياسي» اليوم يدور حول استرجاعه للطرائق التقليدية في فهم القرآن والحديث. بينما مشكلتنا مع الحزبيات والجهاديات إنما هي الخروج على ذاك التقليد في فهم النص، وفي فقه العيش في التجربة التاريخية الإسلامية. إنها تجربةٌ انقضت، وقد قضى على أكثر إمكانيات تجديدها أو فتح التقليد أو اختراعه (بحسب تعبير هوبزباوم) الإصلاحيون والسلفيون والتنويريون معا، إنما ماذا نقول للمسلم في هذا الزمان؟ هل نقول له إن الإسلام المعاصر مرفوضٌ لأنه قاتل، والإسلام القديم مرفوضٌ لأنّ المفسِّرين والفقهاء أخطأوا أصلا في فهم النصوص، فضلا عن أن تلك النصوص فيها ما فيها؟ّ هل هذا هو الفهم الصحيح للمسألة الدينية في التاريخ والحاضر؟
ثم وقبل ذلك وبعده، هذا المثقف عربي، وهو يكتب باللغة العربية، ويتحرك في مجتمعاتٍ عربية، والمفروض أنه إنْ لم يمتلك إحساسات ووعيا قوميا، فهو يمتلك على الأقل وعيا وطنيا أو إنسانيا. وهذا ما أزعجني في برامجكم أنتم العقلانيين والتنويريين العرب. أنت يا أدونيس من سوريا، وكذلك أنت يا عزيز العظمة، ويا جورج طرابيشي، مع حفظ الألقاب، أليس لكم موقفٌ من المذبحة في سوريا، في وطنكم؟! كيف «تقرفون» من «سلفوية» الثوار وعاميتهم وغرائبيتهم وإساءاتهم، أو خروجهم في مظاهراتهم من المساجد (قرأت في تقريرٍ للأُمم المتحدة أنه دُمِّر في سوريا ألف وخمسمائة مسجد بالطائرات والمدفعية: وهل تعرفون أن قبر خالد بن الوليد نُبش بحمص، ليس انتقاما لمزار السيدة زينب مَثَلا، بل لأنّ المرويات الشيعية تقول إنّ خالدا كان ضد علي وفاطمة، وحاول «الفتك» بعلي لصالح أبي بكر؟!).
جورج طرابيشي أراد طمأنتي في ردِّه علي فذكر لي أنه ما كتب غير مقالةٍ واحدةٍ عن الحرب في سوريا، ولذلك قلتُ له وأقول: تكتب ستمائة صفحة في نقد أهل الحديث، وثلاثة آلاف صفحة في نقض مقولات الجابري وحنفي، ولا تكتب غير صفحتين عما يجري بوطنك؟! طبعا هذا شأنك أو شأنكم، لكنْ ليس من شأنكم ولا من حقكم بهذه الشروط تسمية أنفسكم عقلانيين عربا، في حين ينحصر عملكم في «تنوير» العرب والمسلمين بشأن الخلاص من موروثهم الديني، وليس من مصائب الحاضر مثل القذافي (معمر وسيف) والأسدي والصدّامي وبن علي والداعشي. تسألني بعد ذلك أيها السيد الهوني عمن أخذ الجوائز، وعمن اشتغل عند العسكريين، ومن أين أتت الأموال، أنا أعرف وأنتم تعرفون اسما اسما وعنوانا عنوانا!
أنا مختلفٌ معكم أيها التنويريون العقلانيون، ليس حول مناهجكم في تحرير الإسلام والمسلمين فقط، بل وحول أَولوياتكم، وحول قوميتكم. ولذلك ما أثارني احتفال تونس لأنه لطرابيشي، بل لأنني توقعتُ أن يكون فرصةً – باعتبار المحتفى به مواطنا عربيا سوريا – بحيث يكون في الحفل حديثٌ عن المأساة في سوريا، وعن ضرورة الخلاص من الأسد وإباداته، ومن «داعش» ومصائبها (وبخاصةٍ أن الأسد والمالكي هما اللذان أحضراها، وطابخ السُمّ آكِلُه)، ومن التدخل الإيراني لشرذمة الدول والمجتمعات العربية. ولذلك فإن مقالتي (التي نُشرت في نفس العدد الذي نُشرت فيه مقالتك يا أخ هوني) كانت عن نهايات القومية العربية التي ما بقي من ممثليها في الحكم غير بشار الأسد بزعم قوميينا في لبنان والأردن! لا أعرف أمةً أو شعبا خذله مثقفوه، كما خذل المثقفون العرب الكبار أمتهم وأوطانهم، في زمن الديكتاتوريات، وفي زمن الثورات!
