د. فيصل عوض حسن في مقالتي السابقة تناولتُ حالة السودان المأزومة على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية، والتي تزداد سوءاً وتراجعاً يوماً بعد يوم، بأيادي تدَّعي الوطنية والانتماء لهذا البلد الطيب وشعبه الأبي، سواء كانوا مُتأسلمين أو قادة قوى سياسية ظلوا – جميعاً – يتلاعبون بالبلد وأهله منذ الاستقلال، وشاركوا في جميع الأنظمة مُتدثرين بثوب الوطنية البرئ من أفعالهم المأفونة والمُخجلة. ومع التدهور المريع والقاع الذي بلغناه الآن يبرز الدور المحوري والحيوي لشباب السودان في صناعة وصياغة مسيرة التغيير الشامل، والخلاص الوطني الحقيقي، بعدما ثبُت وبما لا يدع مجالاً للشك فشل من يُوسَمون بال(نُخب) في إدارة الدولة، منذ جلاء المُستعمر الذي كان أفضل حالاً وأكثر خدمة للبلد منهم! فكل تفكيرهم (إذا جاز أنَّهم يفكرون) مُتمحورٌ في السُلطة والمال وعدم الاعتراف بالآخر أو قبوله، مهما تعالَت الشعارات وال(خُطَبْ)، ودونكم فشلهم لنحو نصف قرنٍ مضى ويزيد في إعداد دستور دائم للسودان، فضلاً عن صراعاتهم الذاتية أو في ما بينهم (داخل الكيان الواحد)، وما تزال هذه الصراعات على أشدَّها، رغم الحالة المُزرية والخطيرة التي يشهدها السودان الآن، وما يُمكن أن يحدث إذا سارت الأمور بالنحو الذي تسير به! وهم في ذات الاهتمامات والأهداف تحكمهم روح ال(أنا)، وليذهب الوطن بأهله إلى الجحيم، والشواهد عديدة والقارئ ليس بحاجة لذكرها، كونها واقعاً مُعاشاً وماثلاً لا يخفى على ذوي العقول! في هذا الإطار، فإنَّ البديل الأمثل يتمثَّل في الشباب باعتبارهم الفئة الأكثر حماساً وحيوية وتقبُّلاً للأفكار العصرية وحركة التغيير، وعدم التقوقُع أو الجمود والتوقُّف في مُعطيات الماضي، تمشياً مع ديناميكية الحياة السياسية المُتَّسمة بالمُستجدَّات المُتلاحقة والمُتسارعة، مع ارتفاع طاقاتهم وإبداعاتهم وطموحاتهم في كافة الأصعدة (سياسية، اقتصادية، اجتماعية … إلخ) لدى هذه الفئات مُقارنةً بالفئات المُجتمعية الأخرى (أطفالاً أو رجالاً أو شيوخ). كما تُعدُّ فئة الشباب – لا سيما المُؤهَّل أكاديمياً ومهنياً – أقوى عناصر التنمية بصفةٍ عامَّة والتنمية الاقتصادية والسياسية بوجهٍ خاص، وبالتالي قدرتهم على الانتصار وتحقيق التغيير المنشود، مُستفيدين من الطاقة البدنية والذهنية العالية المطلوبة في نجاح العمل السياسي بصفةٍ خاصة. وهي أمورٌ وعناصرٌ أتت ثمارها في كثير من دول العالم، سواء في ما يخص دعم القوى السياسية في البلاد الديمقراطية، أو اقتلاع الأنظمة الديكتاتورية وتحقيق الخلاص لدولهم وشعوبهم، وأيضاً الأمثلة كثيرة ولا تخفى على القارئ! بالنسبة لشبابنا السوداني، فرغم الكبت الذي مارسه (ديناصورات) القوى السياسية السودانية، والمتاريس التي صنعها المُتأسلمين لتعطيلهم باحترافية وخبث، إلا