سيف الحق حسن ما يتفاهم بينه الناس هو المنطق وليس اللغة. فاللغة هي أداة فقط. فلم ترد كلمة لغة في القرآن الكريم بصريح العبارة ولكن أتت كلمة لغو، واللغو معناه الكلام الباطل، الكاذب، الذي لا خير فيه، أو غير المفيد بين الناس. بينما جاءت كلمة منطق على لسان نبي الله سليمان، عليه السلام، ((وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير)) [النمل: 16]. فمعناه الكلام المفيد البناء. والحيوانات لها منطق يجعلها تنشئ ممالك ومنظومات مثالية كما في ممالك النحل والنمل. يعتقد المفكر ابن خلدون أن العامي البسيط ينجح في الحياة الواقعية أكثر من المفكر وذلك لانه يكيف نفسه للواقع كما هو من غير أن يلجأ في ذلك إلى قياس منطقي وتفكير نظامي يجعل به قياسا واحدا للأشياء. ولقد سبق هذا المفكر غيره الكثير بهذه النظرية. فمفكري العصر وصلوا لنفس النتيجة بحيث اصبحوا يفرقون بين قوانين الفكر وقوانين الواقع. فالمنطق لا يأخذ صورة واقعية للحياة والتي قد تعرقل صاحبه من فهم الأشياء صحيحا. فإن لم تستطع فهم الأشياء لن تستطيع التفريق بين حق وباطل. ولكن ما يزال الكثير من مفكري المجتمع اليوم يتبعون أسلوب المفكرين القدماء الذي لا يساعد على فهم الواقع. فهم يصعدون بأبدانهم في سماء الفكر بينما تريد أبدانهم العيش في أرض الواقع والتكيف معه بشتى السبل مع الأسف الشديد. أعرض عليك قوانين القدماء لتعرف البون الشاسع بين زمان والآن: 1- قانون الذاتية أو الحقيقة الثابتة: وهم يعبرون عنه بقولهم الشئ هو هو. وأساسه، من شروط الحقيقة أن تكون ثابتة لا تتغير، فإذا تغيرت بطلت أن تكون حقيقة وأصبحت وهما. فكان لديهم أن أصل الكون هو السكون، فلا يسألون عن شئ إلا إذا رأوه متحركا. ولقد إرتد قانونهم عليهم فشلا بعدما أثبت علم الفيزياء أن المادة في حركة مستمرة والسكون هو عدم الحقيقة. ولعل هذا ما قاله الله تعالى قديما في قوله تعالى: ((وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون)) [النمل: 88]. وهذا القانون وفشله يماثل قوانين العلوم النفسية والإجتماعية. فالمجتمع في مفهوم حركي دائم. فالناس قديما تستخدم أقيسة منطقية تعتبر أنها وصلت للحقيقة المطلقة بها غير دارين بأن الزمن في تغير مستمر، وان ما صلح بالأمس قد لا يصلح اليوم او الغد. فحين يصطدمون بالحقيقة المرة يذهبوا للعن الظروف والزمن. فلا الظروف ولا الزمن دخل في سوء تفكيرهم وعدم إدراكهم للحقائق. فترى الناس اليوم تتباكى بالنستالوجيا –الحنين للماضي-، وترجع كل شئ وتقول: حاجات من الزمن الجميل وعندما كنا عام كذا، وكنا كذا، وينظروا للوراء فقط على أنه الحقيقة الوحيدة الجميلة. فلوا أنهم واجهوا متغيرات الزمن بمنطق جديد لما وصلوا لهذا الوضع التعيس. إن من ينجو من تلك المهزلة أولي الألباب، أصحاب الخيال والإبداع، الذين ينظرون للمستقبل ويسعون للتغيير. فقد يفترضوا نظريات ويحاولوا صنع عالم جديد في زمانهم ليغيروا من الواقع. ولكن تجد هؤلاء حوربوا وعذبوا وشردوا وربما قتلوا من أصحاب المنطق الثابت. ولكن يثبت الزمان التالي إن هؤلاء القليلين كانوا على الحق فيخلد ذكراهم، والأكثرية كانت على باطل فيمضوا وقد خلت سنة الأولين. 2- قانون عدم التناقض: وخلاصته أن الشئ لا يمكن أن يحمل صفتين متناقضتين في آن واحد. فالإنسان إما أن يكون حقا أو يكون باطلا ولا يجوز أن يحمل صفة الحق والباطل في نفس الوقت. ويعني لهم ذلك بأن الحقيقة مطلقة وليست نسبية. ولكن هذا ليس صحيحا لأن الحقيقة المطلقة غير موجودة في الحياة الإجتماعية. وإن هي وجدت لا يمكن ان نسميها بحقيقة مطلقة لأنها مقيدة بالقيود النفسية والإجتماعية والحضارية المتحركة. وبالنسبة للطبيعة البشرية، فالإنسان قد يحمل صفتي الحق والباطل في آن واحد وهذا ما يشير الله تعالى إليه في كتابه: ((ونفس وما سواها*فألهماها فجورها وتقواها)) [الشمس: 8]. الفيلسوف الألماني هيجل توصل إلى أن الشئ يمكن أن يكون هو وليس هو في آن واحد. وهذه هي الفلسفة الإجتماعية التي إشتهر بها وسميت ب "الديالكتيك". ابن خلدون سبق هيجل بمراحل وكان لديه نفس الرؤية حتى لقب بهيجل العرب. وهذه الفلسلفة يمكن أن يتبعها من يريد التعرف على الحق والباطل. فالإنسان يمر في حياته بعدة مواقف مختلفة. فبعضها يظن أنها ستكون مصدر خير ولكنها تكون مصدر شر عليه، وأخرى يعتقدها مصدر شر وهي مصدر خير له. والله يشجع على التمحيص والتوكل، وأن لا يجزم أحد بمآلات العاقبات كما قوله تعالى: ((وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) [البقرة: 216]. 