رابعا: لا أُريد التعرض للغمزات واللمزات الشخصية والعامة والمتعلقة بشخصي ومعارفي. فقد قرأتُ للأستاذ أركون كثيرا وكتبتُ دراسةً مستفيضةً عن أُطروحاته وهي منشورة. وأقرأ للأستاذ طرابيشي منذ السبعينات ترجمةً وتأليفا. وقرأتُ كتابه عن أهل الحديث مرتين. وتعلمتُ من الأستاذ الشرفي في كتبه الأُولى، وقرأتُ كتبه ومقالاته في السنوات العشرين الماضية. وقرأتُ كل الكتب المنشورة للأستاذ العظمة، بما في ذلك كتابه الأخير الصادر قبل شهر. وفيه جديدٌ كثير! فقد كانت أعماله السابقة تنصبُّ على نقض أو تفكيك التجربة التاريخية الإسلامية في الدين والدولة والمجتمع والثقافة، وعمله الجديد ينصبُّ على الحفر في أُصول القرآن والإسلام، وأنه من نتاج «الكلاسيكيات المتأخرة»، وهي أُسطورةٌ أُخرى استعارها كالعادة من غيره، وقد قالت لي صديقةٌ له إنه متحمسٌ «لأُطروحتنا» الجديدة كأنما هي من بنات أفكاره! وفي حين أفدتُّ من سائر مَنْ ذكرتُهم قليلا أو كثيرا، فأنا مختلفٌ معهم في المنهج والأَولويات، وهذا ليس بالأمر الجَلَل، فلستُ ساخطا عليهم من أجل الاختلاف المنهجي وليس من حقي ذلك، بل من طرائق فهمهم للحضارة الإسلامية، ولتأزم الإسلام، ومواقفهم اللامبالية أو الراضية عن المذابح الجارية في العالم العربي.
ليس صحيحا أيها الأخ الهوني أنه ليست هناك مشكلةٌ ين الإيرانيين والعرب، أو بين الشيعة والسنة اليوم. بل هناك نزاعٌ عنيفٌ ربما كلفنا خسران ثلاث دولٍ أو أربع، وخسائر بشرية قد تبلغ في هولها ما حصل في حرب صدام على إيران! ولستُ أنا الذي أقول إنه ينبغي مذهبة النزاع أو قومنته، بل الإيرانيون والمتأيرنون يقولون ذلك ويفعلونه. وقد أصدرتُ قبل أيامٍ كتابا عن ذلك عنوانه «العرب والإيرانيون وعلاقات الزمن الحاضر»، فاقرأهُ يا أخ هوني إذا شئت!
خامسا: تبقى مسألتان، مسألة الخليج العربي، ومسألة القرضاوي. ولا أدري لماذا بلغت بكَ القِحة حدود الدخول في هذا «الهرج» (وأقصد بالهرج هنا التهريج، وليس بمعنى القتل كما في اللغة السبئية!). الخليج اليومَ هو دائرة الاستقرار والقرار الباقية في العالم العربي. ودوله هي التي تكافح إرهابيي «القاعدة»، وخنزوانات الإسلام السياسي، وتقف في وجه الخراب الذي تحاول إيران نشره في العالم العربي.
أما الشيخ القرضاوي فهو عالمٌ جليل، لكنني اختلفتُ معه ثلاث مرات في السنوات الأخيرة. والاختلاف منشورٌ في الصحف والمجلات العالمية: اختلفتُ معه عام 2009 عندما قال إن إيران تنشر التشيُّع في العالم العربي. ولأنني ما كنتُ أعرف عن الموضوع غير معلوماتٍ قليلةٍ من سوريا ولبنان، فقد لفتتُ انتباهه إلى أنّ الأخطر هو «التشيُّع السياسي» في مثل حالتي حماس والجهاد الإسلامي، وأحوال القوميين واليساريين الموالين لسيد المقاومة. ثم عرفتُ بعد ذلك من مسؤولين عربٍ كثر، ومن رجال الدين، ومن السياسيين، أنّ التشييع جارٍ على قدمٍ وساق. وقد اضطر شيخ الأزهر لذكر ذلك للرئيس الإيراني نجاد عندما زاره. وقد قلتُ لمسؤول سوداني قبل سنوات، وهو من أنصار المقاومة، وكان يحدّثني عن التشييع بالسودان: «يا أخي، المسلمون السنة هم 93 في المائة من العرب، و90 في المائة من المسلمين، فلا عليكَ من التشييع، وحبذا لو يغادرنا إرهابيونا ولو إلى المجوسية، وحبذا أيضا لو يتوقف السودان عن أن يكونَ قاعدةً لإيران في خاصرة مصر وفلسطين، لكان ذلك أمرا عظيما حقا»!
وأما المسألة الثالثة التي اختلفتُ فيها مع الشيخ القرضاوي فهي دعمه المنقطع النظير لحكم الإخوان في كل مكان! فقد ذكّرتُه في حديثٍ طويلٍ نشرتُ بعضه أنّ مقولتي «تطبيق الشريعة»، و«حتمية الحلّ الإسلامي» كانتا مما تراجع عنه. كما ذكّرتُهُ بأنّ الإخوان المصريين وقفوا ضدَّه في حملته على إيران، وقد قال لنا وقتها: «عجيبٌ أمر هؤلاء، ماذا سيفعلون بالدين إن وصلوا للسلطة، إذ يرون اليومَ أنه لا حاجة للدفاع عنه في وجه إيران بالذات»!
إنّ الأمر لا يحتمل الهزل ولا التضييع. الإسلام في خطرٍ بسبب الاختراقات بداخله، وبسبب الهجمات عليه. والعرب في خطر بسبب الهجمة الإيرانية على مجتمعاتهم ودولهم. لا بد من نهوضٍ إسلامي، ولا بد من إحياءٍ عربي. وقد فوتنا الأمرين وينبغي أن نستدركهما. وأنا لا أُخاطب الزملاء العقلانيين بذلك، ولا أطلبه منهم، فهم جميعا في دار الغُربة، والغربة غربتان: غربةٌ عن الذات، وغربةٌ عن الأهل. ورحم الله أبا حيان التوحيدي حبيب الأستاذ أركون! أنا أُخاطب جمهور العرب الذين يعانون في بلدانهم من النكران والإنكار، وفي الخارج من الاستغراب والاستشراق!
إنّ من حقّكم يا سادة أن تبقوا تنويريين كما تشاءون. إنما يظل من حقنا أيضا أن نُصرَّ على رفضنا طرائق تعاملكم مع ديننا ومع قضايا أمتنا:
«وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ..
فعلى أي جانبيك تميلُ؟!».
………………………………………
التقليد والأصوليات والإصلاح
رضوان السيد
رأيت وسط تأزمات الثوران الإسلامي، والصراع بين الجماعات الدينية والدولة، وسوء منظر ومشهد الإسلام في العالم، أنه لا بد لصون الدين في أزمنة التغيير (وهو العنوان الفرعي لكتابي الصادر أخيرا) من ثلاثة أمور؛ الأول: القيام بنهوض فكري وديني تجري من خلاله عمليات نقد تحويلات المفاهيم، والإصلاح الديني. والثاني: إعادة بناء المؤسسات الدينية لتمكينها من القيام بالوظائف والمهام التي كانت لها والتي لم تستطع القيام بها في المرحلة الماضية. والثالث: الانخراط من جانب المثقفين في عمليات إقامة أنظمة الحكم الصالح أو الرشيد في البلدان العربية التي سادت فيها وتسود الديكتاتوريات العسكرية والأمنية المهولة.
وصحيح أن بعض الذين ردوا عليّ جادلوا بشأن الأنظمة الاستبدادية، وهل هي أفضل أم التيارات المتشددة التي تتصارع معها (!)، بيد أن الاعتراضات الحقيقية، ومن جانب الإصلاحيين والتنويريين على حد سواء، كانت على اتجاهات عمليات النقد المفهومي من جهة، والدعوة لتقوية المؤسسات الدينية التي نال منها الضعف، وضاعت وظائفها ومهامها بين الأنظمة الاستبدادية والثوران الإسلامي. ففي مجال النقد المفهومي أو نقد عمليات تحويل المفاهيم، لاحظت أن «التقليد» السني صار ملعونا باعتباره أرثوذكسية رجعية مملوءة بالانسدادات، وانحطاطات الألف عام! وقلت إن هذا التصور أو هذه التصورات التي نشرتها التيارات الإصلاحية والسلفية والتنويرية، وطرب لها المستشرقون ودعاة صراع الحضارات، تمثل نزوعا غير تاريخي، ولا يفهم الإسلام والمسلمين. فصحيح أن «التقليد» السني والشيعي عانيا مشكلات قوية من داخلهما وفي مواجهة حضارة العصر وعصر العالم منذ القرن التاسع عشر؛ لكن الحملات عليهما من كل حدب وصوب، أدت – خلال قرن وأكثر – إلى تحطم «التقليد» وحلول الأصوليات محله، لدى السنة والشيعة. فلدى السنة، ظهر الجهاديون وظهرت الأحزاب الدينية الداعية لإقامة الدولة الإسلامية، ولدى الشيعة انتهى عمليا تقليد أو اعتقاد الإمام الغائب، وحضر الإمام، وجاءت ولاية الفقيه التي استولت بالمذهب على الدولة وإدارة الشأن العام. إنما هل كان ظهور «الأصوليات» دليلا على صحة أو سلامة التقليد الديني؟ المسألة هنا ليست في الصحة أو البطلان، بل في المفاهيم التي سادت عن التقليد، والتي اتخذت منذ الستينات من القرن الماضي من قطائع باشلار وفوكو ومقولات الفوات والتفويت مسوغا لذلك. كان الإصلاحيون والسلفيون قد أخذوا على التقليد إغلاقه باب الاجتهاد، وقصْره على ما آلت إليه المذاهب الفقهية الأربعة. وقد انفتح تقليد المذاهب الفقهية لدى السنة والشيعة داخل المؤسسات وخارجها بعد لأْي. لكن الأمر ما لبث أن اتخذ طابعا مبدئيا لدى المتدينين من الإصلاحيين والسلفيين على حد سواء. فقد أراد الطرفان العودة إلى ما قبل التقليد إذا صح التعبير، وإنْ لأغراض مختلفة أو متباينة. أراد الإصلاحيون العودة للكتاب والسنة للإفادة من قيمهما وعمومياتهما (الخالية من أعباء التاريخ فيما يظنون) في تسويغ الاتجاه للاستمداد من قيم التقدم الأوروبي. وقد توسلوا لذلك بإحياء الاستدلال بمقاصد الشريعة، التي تقول (بحسب تطوير الفقهاء لها بالاستقراء من القرآن والسنة) بالضروريات أو المصالح الخمس: حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسْل، وحق الملْك. ويعني هذا أنه من حق المسلمين إيجاد المؤسسات التي لم يعرفها تاريخهم الديني والدولتي لحفظ وصون هذه الحقوق لإنسانهم واجتماعهم البشري كما صار متعارفا عليه في عالم اليوم. أما السلفيون، فأرادوا جرف التقليد كله باعتباره بدعا وانحرافات، لفتح باب الاجتهاد بالاستمداد من الكتاب والسنة مباشرة. ووسط التحديات الكبرى التي سادت في حقبة ما بين الحربين، أو حقبة نشوء الدولة الوطنية، ثم ظهور الأنظمة العسكرية والأمنية فيها، انحازت فئات من الجمهور إلى فكر الهوية الساخط على كل شيء غربي، والخائف على دينه من كل شيء. ومن موروثات فكر الهوية هذا دوغما الدولة الإسلامية التي تريد تطبيق الشريعة – أو إلى سلفيات القراءة المباشرة للكتاب والسنة، التي استكانت بضعة عقود، ثم عادت للانفجار في جهاديات منذ السبعينات من القرن الماضي.
ولست أزعم هنا أن التنويريين والعقلانيين النقديين كانوا من تسبب فيما آلت إليه الأوضاع في «التفكير الإسلامي» بشأن الدين والدولة. لكنهم في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وعندما كانت هذه الفصاميات تتعملق، كانوا هم ينصرفون إلى نقض الموروث أو التقليد أو التجربة التاريخية للأمة في الدين والاجتماع والثقافة (وما يزالون على ذلك إلى اليوم)، فأسهموا عمليا في نصرة الأنظمة العسكرية، كما أسهموا في تسليم أعناق الجمهور إلى «الإخوان». إن الأصوليات هي انشقاقات حاصلة في الدين الذي حطم الأصوليون هؤلاء مواريثه وتقاليده وأعرافه في فقه العيش، وفي الانسجام بين الدين والدولة. ونقد التحويلات في المفاهيم من جانب نهضويين دينيين ومدنيين (سواء أكانوا مع الدين أو ضده)، يسهم في صنع تصور آخر لإمكانيات استمرارية تاريخية منفتحة، تمكن من الصيرورة إلى مستقبل آخر، وليس العودة إلى ماض أو تقليد لن يعود. لا بد من الانتهاء من دوغمائيات شرور التقليد والأرثوذكسية؛ فقد انتهيا، وأنتم أيها الإصلاحيون والعقلانيون الأشاوس لا تواجهون التقليد، بل الأصوليات التي قامت على أنقاضه!
لقد ارتاع المثقفون من دعوتي لتقوية المؤسسات الدينية (التقليدية). ومؤسساتنا الدينية – نحن أهل السنة – ما كانت طبقة كهنوتية، ولا تستطيع أن تكون. وكانت الدول مسيطرة عليها. وقد انفجر الدين بأيدي الدول والمؤسسات التي كانت الدول تستخدمها. إنما من الذي يقوم في الزمن الجديد، زمن ما بعد العسكريات والأصوليات بالمهام الدينية التي يحتاجها جمهور المتدينين؟ من مثل التعليم الديني والفتوى وقيادة العبادات والإرشاد العام؟ لا بد من إعادة بناء المؤسسات لكي تقوم بهذه المهام التي تشرذمت في أزمنة الفصاميات، أو وقعت بأيدي الأصوليين ودعاة الفضائيات الطائفية والمتشددة. ولن تكون المؤسسات بمعزل عن رقابة السلطات لصون الاستقرار، وصون الحريات الدينية في العبادة والتعليم في الوقت نفسه، لكنها لن تكون تابعة لها، لأن تجربة الدولة الوطنية مع الملف الديني ما كانت تجربة ناجحة!
