شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالصورة والفيديو.. ناشط مصري معروف يقتحم حفل "زنق" للفنانة ريان الساتة بالقاهرة ويقدم فواصل من الرقص معها والمطربة تغي له وتردد أسمه خلال الحفل    شاهد بالصورة والفيديو.. ناشط مصري معروف يقتحم حفل "زنق" للفنانة ريان الساتة بالقاهرة ويقدم فواصل من الرقص معها والمطربة تغي له وتردد أسمه خلال الحفل    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    خريجي الطبلية من الأوائل    لم يعد سراً أن مليشيا التمرد السريع قد استشعرت الهزيمة النكراء علي المدي الطويل    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفضاء العمومي من هابرماس إلى نانسي فريزر
نشر في حريات يوم 26 - 01 - 2015

تتوخى هذه المساهمة الوقوف على نظرية هابرماس في الفضاء العمومي أو في أركيولوجيا العمومية كبعد مؤسس للمجتمع البرجوازي، لرصد بنية هذا الفضاء ووظيفته ووسائل اشتغاله، والدور الذي لعبته في فهم قضايا العالم المعاصر، مع إبراز حدودها المفترضة والتي وقفت عليها أساسا الفيلسوفة الامريكية المعاصرة نانسي فريزر. لا يتعلق الأمر هنا بالمقاربة بين نظريتين فلسفيتين متعارضتين حول الفضاء العمومي، وإنما بإبراز وبيان مضمون أطروحة هابرماس والكشف عن تحليله لمبدأ العمومية في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، وعلى الأخص قراءته الجديدة لكانط ونقده لأطروحة حنا أرندت، وبيان مضمون أركيولوجية هابرماس السياسية والاجتماعية في تحليله لبنيات الفضاء العمومي البرجوازي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لإبراز دوره التاريخي في سيرورة التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع الغربي، ثم راهنية التفكير في مسألة الفضاء العمومي في زمن العولمة وما تطرحه الديمقراطية الحالية من حدود بعد أزمة دولة الرعاية، وما تفترضه من تفكير بلغة هابرماس في الدولة ما بعد الدولة-الأمة (الدولة الوطنية). أما فيما يتعلق بنانسي فريزر فهي لم تضع نظرية في الفضاء العمومي وإنما حاولت أن تعيد النظر في بعض مرتكزات نظرية هابرماس من خلال نقدها للتصور/الإطار الويستفالي Le cadre Westphalien الذي يحكمها والذي يعود إلى الأسس الوستفالية التي أطرت الدولة الغربية الحديثة، معتبرة أن نظرية هابرماس متجاوزة بالنظر إلى متغيرات عالم اليوم وما أفرزته العولمة من إعادة النظر في أسس الدولة-الأمة، وفي النظرية الديمقراطية عامة، انسجاماً ومستجدات الحركة الاجتماعية الجديدة وديناميتها العابرة للأمم والحاجة إلى فضاء عمومي ما بعد برجوازي postbourgeoise بديل. يعود هذا الاختيار إلى أن هابرماس ونانسي فريزر على حد سواء ينتميان معا إلى المدرسة النقدية (النظرية النقدية)، ما يعني أن السجال بينهما هو سجالٌ نظري-معرفي يستمد مشروعيته من التقليد الذي دأب عليه فلاسفة ومنظرو المدرسة النقدية منذ تأسيسها. وعلى الرغم من أنه سجال لم يتخذ شكلاً مباشراً: حوارياً أو تناظرياً إلا أنه معلن عنه، وعلى الأخص في العقدين الأخيرين، حيث دشنه الجيل الثاني والثالث من أجيال مدرسة فرانكفورت بمساهمة كل من: ريتشارد رورتي، أكسل هونيت، هابرماس، نانسي فريزر، سيلا بن حبيب، وجون مارك فيري.
يطرح التفكير في العمومية la publicité العديد من المفارقات والإشكالات المرتبطة بالشأن العام، ذلك أن التفكير الفلسفي في تطوره التاريخي يخضع قضايا الوجود البشري وكل أوضاع وشؤون البشر للسؤال، ولعل العمومية كمفهوم متداول بشكل كبير في الفلسفة السياسية (وعلى الأخص الفلسفة المعاصرة) يجد مدخله الأساس في الترابط الحميمي واللامشروط بين الإنسان كذات مفكرة وعاملة وفاعلة مع نفسه من جهة، ومع الآخرين والعالم من جهة أخرى؛ إنه مدخل الشأن الذاتي والجمعي والشأن العام، الذي يفرض علينا اليوم الوقوف على كل أبعاد العمومية من منظور السياسة ومن منظور الفلسفة.
إذا كانت المدينة-الدولة polis الشرط الضروري لتحديد الإنسان/المواطن عند أرسطوAristote، فإن المدينة-الدولة ذاتها تشترط التمييز بين المجال الخاص le domaine privé والمجال العام le domaine public وهو الشرط الذي وضعته حنا أرندت Hannah Arendt للتفكير في العمومية ضمن ما أسمته Via Activa حياة-فعل بحيث انطلقت من السياسات les politiques لأرسطو لرصد تحولات البنيات الاجتماعية وما رافقها من تحولات في الفعل السياسي، لفهم العالم الحديث.
يعود الفضل في التفكير في العمومية إلى كانط Kant الذي دافع بقوة عن الجرأة في استعمال العقل، تلك الجرأة التي تفترض الشجاعة والاستقلالية والمسؤولية والإرادة، ولكن: أي استعمال ممكن للعقل؟ يميز كانط Kant بين الاستعمال الخاص للعقل والاستعمال العمومي للعقل، وهو التمييز الذي ساهم بشكل كبير في نحت ما سماه هابرماس Habermas بالفضاء العمومي l'espace public، ذلك الفضاء الذي يتداخل فيه الفعل السياسي لتأطير الممارسة السياسية بواسطة الدعاية la publicité لتوجيه الرأي العام l'opinion publique وجهة العمومية، بالفعل التواصلي، وهنا تصير العمومية معياراً لكل تفكير يحكم أي فعل إنساني في الزمان والمكان، وكل قضية من قضايا الشأن العام: العدالة، الحق، السلطة، القوة، العنف، الواجب، الشرعية، المشروعية، إلخ. ومن جهة أخرى الفعل التواصلي وما يفرضه من أخلاقيات للمناقشة والتداول من أجل الإجماع أو التنازع، وما يفرضه هذا من سجال لعل أبرزه بين كارل أوتو أبل K. Otto Apple وهابرماس Habermas، وكل المساهمات المعاصرة التي أتحفنا بها ليوتار lyotardوبول ريكورP. Ricœur ودريدا J. Derridaونانسي فريزر Nancy Fraser وبيتر سلوتردايكP. Sloterdijik وريتشارد رورتيR. Rorty . وبهذا المعنى أصبح التفكير في العمومية مشروطاً بالتفكير في الفضاء العمومي الواقعي منه والافتراضي معاً. فمع التحولات السياسية الجارية اليوم في العالم غدا النقاش ملحاً أكثر مما مضى حول مسألة العمومية وعلاقتها بالديمقراطية (سواء في بعدها التمثيلي أو التشاركي أو ما بعد التشاركي كما هو الحال في مساهمة كاستيل مانييل C. Manuel)، وعلاقة هذه الأخيرة بالشرعية والمشروعية، وانتهاءً بحضور النقاش الديني في هذا الفضاء العمومي.
تتوخى هذه المساهمة الوقوف على نظرية هابرماس في الفضاء العمومي أو في أركيولوجيا العمومية كبعدٍ مؤسسٍ للمجتمع البرجوازي، لرصد بنية هذا الفضاء ووظيفته ووسائل اشتغاله، والدور الذي لعبته في فهم قضايا العالم المعاصر، مع إبراز حدودها المفترضة والتي وقفت عليها أساسا الفيلسوفة الامريكية المعاصرة نانسي فريزر.