3- قانون الوسط المرفوع: وهو يشابه القانون الماضي ولكن يختلف عنه في وجهة النظر. ففيه أن العالم مؤلف من جانبين أو طرفين لا ثالث لهما. جانب الحق وجانب الباطل، أو جانب الجمال وجانب القبح، أو جانب الخير وجانب الشر. فالشئ في نظرهم إما أن يكون في هذا الجانب او ذاك ولا يحتمل التناقضين أو الحياد. فهو منطق من ليس معي فهو ضدي. وهو منطق الوعظ الذي يغذي في النفوس ميلان الأهواء والوفاء للموالي، ويحرض على العداء والصراع ضد المختلف. فأنت إما أن تكون مع الحقيقة أو ضدها. ونحن الحق والطرف الثاني هو الباطل، فمع أي طرف أنت؟. يقول الفيلسوف الإنجليزي شيلر: "إن الحقيقة في ضوء المنطق المطلق واحدة، والأراء يجب ان تكون متفقة. فأنت إما أن تكون مع الحقيقة أو ضدها. فإذا كنت ضدها فأنت هالك. أما إذا كنت مع الحقيقة فليس لأحد أن يجرأ على مناقضتك. إنك محق إذا غضبت من أولئك الذين يجادلون في الحقيقة. الحقيقة حقيقتك". وللأسف، يتوقف الكثير اليوم في هذا المنطق ويضع حكمه النهائي على الناس به، ويميل مع طرف ويكون مع أناس يظن أنهم أصحاب الحق، فيقدم لهم الولاء الكامل مهما فعلوا. أما غيرهم فهم أصحاب الباطل الذين يجب ان ينتصروا عليهم. خطورة الضمير.. كلمة ضمير لم ترد في القرآن الكريم. فإذا كانت مقياس، لكان من الأولى أن يردها الله ملك الناس في كتابه. ولكن هناك كلمة فطر. فالفطرة التي فطر الله الناس عليها هي أن كل نفس ألهمها فجورها وتقواها. ويظن الكثير بأن الضمير هو الذي يمكن ان يحدد ما إذا كان الإنسان يسير على حق أو على باطل، فهذا ليس صحيحا، لأن الضمير نفسه يختلف بين إنسان وإنسان. فترى بعض الناس تذبح وتقتل وتغتصب ولا تشعر بأدنى عذاب للضمير، لأن ضميرها يعتقد أن ما يفعله صحيا، ويوافق شعوره من هذه الأفعال. فبالنسبة لك هي أفعال إجرامية، ولكن بالنسبة له هي قمة الجهاد، والتفاني في عبادة الله لنيل رضاه. لقد نسف تقدم العالم وتطور العلوم كل تلك القوانين السالفة والرجوع للسلف وأصحاب المنطق الثابت والضمير الحي. وقد فرض قانون النسبية والتغيير المستدام نفسه، ولكن مايزال الكثير يقبع في كهوف تلك القوانين من المنطق العقيم. ويتضح لنا، مما سبق، بأن عدم تطابق تلك القوانين مع الواقع وعدم قدرتها على مواكبة العصور، جعل الكثير من الناس مبتلية بداء إزدواج الشخصية والتي تورث أصحابها الزيغ فلا يستطيعون بها التفريق بين الحق والباطل سيما في أزمنة التدليس المريع. وهذا مصداقا لقول الله تعالى بأن أي إنسان في أي عصر في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. وفي هذا العصر ترى من ينصبون أنفسهم قادة للناس، أأمة دين وسياسيين، يتساجلون ويتجادلون بمنطق أفلاطون وعند معترك الحياة يطلبون الرزق والجاه كما بقية الناس. والمخدوعين من الكادحين الذين يسيرون خلفهم لا يحصلون على نتفة مما ناله أولئك الذين يدعون المثالية. ولقد أخبرنا التاريخ عن الكثير ممن يسمون أنفسهم خلفاء الله وكيفية إنفاقهم أموال الناس في بناء القصور الباذخة وشراء الجواري الحسان، وطلبهم فيما بعد للوعاظ. فإذا ذكروا لهم عذاب الله أغرورقت أعينهم بالدموع واكثروا من الصلاة والصوم واتخذوا حج البيت الذي يستطيعون إليه سبيلا سنويا أو جعل دربه "ساساقه"، ليمحوا ذنوبهم المتلتلة. ويأخذ فقهاء السلطان ما فيها النصيب والتي تجعلهم يركبون الفارهات ويبنون القصور ويأكدوا لهم أن ذنوبهم تمحى ولو كانت مثل زبد البحر. وهذا ما يفعله كذلك الظالمون إلى اليوم. فهم يحسبون أن سرقة الناس وظلمهم وقتلهم، هي ليست من كبائر الإثم والفواحش وإنما لمم فقط، والصلاة وصوم الإثنين والخميس والحج يمحيها كلها. والأخطر، وبعد هذا كله، تجد الناس تتعامل مع هؤلاء المجرمين طبيعي جدا ولا يلتفتون لقوله تعالى: ((أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون)) [القلم: 36]. * الحلقة: كيف تفرق بين الحق والباطل (4) عن داء الجدل ومعضلة الدولة.. الثلاثاء إن شاء الله.