إن الذين يقيمون تفاضلا اليوم بين «داعش» والأسد، فضلا عن خورهم وخطلهم الأخلاقي والإنساني، ينسون أن الأسد ووالده وأبناء عمه وأقاربه مثل صدام والقذافي والنميري والبشير والعسكريين الجزائريين، كانوا بين أهم أسباب فشل تجربة الدولة الوطنية من جهة، وثوران الأصوليات من جهة ثانية. ولذا، لا بد من أنظمة للحكم الصالح والرشيد، تنهي معاناة الناس من المذابح والإبادات، وتنهي وحشية الانتحاريات التي خرجت على هؤلاء في الأصل! وتمكن بالفعل من القيام بإصلاح ديني يريده التنويريون بإلحاح!
إن لدينا – أيها السادة – اليوم ملفين اثنين: ملف تاريخ التجربة مع الدين في الأزمنة الوسيطة والمعاصرة، وملف سياسات الدين، وهما ملفان مختلفان بالطبع، لكن بينهما وشائج قوية. فالتاريخ وقائع وتجربة واتجاه، ولا تصنعه الرغبات التصورية، مهما بلغ من سموقها ومبدئيتها: «والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
……………………………………………..
نقاش حول مصطلح (الإسلام السياسي)
رضوان السيد
معالي الشيخ صالح بن حميد عالمٌ جليلٌ، وصاحب عنايةٍ ومسؤوليةٍ في قضايا الشأن العام. وقد قرأتُ له واستمعتُ إليه في مناسباتٍ متعددة، وتملكني دائما إحساسٌ بالاحترام والتقدير للدقة والبصيرة اللتين يتميز بهما في تصريحاته ومقالاته. ومن أجل ذلك كلّه رأيتُ أن أُناقشه في ورقته العلمية الأخيرة بالجنادرية عن الإسلام السياسي والسلفية ومقولة الإسلام دين ودولة. والذي أرجوه أن يتّسع صدره لاختلافي معه. ولولا حساسيةُ الموضوع وأهميته في هذه الظروف وكل الظروف، لما كلّفتُهُ هذه المشقة، لكنه الحرصُ من جانب كل الغيورين على الدين والأمة والدولة، والذي يدفعنا جميعا إلى ركوب هذا المركب الصعب!
يرى معالي الشيخ أنه لا معنى لمصطلح الإسلام السياسي، وقد اخترعه الأجانب للإساءة إلى الإسلام. وأنا أقرأ في «سياسيات الإسلام المعاصر» باللغات الحية، منذ ثلاثين عاما، ولي كتابٌ بهذا العنوان صدر عام 1997. ولا أعرف بالفعل مَنْ أول مَن استخدم مصطلح أو تعبير الإسلام السياسي في مطالع السبعينات من القرن العشرين الذي مضى ولم تنقض مصائبه على العرب والمسلمين. والعبرة – كما يقول الأصوليون – بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، بمعنى أنني لستُ مصرا على استخدامه، ويمكن استبداله بأي تعبيرٍ آخَر مُشابه يؤدّي المعنى المقصود منه، لأنه لا مشاحة في الاصطلاح من جهة، ولأنه ليس من الضروري اتّباع ما يقترحه الباحثون أو الاستراتيجيون الغربيون علينا. وقد قضيتُ سنواتٍ طوالا أستخدم مصطلح «الأُصولية» المترجَم، وأشكو من خَطَله وعدم دقته عند إطلاقه في المجال الإسلامي، إلى أنّ عثرتُ على مفردٍ مترجَمٍ آخر هو «الإحيائية» بديلا عنه، وما أزال على شكٍ منه وفيه. فلنعد إذن إلى أصل المسألة. إنّ الأحزاب ذات المنزع الديني الإحيائي في العالمين العربي والإسلامي مثل الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية، وحزب التحرير، وحركة النهضة… إلخ، تذهب تبعا للشيخ حسن البنا والمودودي وعبد القادر عودة، وكثيرين آخرين، إلى أنّ الإسلام دينٌ ودولةٌ ونظامٌ كاملٌ للحياتين الخاصة والعامة. ولأنّ التغريب الفظيع الذي نزل بالأمة منذ أكثر من قرنٍ ونصف أحدث «فصاما نكِدا» – بحسب تعبير سيد قطب رحمه الله – أَبعد الدولةَ – أو نظامَها الجديد عندنا – عن الدين؛ فإنّ تلك الحركات والأحزاب، اكتملت لديها برامج منذ أربعة عقودٍ أو أكثر لاستعادة الشرعية للمجتمع ودولته، من طريق الوصول للسلطة، وتطبيق الشريعة في الدولة وعلى المجتمع. وأحسب أنّ الجميع ما يزالون يذكرون شعارات وهُتافات المتظاهرين في ميدان رابعة العدوية بعد إسقاط الرئيس محمد مرسي، والتي تقول: الشرعية والشريعة! فماذا يمكن تسميةُ هذه الظاهرة أو هذه الأحزاب: أحزاب تسييس الإسلام أو أحزاب الإسلام دين ودولة أو أحزاب الدولة الإسلامية.. ما دمتم يا سيدي لا تحبون تعبير أو اصطلاح الإسلام السياسي!