لا يتعلق الأمر هنا بالمقاربة بين نظريتين فلسفيتين متعارضتين حول الفضاء العمومي، وإنما بإبراز وبيان مضمون أطروحة هابرماس والكشف عن تحليله لمبدأ العمومية في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، وعلى الأخص قراءته الجديدة لكانط ونقده لأطروحة حنا أرندت، وبيان مضمون أركيولوجية هابرماس السياسية والاجتماعية في تحليله لبنيات الفضاء العمومي البرجوازي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر لإبراز دوره التاريخي في سيرورة التطور الاجتماعية والاقتصادي والسياسي للمجتمع الغربي، ثم راهنية التفكير في مسألة الفضاء العمومي في زمن العولمة وما تطرحه الديمقراطية الحالية من حدود بعد أزمة دولة الرعاية، وما تفترضه من تفكير بلغة هابرماس في الدولة ما بعد الدولة-الأمة (الوطنية). أمّا فيما يتعلق بنانسي فريزر فهي لم تضع نظرية في الفضاء العمومي وإنما حاولت أن تعيد النظر في بعض مرتكزات نظرية هابرماس من خلال نقدها للتصورأو الإطار الويستفالي الذي يحكمها، والذي يعود إلى الأسس الوستفالية التي أطرت الدولة الغربية الحديثة، معتبرة أن نظرية هابرماس متجاوزة بالنظر إلى متغيرات عالم اليوم وما أفرزته العولمة من إعادة النظر في أسسالدولة-الأمة، وفي النظرية الديمقراطية عامة، انسجاماً مع مستجدات الحركة الاجتماعية الجديدة وديناميتها العابرة للأمم والحاجة إلى فضاء عمومي ما بعد برجوازي postbourgeoise بديل.
يعو د هذا الاختيار إلى أن هابرماس ونانسي فريزر، على حد سواء، ينتميان معا إلى المدرسة النقدية (النظرية النقدية)، ما يعني أن السجال بينهما هو سجال نظري-معرفي يستمد مشروعيته من التقليد الذي دأب عليه فلاسفة ومنظرو المدرسة النقدية منذ تأسيسها. وعلى الرغم من أنه سجال لم يتخذ شكلاً مباشراً: حوارياً أو تناظرياً إلا أنه معلن عنه، وعلى الأخص في العقدين الأخيرين، حيث دشنه الجيل الثاني والثالث من أجيال مدرسة فرانكفورت بمساهمة كل من: ريتشارد رورتي، أكسل هونيت، هابرماس، نانسي فريزر، سيلا بن حبيب، وجون مارك فيري.
مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي تناسل النقاش حول الفضاء العمومي ودوره في بناء الديمقراطية وإعادة النظر في الفعل السياسي. ولقد شكلت مساهمة الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس Jürgen Habermas أولى المساهمات التي دشنها في بداية الستينيات من القرن الماضي. وبالنظر إلى ملحاحية النظر في هذا المفهوم من زاوية نظرية-معرفية من جهة ومن زاوية ممارساتية-ملموسة من جهة أخرى، ارتأينا أن نقارب هذا المفهوم منطلقين من رؤية هابرماس الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للعلاقة بين الفضاء العمومي والديمقراطية وذلك من خلال قراءته لكانطE. Kant ولمبدأ العمومية الذي وضعه هذا الأخير (الاستعمال العمومي للعقل)، ومن رؤية بعض الفلاسفة النقديين المعاصرين الذين حاولوا بيان أن رؤية هابرماس لا علاقة لها بالنظرية النقدية التي ينتمي إليها (مدرسة فرانكفورت)، ذلك أن مهمة الفلسفة الاجتماعية هي النظر في الواقع كما هو من أجل تَلَمُّس كافة عناصر الفعل الاجتماعي لاستشراف المستقبل، وما يعنيه ذلك من كون النظرية النقدية أساس أي بناء فلسفي جديد يروم المساهمة بهذا القدر أو ذاك في بناء رؤية وجودية للواقع وللممارسة الاجتماعية خالية من الشطحات الميتافيزيقية والتخيلات والأوهام التي صار العقل المعاصر وكراً لها.
يستمد هابرماس مشروعية خطابه الفلسفي من إرث مدرسة فرانكفورت من جهة، ومن قيمة مساهماته الفلسفية الثاقبة النظر من جهة أخرى، بحيث لا يكاد يفلت من تأثيره كل من ولج عالمه الفلسفي والسياسي من بابه الواسع، على الرغم مما تطرحه بعض أفكاره السياسية حول القضايا العالمية الراهنة من تساؤلات عميقة.
وتكمن جدة مساهمة الفيلسوف النقدي في إعادة نظره في بنية المفاهيم الرائجة آنذاك في حقل الفلسفة السياسية، وعلى الأخص تصور حنا أرندتH. Arendt حول مفهوم الميدان العامle demain public الذي صاغته أواخر الخمسينيات، والسعي وراء بناء تصور بديل وفهم مغاير يأخذ بعين الاعتبار متطلبات المرحلة من أجل التأسيس لفعل سياسي ألماني جديد ينسجم ومرحلة ما بعد النازية. ويحاول هابرماس في قراءته لأرندت العودة إلى مساهمة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط التي صاغها في كتابه 'صراع الكليات‘ le conflit des facultiesوفي مقالته الشهيرة جواباً على سؤال: ما هي الأنوار؟ qu'est-ce que les lumières?
ينطلق هابرماس من واقع ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما تقتضيه الشروط السياسية من التأسيس لمشروع مجتمعي يتجاوز الكوارث التي تسببت فيها النازية، وهي المرحلة التي تُنْعَتْ بما بعد النازية، حيث خاض صراعاً مريراً ضد بقايا النازية في الجامعة الألمانية (حرم حتى من التدريس)، ومساهمة الفلاسفة المعاصرين في التنظير للفكر النازي، وعلى الأخص مساهمة هايدجرHeidegger، التي خص لها هابرماس حيزاً كبيراً في إنتاجاته الفلسفية اللاحقة.
ينسجم هم هابرماس السياسي مع ميوله الفلسفية والمعرفية بحيث مكنته معاشرته وعمله مع فلاسفة الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت من تقوية ممانعة نقدية للفكر النازي 'الاشتراكية القومية‘، وتدخل بشكل مباشر في النضال الطلابي اليساري الذي خبره ونظر له في مرحلة الخمسينيات وعياً منه بأهمية النضال السياسي الذي يقوم به الطلاب اليساريون آنذاك في الجامعة.
من الصعوبة الإلمام بكل حيثيات صعود هابرماس وبالسياق العام والخاص الذي جاءت فيه مساهمته في بناء تصور جديد للفضاء العمومي. ونكتفي بالقول أن كتابه 'الفضاء العمومي: أركيولوجية العمومية كبعد مؤسس للمجتمع البرجوازي‘ الذي نشره سنة 1962 هو أطروحة الدكتوراه الثانية التي قدمها سنة 1961 بجامعة ماربورغ بعد أطروحته الاولى حول شيلنج التي أنجزها سنة 1954 على شكل بحث ضخم في العلوم السياسية والاجتماعية تناول فيها موضوع الأركيولوجيا الاجتماعية والتاريخية للرأي العام كنمط من الهيمنة المؤسساتية داخل المجتمعات البرجوازية الحديثة والمعاصرة.