أنَّهم ما يزالون بخير، ولا يزال الأملُ فيهم باقياً، ولقد عايشنا الكثير من نضالاتهم واجتهاداتهم، سواء كانوا في إطار قواهم السياسية أو في الإطار المُجتمعي العام. ولا نُبالغ إذا قلنا بأنَّ جميع القوى السياسية، بما في ذلك الحركات النضالية، تعتمد في كل ما تفعله وتقوم به على الشباب، ومع هذا لا يجدون لهم (أي الشباب) موطئ قدم أو فرصة في إحداث التغيير الحقيقي إلا وفق أهواء قادتهم الذين فشلوا في هذا الأمر! وكيف يحدث التغيير والقيادات إما مُتكلِّسة لا تتزحزح عن أماكنها أو قاصرة في طموحاتها واتجاهات تفكيرها، أو تسعى لذاتها وترسيخ تواجدها رغم فشها المُتواصل وتقدُّمها في العمر، أو نهمها الكبير لتوريث أوضاعها ال(سلطوية) لأسرها وعوائلها، أو تستهلك طاقات شبابها وجهودهم في صراعاتٍ جانبية مع الآخرين أو داخل الكيان الحزبي أو النضالي الواحد! مما زاد حالة السودان سوءاً، لا سيما في عهد المُتأسلمين الأسود، ومُغامراتهم وشهواتهم وملذاتهم التي لا تنتهي ولا تحدها حدود، وأساليبهم الخبيثة في استدامة أوضاعهم ودمارهم للبلد عقب استغلال الثغرات أعلاه، وبلوغنا حدوداً غير مسبوقة من التراجع، بل واقترابنا من التلاشي تماماً إذا لم تكن هناك أفعالاً حقيقية ومُخلصة لإنقاذ البلد، ولا يوجد غير الشباب لقيادة وإدارة هذه الأفعال. فالسودان الآن يزخر بفئة شبابية ثرية من الجنسين، ومُؤهَّلون تماماً لقيادة أو صناعة وصياغة عملية التغيير المنشودة بنجاحٍ تام وسريع جداً. فبالإضافة إلى شباب الأحزاب والقوى السياسية المعروفة كالبعث والأمة والاتحادي والشيوعي وغيرها، هناك شبابٌ يافعٌ أيضاً، في كياناتٍ نوعية، وعلى درجة عالية من التأهيل الفكري والأكاديمي، ومن ذلك شباب جبهة الشرق وتحرير حلايب وشباب الجبهة الوطنية العريضة وأبناء وبنات دارفور وشباب كوش وأرقين ومجموعة قرفنا وشباب تمرد السودان والتغيير الآن وغاضبون بلا حدود وشباب الجبهة الثورية والحركات النضالية وقوى الإجماع الوطني والحركة الشعبية وغيرهم كُثُر، مع إمكانية استيعاب كافة الطاقات الشبابية المُستقلَّة، وإنما ذكرنا ما تيسَّر لنا ذكره وعلى سبيل المثال فقط. وجميعها تُعارض، ورُبَّما تُقاتل، المُتُأسلمين وفسادهم وإفسادهم، ومنهم من حقَّق نجاحاتٍ لكنها ظلَّت محدودة ولم تُحقق التغيير المنشود! وهنا يتبادر السؤال المحوري.. لماذا لا تتحد هذه الفئات الشبابية، بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية أو العقائدية أو الجُغرافية، لتعمل على تغيير هذه المجموعة الإسلاموية المُغامرة واقتلاعها من الأساس، طالما كانت هي العدو الأوحد؟! وليكن اتحادهم لتحقيق الهدف الأسمى والأنبل، وهو التغيير والخلاص الوطني، بعيداً عن قياداتهم التي لا يهمها وطن أو شعب! هذا الاتحاد ال(حُلُمْ) يمكن تحقيقه بقليلٍ من التدابير، تبدأ بالتنسيق بين هذه الكيانات الشبابية (داخلياً) و(خارجياً)، ويُمكن مثلاً تشكيل مجلس قيادي من هذه الفئات، عقب قيام كل كيان، أياً كان (حزب أو حركة نضالية أو تجمُّع سياسي) سموه ما شئتم، بتسمية شخصين ليمثلوه في المجلس القيادي لشباب السودان. نعم أُكرر وأُشدد على مُقترح (اسم شباب السودان)، بعدما فشلت (النُخَبْ) في خلق وإدارة سودان واعد وناجح على مدى ستين عاماً مضت، قضوها في ما أشرنا إليه أعلاه. ليضع هذا المجلس الشبابي التدابير والخطط اللازمة لاقتلاع هذه الفئة المأفونة فوراً، وبآلياتٍ تطبيقيةٍ وعملية، دون شعاراتٍ على شاكلة (مقاطعة انتخابات وغيرها)، إذ لا يوجد مُبرر لانتظارها شهرين أو حتَّى يوم! فمع كل ساعة تمر يرتكب المُتأسلمين، ومن شايعهم، أفظع الجرائم ضد البلد وأهلها، سواء بالقتل أو الاغتصاب أو التشريد أو البيع أو إتاحة أراضينا للمحتلين، وآن أوان العمل الفعلي وأنتم قادرون على التغيير يا شباب السودان. لقد نادى فريدريك نيتشة في ما نادى بالنضال، باعتباره يعكس – أي النضال – كينونة المرء وما يملكه من قوةٍ وإرادة، والتي يصعُب تحقيقها إلا بمُجابهة الواقع المرير والعمل على تغييره، والتضحية لتحقيق حياة كريمة ومجيدة، وإلا ظلَّ هذا المرءُ عبداً ذليلاً يتحكَّمُ فيه الآخرون، بدايةً بتفكيره وانتهاءً برغباته وطموحاته. وانهيار الدول سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأخلاقياً واجتماعياً (يُحفِّز) المُبادرات المجتمعية نحو التغيير عبر التنظيمات المُختلفة، بغض النظر عن انتماءاتها الفكرية الخاصة أو عرقياتها أو عاداتها وتقاليدها واهتماماتها الضيقة، فالهم أكبر ويطالُ الجميع، وهو ما نحياه الآن في السودان بعدما أتى المُتأسلمين على ما تبقَّى منه! وشعبنا السوداني يبحثُ الآن عن قيادات بديلة آتية من رحم هذه الأرض الطيبة، ومن أجساد أهلها الذين أهلكهم مُغامري السلطة وتُجَّار الدين، أخذوا جميعاً فرصتهم الكافية لنهش جسد البلد الذي أضحى خواء من فرط النكبات المُتلاحقة لما يفوق نصف قرنٍ من الزمان، وآن أوان التغيير بإرادتكم وعزيمتكم العالية والقادرة على تحقيقه. فقط تحتاجون للاتحاد، ويُمكنكم تحقيق هذه الأمنية، إذا ما اتَّخذتم فكرة المجلس القيادي لشباب السودان كبداية لتلافي ال(عَتَه) والصراعات النخبوية التي مارسها من قادوا البلاد فأوردوها موارد الهلاك، وبعدها وعبر نقاشاتكم الداخلية وتنسيقكم يمكن تطويرها وتطويعها، بما يُحقق آمال وطموحات جميع الفئات الشبابية وكياناتها المُختلفة. وبالطبع ستجدون وطنيين من الكبار لن يبخلوا عليكم بالرُشد والتوجيه لإنضاج مسيرتكم الميمونة. يبقى فقط تحرككم العملي والسريع منذ الآن، دون تسويف أو إضاعة للوقت، لإنقاذ ما تبقَّى من السودان وتخليص أهله مما هم فيه وتلافي المصير الكارثي الذي ينتظرهم على أيادي هؤلاء.