ثم لننظر في هذا الأمر من الناحية العقدية أولا، ومن الناحيتين التاريخية والسياسية ثانيا. إنّ الشريعة هي الدين كُلُّه، والله سبحانه وتعالى يخاطبنا في كتابه الكريم قائلا: «اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا» (سورة المائدة: 3)، فدينُنا كامل، ومجتمعاتنا تتبادل معه السكينة والاحتضان أو كانت كذلك، حتى ظهر لدينا الإسلاميون التنظيميون والآخرون الجهاديون. ونظريتهم أو رؤيتهم واحدة، وربما كانوا من أصلٍ واحد، لقد تضاءلت الشرعية الدينية في الدولة إلى درجة الزوال. ويوشك الأمر نفسه أن يحدث للمجتمعات (أي أن لا تعودَ الدارُ دار إسلام!) فلا بد من الإعداد والاستعداد لاستعادة الدين إلى الدول والمجتمعات بالحسنى والدعوة والتربية وانتهاج الأساليب المقبولة لذلك في هذا العصر للوصول إلى السلطة لإحقاق الشريعة والشرعية – أو استخدام القوة للوصول لذلك (من طريق الفتية الذين آمنوا بربهم وزدناهم هدى بحسب سيد قطب أيضا) في الدولة والمجتمع، بل ولدى أهل الفسطاطين: مصارعة العالم كلّه!
بالطبع هناك نظامٌ للحكم في التاريخ الإسلامي والتجربة الإسلامية. وعنوانه الخلافة والسلطنات والإمارات.. إلخ. لكنّ كلَّ تلك الأنظمة ما قامت باعتبارها جاءت لإكمال الدين أو استعادته، بل قامت والشرعية الدينية والاجتماعية مكتملة: «والدار دار إسلام، والمسلمون على ظاهر العدالة.. والدين إنما هو كتاب الله عز وجل وآثارٌ وسُنَن.». كما يقول الإمام أحمد. ووظيفة الدول في المجتمعات الإسلامية مثل وظيفتها في سائر مجتمعات العالم: إدارة الشأن العام، ومن ضمن إدارة الشأن العام بالطبع «صَون الدين على أصوله المستقرة» كما يقول الماوردي – وبالاصطلاح المعاصر: صون حرية العقيدة والعبادة. والإمام أحمد وسائر الفقهاء والمتكلمين من أهل السنة لا يعتبرون الإمامة (أو الشأن السياسي) من أركان الدين، كما يذهب لذلك الإسلاميون المُعاصرون، بل يعتبرونها اجتهادا وتدبيرا ومصالح. ولو كانت الإمامة ركنا من أركان الدين (كما هي عند الشيعة) لاستخلف رسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه علينا، أو لكان هناك نصٌّ في القرآن الكريم يوجب ذلك على الأمة. ولذا فإنّ أمر رسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه بالتأمير، إنما هو للنصح بما هو مقتضى العقل والمصلحة وتنظيم شؤون الناس، وعيشهم في مجتمعات. وعندما قال الماوردي إنّ الإمامة واجبةٌ عقلا ونقلا. ردّ عليه إمام الحرمين فورا بأنها واجبةٌ بالعقل والإجماع وليس بالسمْع. وإذا قيل: لكنّ الدولة في الإسلام مكلَّفة بأمورٍ دينية وأحكام. وهذا حقّ، وعلى الدولة إنفاذ الأحكام الشرعية، كما تنفّذ سائر الدول أو الأنظمة الدستور والقوانين التي جرى اشتراعها. والفرق الحاسم لصالح التجربة الإسلامية: أنّ السياسيين ما كانوا هم الذين يصنعون القوانين؛ بل كان الفقهاء هم الذين يشترعون بحسب ما تقرر عن مصادر التشريع في أُصول الفقه.
ولننتقل إلى الزمن الحاضر. ما ثارت الشعوب العربية في دول الأنظمة العسكرية الوراثية بسبب قلة دين حكامها (مع أنّ بعضهم قليل الدين بالفعل!)، بل بسبب الطغيان وسوء إدارة الشأن العام. وثورتها من أجل التغيير، يعني أنها هي القابضةُ على الشرعية الدينية والسياسية، ولا تشكو نقصا في دينها، ولا في اتّباع أركانه وأحكامه. أمّا هذا الخوافُ على الإسلام، والذي يلتهب الآن وبإحدى الصيغتين الإخوانية أو السلفية (الجهادية) فهو عبءٌ على الدين قبل أن يكونَ عبئا على الدولة. لأنه يضع ديننا الحنيف في مواضع التنازع بالداخل، وفي مواقع المواجهة الهائلة مع الخارج. ولا يمكن نسبةُ الثقافة السائدة لدى شباب الإخوانيات والسلفيات الثائرة إلى الضغوط الخارجية أو الداخلية وحدها، بل هناك هذا الوعي الناجم عن «تحويلات المفاهيم»، والتي تُوهمُ الفتيان منذ الصِغَر بأنهم مكلَّفون بإقامة حكم الله في الأرض، أو استعادة الدين بعد أن ضيّعه الغربيون، وضيّعه أهله!