وينتمي هذا الكتاب الى المرحلة الأولى من تطور فكر هابرماس الفلسفي والسياسي، أي المرحلة التي احتك فيها بالجيل الأول من مدرسة فرانكفورت حيث اشتغل مع أدورنو في نهاية الخمسينيات وتمرس في معهد العلوم الاجتماعية، أي مرحلة أعلن فيها هابرماس انتماءه إلى الفلسفة الماركسية من وجهة نظر مدرسة فرانكفورت التي أعادت النظر في الماركسية، وهو الأمر الذي أنجزه أيضا هابرماس نفسه في كتابه 'بعد ماركس‘Après Marx من خلال قراءاته الجديدة لفلسفة كانط وهيجل. ونشير الى أهمية هذه المرحلة لأن أغلب الدراسات أولت عنايتها للمرحلة الثانية من تطور فكر هابرماس أي مرحلة العقلانية التواصلية التي دشنها في بداية الثمانينات بنظريته حول 'الفعل التواصلي‘، بهدف تجديد النظرية النقدية.
إن التفكير في الفضاء العمومي هو تفكير في الشرط الإنساني الحديث في أبعاده الاجتماعية والسياسية وتحولاته التاريخية، أي تفكير في:
اندماج الفرد في المجتمع
مشاركة الفرد المواطن في الحياة العامة والسياسية
مساهمة الفرد في تعزيز الديمقراطية (السلطة السياسية)
وهي العناصر الأساسية التي شغلت هابرماس منذ وقت مبكر إلى الآن، بحيث قدم مساهمات عديدة من أجل تحقيق ذلك الاندماج وتلك المشاركة والمساهمة.
تثير الصلات الوثيقة بين الفضاء العمومي والمجتمع المدني إشكالات سياسية ستقود في الفلسفة السياسية المعاصرة إلى التمييز بين المجال الذي يشمل الدولة ومؤسساتها من جهة؛ وبين الميدان الخاص الذي يتصل بالحياة الشخصية للأفراد وحقوقهم المدنية من جهة أخرى. وفي الآن ذاته فإن بحث مفهوم العمومية يقتضي التسلح بأكثر من مجال معرفي واحد، وقد اقتصر على التاريخ والسوسيولوجيا معتبرا أن مفهوم الفضاء العمومي مفهوم تاريخي ومقولة تاريخية تستوجب البحث في شروط قيامها وتطورها التاريخي، مميزاً في هذا التاريخ بين الفضاء العمومي العامي والفضاء العمومي الذي يستند إلى النخبة.
وقد عمل على تحديد القيمة السياسية والنظرية لهذا المفهوم معاً، وتتبع تطوره في تاريخ الفلسفة مركزاً على الانتعاشة الحقيقية للفضاء العمومي في القرن الثامن عشر بأروبا والذي ساهمت فيه الطبقة الثالثة الصاعدة (الطبقة البرجوازية) وحاجتها إلى هذا الفضاء لتجاوز النظام الإقطاعي، حيث رصد كل مجالات الاستعمال العمومي للعقل: الصالونات، الجرائد والمجلات، النقاشات العمومية المنتشرة آنذاك والمترافقة مع النمو الاقتصادي وصعود البرجوازية إلى مستوى الإنتاج وتطور الرأسمال الصناعي والمالي.
ووقف في الآن ذاته على كل الحيثيات المتعلقة بنمو العقل العمومي والحاجة إلى أدوات الدعاية التي استعملتها البرجوزاية من أجل توجيه المجتمع وقيادة العقل نحو التحرر من سيطرة الفكر القرسطوي ومخلفاته. مبيناً الدور الاجتماعي والسياسي للفضاء العمومي في نشر الفكر الليبرالي الصاعد لتعزيز الديمقراطية التمثيلية التي كانت بالفعل في تلك المرحلة نظرية ثورية تستجيب لطموح الطبقة البرجوازية وحاجتها إلى الانعتاق من الفكر الظلامي. ففي اقتران ظهور الفضاء العمومي بولادة الدولة الحديثة وتحديداً مع الثورة الفرنسية، التي أدمجت الطبقة المتوسطة في مناقشة وتدبير قضايا الشأن العام خاصة المشاركة في البرلمان، رد على حنا أرندت التي تؤكد أن ولادة الفضاء العمومي تمتد جذورها التاريخية إلى اليونان، إلّا أن نشأة الفضاء العمومي تمّت مع الدولة الحديثة.
يوظف هابرماس مفهوم الأركيولوجيا لرصد دلالة مفهوم الفضاء العمومي من جهة:
تكونه التاريخي
تحولاته المرتبطة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي
وظيفته الأساس: الحوار، الحجاج، الإقناع؛ أي دوره التواصلي
تفاعله مع عناصر البنية العامة للمجتمع البرجوازي
ارتباطه بالرأي العام، وطرق اشتغاله، واستعمال الجمهور للعقل استعمالاً عمومياً كان أم غير عمومي، إمّا في اتجاه قبول السلطة (الاستيلاب والخضوع والهيمنة) أو ضد السلطة (القوة المضادة).
هكذا نميّز مع هابرماس بين مفهوم العمومية ومفهوم الدائرة العمومية sphère publique لأن هذه الأخيرة هي مجال تشكل الرأي العام النقدي الذي يوظفه الجمهور. حيث يقول: "إن موضوع الفضاء العمومي هو الجمهور باعتباره حامل رأي عام ذي وظيفة نقدية". فالعمومية تشير في بعض معانيها إلى المؤسسات العمومية الخاضعة لسلطة الدولة. فالدولة تسيّر تلك المؤسسات تسييراً بيروقراطياً وتتحكم فيها قانونياً وفق التشريعات السياسية والبرامج الفوقية لضمان وظيفتها المتمثلة في ضمان الخدمة العمومية للمواطنين.
وفي معرض بيانه لدلالة مفهوم الفضاء العمومي يبرز هابرماس الفرق بين العمومية ومفهوم الدعاية la publicité التي تفيد آليةً من آليات التأثير في الرأي العام، التأثير في المعيش وعلى عقول الأفراد عبر التحايل والكذب والتغليط وتشويه وتزييف الحقائق عبر وسائل الاعلام. وتهدف الدولة من الدعاية إلى التحكم السياسيla manipulation (أي الاستخدام أو التمويه) في المجال العمومي لتحقيق التطابق بين برامج السلطة السياسية (الحكومية) والحاجيات التي يطالب بها الشعب. لذلك فالدعاية إذن أداة تستخدمها الدولة الحديثة لتوجيه عقول الناس وصناعتها والتحكم فيها وإفراغها من أي محتوى نقدي.
اتخذ مفهوم الفضاء العمومي دلالات عديدة ومتنوعة نجملها فيما يلي:
سياسية: أي نمط اجتماع الافراد في المدينة وكيفية تنظيمهم لشؤونهم ولكيفية استعمالهم لمواهبهم الذهنية والجسدية؛
اجتماعية: لأنه يمثل مسحا لكل البنيات الاجتماعية من جهة مكوناتها ووظائفها وكيفية تفاعل عناصرها؛
اقتصادية: لأن الفضاء العمومي هو أيضا مجال لتبادل السلع والبضائع وحل مشكلات التوزيع، ويشمل مختلف علاقات الانتاج والاستعمال والتبادل ولطبيعة اشتغالها تحررا أم اغترابا (وهو فضاء المجتمع المدني)
ثقافية: ويتعلق الأمر هنا بالإنتاجات الرمزية اللغوية والأدبية والفكرية… حيث تتبع هابرماس حركة الصالونات الأدبية ودور البرجوازية كأفراد خصوصيين لعبوا أدوارا هامة في الصراع بين الطبقة الثالثة وبقايا الاقطاعية…
اثيقية: فالفضاء العمومي يحتاج إلى توجيه الانسان لذاته فكرا وعملا، وهو ما ليس ممكنا إلا بفضل معايير إثيقية معينة سيحددها هابرماس فيما بعد في قواعد أخلاقيات المناقشة، دون أن ننسى حقيقة الفعل الإنساني من جهة منطلقاته وغاياته وأساليب مداولته مع الاخر بخصوص الشأن العام؛
أنطولوجية: وتتعلق بالمجال الذي يوجد فيه الكائن: تربة الوجود المشترك من أجل العيش المشترك. فوجود الفرد داخل الفضاء العمومي هو وجود الكائن داخل مجال مؤسس على مبادئ ومحكوم بقيم حارسة للإنسانية. والفرد يتمتع في هذا الفضاء بكل حرياته المتاحة والتي تنسجم مع العقل من أجل تنظيم هذا المجال تنظيما محكما يجعله متأرجحا بين المجتمع والدولة.