ما كان الخلاف حول مصطلح الإسلام السياسي، ولا حتى حول مقولة الإسلام دين ودولة، يستحق هذا النقاش المستفيض، لولا أنّ هذه المقولات تحولت إلى أحزابٍ وحركاتٍ وتنظيمات تقاتل وتناضل في كل الجهات، فتقسم المجتمعات حتى في عباداتها، وتشتّت الدول، وتزيل السكينة والتوادّ اللذين كان الإسلام عَلَما عليهما بين الديانات حتى وقتٍ قريب. والبلاء عام. فالمذهب الشيعي الإمامي المُسالم، والذي أجَّل الإمامة (أي الدخول في الصراع على السلطة) إلى حين عودة الإمام الغائب، قبضت الدولة القومية الإيرانية تحت عنوان «ولاية الفقيه» على عنقه، وأطلقته للتخريب في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين والكويت وأفغانستان، ولا أدري أين وأين أيضا، ولماذا؟ تارةً لنُصرة التشيع (كما يثور البعض لنُصرة التسنن!)، وطورا لمقاتلة أميركا وإسرائيل، بينما هم لا يقاتلون في الحقيقة غير المسلمين الآخرين!
لدينا مهمةٌ ثقيلةٌ، وعملٌ طويلٌ، لتحرير الدين من عمليات الصراع على السلطة باسمه، ومن الاعتقاد من جانب بعض شباننا بأن الدين ضاع، وعليهم أن يستردوه. فاللهم سترك ولطفك!.
………………………………………
تكفيريون وديمقراطيون!
هاشم صالح
يشكِّل الإسلام والمسلمون الشغل الشاغل لمفكري الغرب وقادته السياسيين حاليا. هذا ما لمسته لمس اليد أثناء تجوالي في العديد من المكتبات الفرنسية مؤخرا. فالكتب الصادرة عنا في الآونة الأخيرة لا تُحصى ولا تُعد، فيها الغث وفيها السمين. من بين المشغولين بنا وقضايانا نذكر الكاتب الفرنسي فيليب ديريبارن، وهو عالم اجتماع وكان أحد كبار التكنوقراط في عهد الرئيس الأسبق جورج بومبيدو، كما أنه باحث في المركز القومي للبحوث العلمية الفرنسية، وهو من مواليد الدار البيضاء في المغرب عام 1937، وبالتالي فالعالم العربي أو الإسلامي ليس غريبا عليه. وقد لفت الأنظار مؤخرا بكتابه الذي اتخذ العنوان التالي «الإسلام أمام الديمقراطية». نلاحظ منذ البداية أنه يضع نفسه تحت سقف المرجعية المعرفية لكبار مفكري الإسلام في فرنسا من أمثال جاك بيرك ومحمد أركون وسواهما.
يرى هذا الباحث أن هناك عراقيل معينة تحول دون انغراس الديمقراطية في المجتمعات الإسلامية، وهو يتساءل: لماذا في كل مرة تخيب آمالنا بقيام الديمقراطية في بلد إسلامي ما؟ لماذا نجد أن تعددية الآراء، واحترام رأي الأقلية، والفكر الحر، هي أشياء ممنوعة تقريبا في معظم البلدان الإسلامية؟ يضاف إلى ذلك أننا لا نزال ننتظر بفارغ الصبر استهلال عهد الحرية الفكرية في أرض الإسلام في كل المجالات بما فيها المجال الديني. في رأيه لا يمكن تفسير ذلك بواسطة العوامل الاقتصادية والاجتماعية وحدها، وإن كان الفقر المدقع يلعب دوره السلبي ولا يشجع على ترسخ الديمقراطية. من ضاق عيشه ضاق فكره! وبالتالي فينبغي أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى ما هو أعمق. بمعنى آخر، فإن السبب يكمن في العقلية ذاتها. فالعالم العربي أو الإسلامي عموما مبهور باليقينات المطلقة ومتشبث بها أكثر من سواه في رأي الباحث. إنه لا يعرف معنى الشك والارتياب والبحث المتعثر والمضني عن الحقيقة، وهي أشياء لا معنى للديمقراطية من دونها. إنه أيضا مهووس بتحقيق الإجماع الكامل الذي لا ينفك يهرب من بين أصابعه. وذلك لأنه يخشى الانقسام التعددي إلى أقصى حد ممكن. ينبغي أن يكون الجميع على نفس الرأي وإلا فالطامة الكبرى! فالنصوص التراثية المرجعية تتحدث عن البراهين القطعية التي ينبغي على الجميع الخضوع لها دون نقاش، إنها تنكر الشك والمناقشة الخلافية الباحثة عن الحقيقة من خلال الحوار والصراع الفكري المفتوح والمبدع. ومعلوم أنه لا معنى للديمقراطية دون حوار واحتدام النقاش بين وجهات النظر المختلفة. ما معنى ديمقراطية بلا نقاش؟ وبالتالي فالمناقشات الحامية التي كانت تدور في الساحات العامة للمدن اليونانية والتي أدت إلى ظهور الديمقراطية لأول مرة معدومة تقريبا في البلدان الإسلامية. ومعلوم أن النقاش أقفل في العالم الإسلامي بعد إغلاق باب الاجتهاد قبل ألف سنة تقريبا. ولم يعد هناك من داع للارتياب أو الشك أو البحث القلق عن الحقيقة. لماذا تبحثون إذا كانت جميع الحقائق قد اكتشفت من قبل الأوائل ولا زائد لمستزيد؟
في مثل هذا الجو يرى الباحث الفرنسي أن مفهوم الديمقراطية يُلغى من أساسه. الديمقراطية ليست فقط صناديق اقتراع! وإلا لأصبح دعاة الفتنة مثلا أكثر ديمقراطية من جان جاك روسو! ينتج عن ذلك أنه لا معنى للديمقراطية من دون جو فكري يسمح بالنقاش الحر والاعتراض وتعددية وجهات النظر المختلفة حول ليس فقط المسائل السياسية، وإنما أيضا الدينية. فالدين حمّال أوجه.
نستنتج من كلام الباحث الفرنسي أن انغراس الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي كله مرتبط بالجواب على السؤال التالي: هل سينجح التجديد الديني هناك أم لا؟ ما دامت التفسيرات الانغلاقية المتشددة لحركات الإسلام السياسي هي المسيطرة والسائدة فلا معنى للديمقراطية في أي بلد عربي أو إسلامي. الديمقراطية ثقافة متكاملة: أي ثقافة فلسفية علمانية ذات خلفية دينية يتسع صدرها للجميع دون أي تمييز طائفي أو عنصري، حيث يتوافر ذلك نقول إن الدولة المدنية الحديثة حلت محل الدولة الثيوقراطية القديمة. من هنا الطابع السريالي العجيب ل«الديمقراطيات العربية» التي ظهرت بعد الانتفاضات الأخيرة. تصوروا الوضع: ربيع عربي أو ثورات عارمة تنتهي بحكم الإخوان المسلمين! هذه ثورات معكوسة. حتى المفاهيم أصيبت في صميمها أو انعكست في مدلولها. كنا نعتقد أن الثورة تقذف بنا إلى الأمام فإذا بها تعود بنا إلى الخلف. ويمشي إلى الوراء الوراء.. فلا همّ لهم إلا التراجع عن منجزات عصر النهضة بشكل تدريجي ومن تحت لتحت تقريبا، لكن مصر الحضارية، مصر العظيمة، كانت لهم بالمرصاد تماما كما في عهد محمد علي الكبير، فأسقط في يدهم. ولهذا السبب حصلت الانتفاضة الثانية على حكم الإخوان في كل من مصر وتونس، والآن في ليبيا القادمة إن شاء الله.
عندما أرى الإخوان و«مثقفيهم» يتباكون على الديمقراطية أكاد أخرج عن طوري! متى كانت الديمقراطية أو الشفافية أو التناوب على الحكم من أولوياتهم؟ متى كانت فتوحات الحداثة وكنوزها تعني لهم شيئا؟ أصلا جان جاك روسو، مخترع الفكرة الديمقراطية، أمر باستبعاد أي جماعة سياسية تستخدم الدين كمطية للوصول إلى السلطة والتشبث بها. وكان يقصد بذلك حزب «الإخوان المسيحيين» الكاثوليكيين الذين ما كانوا يقلون جبروتا وإرهابا للعقول عن الإخوان المسلمين اليوم.. لماذا استبعدهم من الساحة السياسية؟ لأنهم يكفرون كل من لا ينتمي إلى مذهبهم أو طائفتهم مدعين احتكار «الدين الصحيح» أو الحقيقة الإلهية المطلقة. وبالتالي فهم تكفيريون وديمقراطيون في آن معا! وهذا من عجائب الأمور التي لا تدهش أحدا عندنا على ما يبدو. وبالتالي فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية في العالم العربي ما لم تتراجع هذه الآيديولوجيا الانغلاقية الشمولية التي اختطفت الإسلام في غفلة من الزمن وشوهت صورتنا وعقيدتنا في شتى أنحاء العالم.
نقلاً عن الشرق الاوسط .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.