اهتم هابرماس بالفضاء العمومي بما هو فضاء لقضايا الشأن العام (قضايا التواصل والعالم المعيش)، ففيه يتم الإعلان عن المواطنة ويربّى فيه المواطن (الفرد) عليها ويمارسها كاملة، فلا معنى للفضاء العمومي ما لم يكن مجالاً لممارسة المواطنة وللفعل السياسي الديمقراطي المبني على الحوار وتبادل الآراء وصياغة الرأي العام المضاد للسلطة لبناء قوة مضادة للدولة، فإذا كانت الحركات الاجتماعية الجديدة قوة مضادة في وجه السلطة بمختلف أنواعها، فإنها بذلك تسعى إلى بناء سلطة نقيض بمثابة حارس لقيم الكونية، والمحافظة على كينونة الفرد بما هو كائن اجتماعي وسياسي.
تندرج إشكالية الفضاء العمومي ضمن إشكال العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، لأن التفكير في الفضاء العام هو تفكير في الممارسة الإنسانية وغاياتها في أبعادها السياسية والتاريخية والاجتماعية، وتفكير في أدوات اندماج الفرد في المجتمع ومشاركته في الحياة الاجتماعية وفي الممارسة السياسية، أي في الديمقراطية كفعل، وما تقتضيه من وسائط تواصلية تحتاج إلى أطر أخلاقية لتحقيق الإجماع والتنازل في الرأي. وهو ما قاد تفكير هابرماس في النموذج الليبرالي للفضاء العمومي الذي تشكل في المجتمع البرجوازي الأوروبي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث تدخلت البرجوازية عبر الدعاية لتنميط الوعي ولتحقيق السيطرة الكليانية على نمط الوجود الفردي من خلال تشكيل وصناعة الرأي العام، وهو الأمر الذي انطلق منه كارل ماركس في بحثه للأيديولوجيا كوعي زائف تروم منه البرجوازية السيطرة على العقول، عبر التضليل والدعاية لتحقيق غاياتها وأهدافها الاستغلالية. فالطبقة المسيطرة في نظر كارل ماركس لا يمكنها أن تحقق مراميها إلا بالاعتماد على أدوات التعمية والتمويه والتشويه التي تضلل الوعي الفردي، وهكذا ميز ماركس بين أدوات السيطرة والتحكم والهيمنة المادية-المباشرة والتي يلخصها في كل أشكال القمع المادي-الأيديولوجي، وبين أدوات الاحتواء غير المباشرة والرمزية والتي تعمل على إدماج الفرد في المجتمع عبر أدوات التنشئة الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، العمل)، وما تقتضيه التراتبية الاجتماعية في المجتمع الطبقي من احترام لقواعد الانضباط العام لضمان استمرارية الحياة الاجتماعية. وتظل تلك الأدوات في نظر ماركس محكومةً بتوطيد سيطرة الطبقة البرجوازية على أدوات ووسائل الانتاج عبر تدجين قوى الانتاج واستلابها. من هنا استخلص هابرماس، كما رأينا مع ماركس، أن التحولات الكبرى في الفضاء العمومي البرجوازي مرتبطة بتطور علاقات الإنتاج وأشكال التبادل ووسائل التواصل.
في معرض بحثه عن تحديدٍ لمضمون العمومية يرصد هابرماس شكلين من أشكال العمومية التي اخترقت المجتمع الأوروبي في القرنين 18 و19، حيث ميز بين:
عمومية نقدية حاملة لرأي عام نقدي
عمومية دعائية خاضعة لوسائل الإعلام الرسمية وموجهة من طرف الدولة لكل المواطنين وفق أغراضها
ومنه حاول تبرير جملة الخلاصات التي توصل إليها في بحثه للعمومية إلى العودة إلى اليونان مشدداً على أن الفصل بين المجال الخاص والمجال العام لم يظهر إلا في العصر الحديث، حيث تشكل المجتمع الرأسمالي والطبقة البرجوازية التي نشأت تدريجيا داخل الأنظمة القديمة (الإقطاعية)، وتميزت البرجوازية بدفع الفضاء العمومي إلى الظهور كفضاء سياسي هدفه التحرر من بقايا الإقطاعية عبر الصراع الأيديولوجي في كل المجالات (الثقافية، الفكرية، الفلسفية، العلمية، الاقتصادية)، ويرجع هابرماس -كما هو الحال لدى كارل ماركس- التطورات الحاصلة على الصعيد الأيديولوجي (الدعاية عبر وسائل الاعلام) إلى التغيرات الجارية في التجارة الرأسمالية (الاقتصاد): أي خضوع البنية الفوقية للبنية التحتية. محاولاً استثمار هذه المقاربة لبحث أثر علاقات الإنتاج، وأشكال التبادل، ووسائل التواصل، في ظهور النمط الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي.
يتوجه هابرماس في تحليله للعمومية إلى نقد فكرة حنا أرندت التي بينت أن إحدى مميزات الحداثة السياسية هي التمييز بين العمومي والخصوصي؛ فكل أنشطة الانسان وممارساته اليومية، كالعمل والأسرة والدولة محددة بانفصال المجال العمومي السياسي عن المجال الخصوصي أي دائرة الأسرة. إلا أنها لم تركز جهدها على المجتمع الرأسمالي الأوروبي كما فعل هابرماس، ولم تبحث في مسألة الاعلام (الجرائد) ودورها في تداول الشأن العام ومناقشة قضاياه ومشاكله، حيث تؤكد أنه لا وجود للحرية خارج هذا الغياب للفضاء العمومي، ما دامت الحرية هي أساس هذا الفضاء بما هو فضاء عمومي مشترك يتحقق فيه الالتقاء والإجماع والحرية بواسطة القول والفعل. أي أن الفضاء العمومي هو شرط إمكان الحرية والحقيقة ونمط التفكير (خاصة لدى الإغريق). فالإغريق بالنسبة لها هم من اكتشف هذا البناء الأصيل للفضاء العمومي حيث الدولة-المدينة (وتحديداً دور الأغورا l'Agora) كمركز للقرار وممارسة السلطة السياسية المباشرة، وهنا يتوجب الانتباه أيضاً إلى قوة الحجة والإقناع الخطابي لأن الإنسان لا يتحرر إلا حينما يمارس السلطة على الآخرين وحريته مشروطةٌ بالآخرين وبتواجده في العالم.
وفي تعريفه الدقيق للفضاء العمومي يقول هابرماس: "يمكن أن يفهم المجال العمومي البرجوازي، أولاً وقبل كل شيء، باعتباره مجالاً لمجموعة من الناس الخاصين المجتمعين في شكل جمهور. وهؤلاء الناس يطالبون بهذا المجال المقنن والمنظم من طرف السلطة، ولكنهم يطالبون به مباشرة ضد السلطة نفسها، لكي يتمكنوا من مناقشتها حول القواعد العامة للتبادل، وحول ميدان تبادل البضائع والعمل الاجتماعي، وهو ميدان يبقى خاضعاً بشكل أساسي ولكن أهميته أصبحت ذات طبيعة عمومية". إلا أن هذا التعريف يطرح صعوبة أساسية تتعلق بالتناقض الصريح الذي يخترق الدائرة العمومية، والذي يستند إلى أن هذه الدائرة تمثل بنية منظمة من قبل سلطة الدولة التي تتدخل لأجل فرض وضبط قواعد وآليات وبنيات السوق، وتوجيه الرأي العام نحو تحقيق غاياتها الكبرى. وفي نفس الوقت تتضمن رأياً يحمله الجمهور ذا وظيفة نقدية كما رأينا سلفاً. وإذا صح هذا التمييز بين نمطين من العمومية فبماذا يمكن تفسير تلك الازدواجية؟
يشدد هابرماس على وجود تعارض بين الدائرة العمومية والدولة. ذلك أن الدولة تسعى إلى ضبط العلاقات وتطوير وسائل الهيمنة والسيطرة على الرأي العام وتوجيهه نحو أهدافها (موظفةً كل الترسانة القانونية وكل وسائل الدعاية)، في حين أن دور الفضاء العمومي يقتصر أساساً على نقد آليات السيطرة والهيمنة، معتمداً في ذلك على العقل وحده، لبناء رأيٍ عموميٍّ قادرٍ على لعب دور الوساطة حيث يقول: "تلعب الآراء العمومية دور الوساطة بين حاجات المجتمع والدولة".
ويعمل هابرماس على بيان هذين النمطين من العمومية من خلال استقصاء الفعل السياسي، مشدداً على أن العمومية في أوروبا القرنين 18 و19 يخترقها نمطان من الفعل:
الفعل السياسي الشرعي والعلني الذي يعبر عن موقف توافقي مع الدولة، والذي يتفادى كل مواجهة بين الدولة والمجتمع المدني
الفعل السياسي السري وغير القانوني وغير المعترف به من طرف الدولة، وهو فعل مقموع ومضاد لسلطة الدولة ويطالب بتغييرها. وهذا التمييز هو الذي حاولت أن تفسّره الماركسية بالصراع الطبقي، لأن المواقع الاجتماعية والاقتصادية هي التي تحدد طبيعة المصلحة، وتحدد المعايير التي بموجبها يتم الارتقاء الاجتماعي.
يخترق الفضاء العمومي نوعان من السلطة: السلطة السياسية السائدة والحاكمة، ثم السلطة التي تنبع من الدينامية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أي السلطة غير المعترف بها مؤسساتياً، ولا تمثل في المؤسسات الرسمية، ويقصد بها كل أنواع الحركات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكلاسيكية-التقليدية والجديدة.
إذا كانت السلطة السياسية الرسمية تتدخل في الفضاء العمومي بشكل شرعي وقانوني وتنظم المواطنين وتضمن لهم ممارسة حقوقهم السياسية والاجتماعية وكل ما يتعلق بالاستقرار والسلم، فإن السلطة المضادة أو غير الرسمية/الحكومية تعمل على ممارسة الضغط لتحقيق المزيد من المكتسبات، وهي سلطة تستمد مشروعيتها من طبيعة مطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ترفعها لضمان انخراط أوسع للمواطنين، وبذلك تكون هذه السلطة أو قوة الضغط هذه ضرورية في حيوية الفعل السياسي وحركية المجتمع وحيويته، ذلك أن السلطة الرسمية التي تستغل كل الموارد وكافة الوسائل والامكانات لضمان رأي عام ينسجم وأهدافها العملية والنظرية، لا تستطيع ضمان الاستمرارية والدوام إلا بوجود هذه المعارضة الخارجية، على الرغم من أن هذه الأخيرة ينبغي أن تبقى من وجهة نظر رسمية محدودة التأثير، وألا تمتدّ قوتها وهيمنتها إلى كل الدينامية المجتمعية لتخلق بذلك تهديدا للسلطة الرسمية.
ويشدد هابرماس على أن الدينامية الاجتماعية تخترقها ثلاث وسائط مباشرة توظف بهذا القدر أو ذاك لاضفاء المشروعية على الفعل:
السلطة كوسيط توظفه الدولة والمجتمع السياسي
المال كوسيط يستعمله النسق الاقتصادي أو مجال التبادلات الاقتصادية والتجارية والمالية
الفعل التواصلي كوسيط يستعمله المجتمع المدني الفعال في الفضاء العمومي
وتعمل الدولة على تحوير الوظيفة النقدية للفضاء العمومي وتوجيهه وتوظيفه توظيفا ايديولوجيا وسياسيا لتحقيق مصالحها. لأن النقد من منظور الفعل السياسي الرسمي يمارس داخل مؤسسات الدولة وليس خارجها، مما يعني عملياً أن تأطير الممارسة السياسية بالقوانين والأعراف يؤدي إلى التحكم في الوظيفة النقدية لهذه الممارسة في سبيل إعادة انتاج نفس علاقات الإنتاج، بحيث توظف الدولة الأحزاب والنقابات والجمعيات والأفراد ودور النشر والتوزيع ووسائل الاعلام وكل المؤسسات الثقافية لتوجيه الرأي العام لصالحها. ولبيان هذا الأمر يعود هابرماس إلى القرن الثامن عشر ليجد أن العمومية في الاصطلاح الفرنسي تفيد: جمهور القراء أو الفئة الاجتماعية المثقفة التي تمتلك القدرة على استعمال العقل استعمالاً عمومياً. إلا أن هذا الاستعمال لم يتخذ أشكالاً شرعية مؤسساتية بل ظل سرياً في ظل الصراع القائم بين البرجوازية الصاعدة (الطبقة الثالثة) والنظام الإقطاعي الذي لا يزال مهيمناً على الفكر. وظلت تلك الممارسة السرية لاستخدام العقل محصورة بين أشخاص خصوصيين لم يجدوا بعد طريقهم الى الجمهور (أي معزولين في الصالونات)، وذلك بالنظر إلى الهيمنة الكلية للسلطة السياسية على مجالات التداول والنقاش التي لم تظهر علناً إلا بعد صراعٍ مرير، فمجتمع البلاط يقف أمام تحرك مجال العائلة البرجوازية الضيق. وهكذا يمكن القول إن العمومية في تلك الفترة كانت داخلية-سرية نظراً لكونها مستهدفة من قبل السلطة السياسية. وسنحاول أن نركز أكثر على دور حركة التنوير في الدفاع عن العمومية بمعنى استعمال العقل استعمالاً عمومياً الذي طوره كانط تحديداً: فما هي العلاقة القائمة بين مبدأ العمومية وحركة التنوير؟ وكيف قارب كانط مسألة العمومية؟ وما العلاقة القائمة بين التنوير والعمومية؟ وكيف نظر هابرماس إلى عمومية كانط؟
يمثل كانط في نظر هابرماس المؤسس الحقيقي لمبدأ العمومية، أو الفضاء العمومي البرجوازي، وبفضله بلور هيجل التصور الأيديولوجي لهذا الفضاء في حقل فلسفة الحق والتاريخ، وهو التصور الذي أدى إلى تشكيل الفهم الماركسي للدولة البرجوازية وللخطاب الأيديولوجي المؤطر لحقوق الانسان فيما بعد. وقد تتبع هابرماس حركية الفكر في التاريخ الألماني والفرنسي والإنجليزي لمحاولة التأصيل لمبدأ العمومية ورصد التحولات الجارية في:
التصور الفلسفي السياسي الأخلاقي الكانطي
الجدل التاريخي الهيجلي والماركسي
التصور الليبرالي مع دي توكفيل وجون ستيوارت مل
ومن خلال قراءته الجديدة لكانط وهيجل وماركس والفكر الليبرالي الفرنسي استطاع هابرماس أن يؤسس مشروعه الفلسفي الذي ارتكز في خطوطه العريضة على:
النظرية النقدية التقليدية: في اتجاه فلسفة اجتماعية
نقد الحداثة أو نقد العقل الاداتي والدفاع عن الحداثة بما هي مشروع غير مكتمل
النظرية التواصلية التي بحث فيها شرط الاجماع داخل المجتمع الديمقراطي: الاستعمال العمومي للبرهنة من خلال أخلاقيات المناقشة
ويصعب اختزال اسهام هابرماس في العقلانية التواصلية ما لم نعمل على التمييز بين المرحلة الأولى من تطوره فكره ونسقه الفلسفي والسياسي وبين المرحلة الثانية كما أشرنا سلفا. فاطلاعه على كانط سيمكنه من التأكيد على أن العمومية الكانطية تستوجب الانتقال من الفردية إلى الكونية في مستوى الاخلاق والسياسة: لأن غاية هذه العمومية هي بلوغ مجتمع مدني يقيم الحق على نحو كوني (كوسموبوليتي) يتجاوز العلاقة بين الافراد داخل المجتمع المدني والدولة الكونية التي هدفها السلم.
إلا أن معيار الكونية الكانطي الذي يؤسس للعقل العملي ليس وحده كافيا على المستوى الاخلاقي لتأسيس عمومية أنوارية لذا أضاف هابرماس المناقشة بين الذوات والحوار وحرية التعبير والرأي والتي تهدف بلوغ الإجماع لأنه يرتكز على واقع الممارسة الاجتماعية كمعيار للكونية كما هو هدفه الفلسفة الاجتماعية.
وإلى جانب معيار الكونية فإن العمومية الكانطية تتأسس على الحرية أي حرية الفرد في التفكير الذاتي وفي استعمال العقل، لأنه غاية في ذاته (مسؤول له ارادة تحترم…) وليس وسيلة لغيره. والحرية هنا لا تتحقق إلا بتجاوز الفرد للاستبداد والارهاب الديني الكنيسي. إلأا أن الحرية التي نادت بها الأنوار تطرح في نظر هابرماس مسألة الحق، وما يستلزمه الأمر من إعادة بناء للعلاقة بين الفضاء العمومي السياسي والحق، وما جاء متأخرا في مشروع هابرماس.
يشدد هابرماس على أن البعد السياسي للعمومية (الحداثة السياسية) يجد أساسه في واقع الناس اليومي وفي شروطهم التي تستوجب حضور الديمقراطية كمطلب ضروري لعقلنة الفعل السياسي الذي وضعت الأنوار من خلال اهتمامها بالعقل العملي ركائزه من خلال مقاربتها لمسألتين:
الشرعية أو الممارسة الديمقراطية
التعاقد الاجتماعي أو السياسي (حقوق الانسان: حرية استعمال العقل العمومي والخاص، الخروج من الوصاية)
وهو الأمر الذي أدى إلى اعتبار الفضاء العمومي فضاءً مضاداً للسلطة السياسية الاستبدادية، يطالب بالحقوق وبصنع القرار وحرية التعبير. فمع الدولة الحديثة فقط تجسد الطلاق بين الفلسفة والدين (اللاهوت)، بين السياسة والأخلاق، من خلال التأكيد أن شؤون البشر هي من اختصاص البشر، أي عبر التعاقد والاتفاق والإجماع.
قاد الترابط الكانطي بين العمومية وحرية استعمال العقل إلى طرح إشكالية الفضاء العمومي السياسي والحق. فإذا كانت العمومية تفيد الاستعمال العمومي للعقل مع كانط، فإن ممارسة هذا الاستعمال هي مجال الحرية، أي حرية استعمال العقل والتفكير والحق في إبداء الرأي وتشكيل رأي عام من أجل "العرض العمومي للحقيقة" والمشاركة في التداول في سبيل تحقيق الإجماع. إلا أن الحرية التي تدافع عنها الأنوار (وتحديداً مع كانط) هي حرية غير مقيدة بأية عقلية دوغمائية متحجرة في مجالي الفكر والفعل معاً، وخالية من أي وصاية خارجية معطلة لقدرات الذات. ولكن مع ذلك فاستعمال العقل، بما هو مجال الحرية، قد يقود الى صراعٍ بين عقلين أو بين استخدامين متعارضين للعقل: أقصد بين الاستعمال الرسمي المؤسساتي للحقيقية وبين الاستخدام غير الرسمي أي النقدي للحقيقة وتعميمها. هنا تكمن إشكالية الحق فكيف يمكن أن تتحقق لفكر نقدي حريته في التفكير الى جانب فكر آخر له (قد يكون بالضرورة مناقضاً) هو أيضا حقه في أن يفكر بحرية ويستعمل عقله استعمالاً عمومياً؟
في عمق هذه الإشكالية يذكرنا هابرماس بنص هام لكانط وهو 'صراع الكليات‘ الذي يعالج فيه الصراع أو التناقض بين كلية الفلسفة من جهة، وكليات الطب والقانون واللاهوت من جهة أخرى. ذلك أن هذه الأخيرة موجهة ومحكومة بسياسة الدولة، حيث تتمكن من خلالها من إعادة إنتاج النخب الحاكمة والمسيرة لدواليب الدولة، في حين أن غرض كلية الفلسفة هو العرض العمومي للحقيقة. فالفلاسفة مستقلون تماماً عن مصالح الدولة، ولا يوجهون إلا بالعقل وحده، ففي خضم الصراع القائم بين الكليات (يقول هابرماس) فإن العقل وحده ينبغي أن يضمن الحق في التعبير (عن الحقيقة) عمومياً، لأنه بدون هذه الحرية فإن الحقيقة لا يمكن أن تظهر (أن تنجلي).
لم يقتصر جهد هابرماس على كانط وحده، بل امتد حفره الاركيولوجي إلى: روسو، هوبز، هيجل، ماركس، ليؤكد بعد تحليله للرأي العام أن فكر حقوق الانسان قد طوعته البرجوازية واستعملته استعمالاً أيديولوجياً لإخفاء واقع الصراع والتفاوت والتحكم والاقصاء والهيمنة حيث يقول: "لقد وظفت حقوق الانسان لإظهار كونية مغلوطة وادعاء الإنسانية والتسامح ومن وراء ذلك التوظيف نجد الغرب الإمبريالي يسعى إلى خدمة مصالحه والتحكم من نفوذه في العالم وفرض هيمنته".
لقد عمل هابرماس، في كتابه 'الحق والديمقراطية‘ (1992)، على تجاوز نظرية الحق كما هي متداولة في الفلسفة الحديثة، موجهاً اهتمامه نحو التأسيس لعدالة جديدة تقوم على الفعل التواصلي، حيث عمل جاهداً على فحص تجربة الفيدرالية الألمانية والتجربة الأمريكية في مجال العدالة، ورصد مختلف التناقضات التي اعترضت تجارب دولة الحق، وهكذا أعاد الاعتبار للنموذج الكانطي في الكوسموبوليتية، مساجلاً رواد الليبرالية السياسية الأمريكية (راؤول تحديداً). فالاستعمال العمومي للعقل كما نظّر له راؤول تعترضه جملة عوائق مرتبطة تحديداً بحيادية الدولة تجاه رؤى العالم، ومواقف الفاعلين في المؤسسات الدستورية، وهو الأمر الذي قاده الى إعادة النظر في العلاقة بين الايمان والمعرفة مدافعا باستماتة عن دور الدين في الفضاء العمومي.
يتم النظر إلى الرأي في التقليد الفلسفي كفكر عام لم يبلغ بعد درجة التأمل، لارتباطه بما هو حسي، أي بالتجربة اليومية، وهو نابع من الممارسة اليومية، وتقوم عناصره في الفكر السياسي على الدعاية والثقافة السائدة، وكل أنماط الانتاج القائمة على التملك والمردودية.
تخفي الآراء، في نظر هابرماس، المصالح المادية المباشرة لطبقة أو فئة اجتماعية تستحوذ على وسائل الدعاية والإنتاج، ولا تخرج عن دائرة المصالح الفردية والاجتماعية. غير أن الرأي العام بالنسبة له يقترن بالفضاء العمومي ولا يمكن عزل أحدهما عن الآخر، لأن الرأي العام هو أيضا مقولة تاريخية شأنه شأن الفضاء العمومي يرتبط بالدولة الحديثة ويكون "موجهاً بإرادة عقلنة السياسة باسم الأخلاق". ذلك أن الرأي من المنظور الكانطي يتحدد في التمييز بين الاستعمال العمومي والاستعمال الخاص للعقل، حيث يقول هابرماس: "كانت العمومية في الأصل تضمن العلاقة التي كان يقيمها الاستعمال العمومي للعقل مع الأسس التشريعية للسيطرة كما مع المراقبة النقدية لممارستها، ومنذ ذلك الوقت فهي – أي العمومية – تشكل مبدأ سيطرة تمارس من خلال القدرة على التحكم في رأي غير عام، الأمر الذي يؤدي إلى هذا الالتباس المتفرد: تكمن العمومية من استخدام الجمهور، في نفس الوقت الذي تمثل فيه الوسيلة التي تستعملها لتبرير ذواتنا تجاهه. وهكذا انتصرت عمومية الاستخدام على العمومية النقدية". وقد أدى تحليل هابرماس للرأي إلى التأكيد على مبدأ التطويع الذي سلكته البرجوازية في تطورها التاريخي على الرأي العام، ذلك أن وسائل الإعلام، وأساساً الجريدة التي وقف عليها كثيراً، تحولت بفعل ضغط السوق والإشهار والدعاية الطبقية إلى خدمة المصالح المادية المباشرة للطبقة المسيطرة، ولكن مع ذلك ظهرت الصحافة السياسية (الجريدة الحزبية) التي لم تكن مرتبطة بضغوط الدعاية. فهذا التحول من العمومية النقدية إلى العمومية العامية (عمومية الاستخدام) جاء مع الفضاء العمومي البرجوازي الذي حول استعمال العقل كمجال للحرية إلى استعمال خاضع للدعاية وتحوير الرأي لخدمة أهداف سياسية. ويصر هابرماس على أن الرأي العام الذي يتحدث عنه هو الرأي النقدي الذي يتشكل لدى الجمهور عامة، حيث أن العمومية المرادة هنا هي "الجمهور الحامل لأحكام والذي يمتلك القدرة على استعمال العقل"، مستنداً في ذلك على هيجل الذي أضفى قيمة على الرأي المشترك (العام): وهو أحكام مشتركة بين أفراد جماعة ما أو فئة ما.
"لا يلائم 'النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي‘، النظرية النقدية المعاصرة. نحن بحاجة إلى تصور ما بعد برجوازي يسمح لنا بتخيل دور الفضاءات العمومية (أو على الأقل البعض منها) الذي يتجاوز الشكل البسيط لرأي ذاتي مستقل ومنفصل عن السيرورة الرسمية لاتخاذ القرار". (N, Fraser : qu'est-ce que la justice sociale, p142)
اهتمت نانسي فريزر بمفهوم الفضاء العمومي عند هابرماس بالنظر إلى قيمته السياسية التي تساهم في فهم الملابسات التي تعترض الحركات الاجتماعية التقدمية والنظريات السياسية التي ترتكز عليها. فقد مثلت هذه النظرية، طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، إسهاماً مباشراً في فهم التغيرات السياسية التي أعقبت ثورة أيار/مايو 68، بعد ظهور الحركات الاجتماعية الجديدة من قبيل: الأقليات العرقية والإثنية، الحركة النسوية، حركات الحقوق الجنسية، حركات الثقافات واللغات المهمشة، حركة العاطلين عن العمل، والحركات المتصلة بمختلف المشاكل التي أفرزتها الرأسمالية عبر تطورها التاريخي.
وينصب اهتمام فريزر أساسا على محاولة تجديد أطروحات النظرية النقدية، من خلال مراجعة مواقف الجيل الأول والثاني من أجيال مدرسة فرانكفورت، وفي هذا السياق راجعت نظرية هابرماس في الفضاء العمومي أو فيما تسميه "النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي"، لبيان صلته بالنظرية النقدية المعاصرة، ولفحص الأسس السياسية والفلسفية التي قام عليها، من أجل صياغة أطروحة جديدة أو ما تطلق عليه اسم الفضاء العمومي ما بعد البرجوازيl'espace public post-bourgeoisies.
وتؤكد أن المشكلة الأولى التي يطرحها مفهوم الفضاء العمومي الهابرماسي تكمن في العلاقة بين الدولة وأجهزتها من جهة، والفضاءات التعبيرية العمومية وجمعيات المواطنين من جهة أخرى. ذلك أن النموذج الكلاسيكي للدولة (الاشتراكي والماركسي) يفرض رقابة الاقتصاد للدولة الاشتراكية التي تراقب أيضاً مجموع المواطنين الاشتراكيين. فالتشابك واللبس الذي يكتنف العلاقة بين أجهزة الدولة والفضاء العمومي وجمعيات المواطنين يعود إلى الشكل التحكمي والسلطوي للدولة الاشتراكية في كل هذه الفضاءات والتنظيمات، وهو شكل لا ديمقراطي ولا تشاركي، وهو ما يطرح بدوره السؤال حول الديمقراطية الاشتراكية ذاتها كما طبقتها الأنظمة الستالينية. ونفس الأمر ينطبق على الديمقراطية البرجوازية التي طوقت الفضاء العمومي السياسي وأطّرته بأُطُرٍ وتشريعات قانونية وطنية لم تعد تستجيب لحاجيات المواطنين اليوم. ولذلك فإن كلا النمطين : البرجوازي والاشتراكي على حد سواء لم يعودا صالحين لنمط العيش المشترك اليوم، أي في عالم يحتاج إلى مواطنة كونية تنتفي فيه الحدود الوطنية الويستفالية.
تعتبر فريزر أن نظرية الفضاء العمومي تمتلك "قيمة مفهومية"، بحيث تساعدنا على فهم بعض المشكلات المعاصرة المتصلة مباشرة بالديمقراطية. وتعرف الفضاء العمومي على أنه "فضاء المجتمعات الحديثة حيث تمر المشاركة السياسية عبر اللغة. إنه فضاء المواطنين الذين يناضلون من أجل مصالحهم المشتركة، فضاء يُمَأْسِسُ تفاعلاً تداولياً". وترفض التعريف الهابرماسي الذي يحدد المشاركة في جمهورٍ مثقفٍ يتقن استعمال العقل بشكلٍ نقدي، لأن المجتمع المعاصر يختلف جذرياً عن مجتمع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مؤكدةً في الآن ذاته أنه رغم ما يمكن أن يقال من مؤاخذات على نظرية هابرماس فإن مفهوم الفضاء العمومي "ضروري للنظرية النقدية للمجتمع وللممارسة السياسية الديمقراطية". لأنه مكان منفصل عن الدولة، و فضاء لإنتاج ونشر الخطاب النقدي تجاه الدولة، لابد له من أن يتصور اقتصادا غير رسمي (اقتصاد الدولة) وخالياً من علاقات السوق، إنه فضاء لعلاقات التخاطب يسمح بالنقاش والتداول. فإذا حولت الرأسمالية الفضاء العمومي إلى مكان للبيع والشراء فإن الفضاء العمومي الذي يلائم النظرية النقدية المعاصرة ينبغي أن يتجاوز النموذج البرجوازي بحيث: "لا يمكن لأية محاولة لفهم حدود الديمقراطية الرأسمالية المتأخرة أن تتم دون اللجوء والاستعانة بطريقة أو بأخرى لبذل الجهود من أجل تطوير نماذج بديلة للديمقراطية". غير أن الفهم الهابرماسي غير كاف، فالنظر في حدود الديمقراطية الموجودة واقعياً يتوجب التساؤل حول هذا الفهم الذي يبدو متجاوزاً.
أبانت أركيولوجيا هابرماس عن عظمة وانحطاط شكلٍ خاص للفضاء العمومي المحدود في التاريخ، والذي سماه الفضاء العمومي البرجوازي من جهة، ومن جهة أخرى عن تساؤله عن قانون النموذج المعياري المتعلق بهذه المؤسسة والتي يطلق عليها اسم "النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي"، وكان هدفه فيما ترى فريزر مزدوجاً:
قصد فحص الشروط التي جعلت هذا النمط من الفضاء العمومي ممكناً
إعادة وضع تلك الشروط في مكانها، وإدراك راهنية المنفعة المعيارية لهذا النموذج الليبرالي
وتؤكد على الحاجة إلى تجديد هذه النظرية وتجاوزها لأن" الشروط الجديدة لديمقراطية الجماهير ولدولة الرعاية في نهاية القرن العشرين، أسقطت الفضاء العمومي البرجوازي ونموذجه الليبرالي في عداد النسيان. وأن شكلا جديدا للفضاء العمومي ضروري لحماية وصيانة الوظيفة النقدية لهذا الفضاء ولمأسسة الديمقراطية".
وتلوم هابرماس في أنه لم يبلور تصوراً بديلاً عن النموذج الليبرالي الذي نظّر له، وهو ما يتنافى مع روح النظرية النقدية المعاصرة حيث تقول: "غريب أن هابرماس لم يذهب إلى وضع نموذج جديد للفضاء العمومي ما بعد البرجوازي. وأكثر من ذلك لم يؤشكل أبداً بعض الفرضيات المتداولة حول النموذج الليبرالي، وعليه فالفضاء العمومي انتهى دون اقتراح معنى وفهم لفضاء عمومي مغاير للنموذج الليبرالي خدمة لأهداف وغايات النظرية النقدية المعاصرة". وما يعنيه ذلك من أن هابرماس لم يؤشكل، ولم يقترح بديلاً للنموذج البرجوازي، هو أن جهد هابرماس لا ينسجم وتوجهات المدرسة النقدية ولا يخدمها بل هو بعيد عنها.
تقر فريزر بالحاجة إلى تجاوز نظرية هابرماس، بالنظر إلى كونها مبنية على أسس الإطار الوطني الويستفالي التي تجاوزها التاريخ، ولتعارض هذه النظرية مع معطيات الواقع الاجتماعي الجديد الذي كشفت عنه نظريات جديدة في التاريخ، والعرق، والنوع، والثقافة. وهكذا تعلن أن هدفها هو الدفاع عن "فضاء عمومي بديل للنموذج الليبرالي" و"سأبدأ بمقارنة التأويل الهابرماسي للتحولات البنيوية للفضاء العمومي مع تأويل آخر (فهم آخر) يستند إلى الإستوغرافيا الحالية … وفي خلاصة موجزة سأضع بعض سبل التفكير داخل النقاشات النقدية التي ستفتح المجال أمام فهم آخر وما بعد برجوازي للفضاء العمومي (أي التفكير في فضاء عمومي ما بعد برجوازي)".
وفي المقطع المعنون ب: "أي تاريخ؟ أي تصور؟" تصرح فريزر "لنأخذ أولاً تأويل هابرماس للتحولات البنيوية للفضاء العمومي كتجمع لأشخاص خصوصيين يجتمعون للصراع حول المصلحة العمومية أو المصلحة المشتركة. تمتلك هذه الفكرة قوتها وواقعيتها في بداية أوروبا الحديثة مع تأسيس 'الفضاء العمومي البرجوازي‘ الذي شكل القوة النقيض والمعادية للدولة المطلقة. وفي المقابل فهي تفتقد لأية مصداقية في واقع اليوم، لأن الجماهير العريضة غير المرتبطة بالبرجوازية هي التي صارت تلعب اليوم أدواراً هامة في اللعبة السياسية، وهي التي تحرص على الخدمة العمومية وتطالب بها حينما تفتقدها، ناهيك عن كون الدولة المعاصرة قد قننت العديد من الحاجيات التي كانت مجرد مطالب في التاريخ الحديث … وهؤلاء العموم مدعوون لخدمة الوسيط بين المجتمع والدولة ورافضين أن تكون الدولة مسؤولة أمام المجتمع بواسطة العمومية".
تقوم نانسي فريزر على امتحان واختبار نظرية هابرماس، وفحص بعض أسسها، ونقد بعض العناصر التي ترتكز عليها في ضوء بعض التحليلات الإستوغرافية التي قدمها كل من جون لاندز Jean Landes وماري ريان Mary Ryan وجيوف إلي Jeoff Eley، وتركز على نقطتين أساسيتن:
1- مسألة النوع الحاضرة بقوة، تلك التي ساهمت في طرحها بعض الحركات العريقة المتنامية في العالم خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين، والتي عمادها، النساء
2- مسألة السود الذين ناضلوا في أمريكا وكونوا فضاء عموميا نقيضا للفضاء الرسمي عبر نضالاتهم وحركاتهم
وتقارن بين التأويل الهابرماسي والتأويل الإستوغرافي الحالي حيث تعتبر أن التأويل الأخير ينطلق من أن هابرماس قدم الفضاء العمومي البرجوازي باعتباره فضاءً مثالياً. حيث تشدد إليزابيت بروكس هيجنبوتان Elizabeth Brooks Higginbothan، وتقر بوجود فضاء عمومي بديل مسير من طرف السود في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين 1880 و 1920، حيث طرح السود الحق في المشاركة السياسية (التصويت) إلى جانب مجموع الفضاءات ومؤسسات المجتمع المدني، وتصر على أن البرجوازية لم تكن تمثل أبداً الجمهور أي الشعب. ولقد كانت هذه الفكرة جوهرية لفهم الاعتراضات التي تقيمها فريزر على هابرماس، لأن التجربة الأمريكية كانت بالفعل نموذجاً أغفله هابرماس في نظريته عن الفضاء العمومي. لذلك فالفضاء العمومي البرجوازي ليس وحده موجوداً وليس البرجوازيون وحدهم من يؤطّره، بل إن هناك جمهوراً آخر كان موجوداً منذ بداية الفضاء العمومي. فإلى جانب البرجوازيين هناك دوماً: جمهور المواطنين، صغار الفلاحين، النساء والنخبة، جمهور الطبقة العاملة، إلخ. إنه جمهور عريض متعدد ومتنوع. وإن العلاقات بين الجمهور البرجوازي وباقي العموم هي دوماً علاقات صراعية، وهو الأمر الذي يقر به جيوف إيلي Geoff Ely إذ لا يمكن أن يولد الفضاء العمومي إلا في خضم الصراع الاجتماعي. ما يعني أن النموذج الهابرماسي وفق التأويلات الجديدة هو مجرد نموذج مثالي، طوباوي.
تحاول فريزر أن تعتمد مقاربة أخرى جديدة وبديلة للتأويل الهابرماسي من جهة، ولنقاده من جهة أخرى، معتبرةً أن كلا التأويلبن جذري إلى أقصى. وتؤكد أن نظرية هابرماس حول الفضاء العمومي تشتغل على مستويين:
1. مستوى إمبريقي (تجريبي) تاريخي مؤسساتي
2. مستوى نقد الأيديولوجيا أو المثال المعياري
وفي سياق بحثها لمرتكزات النظرية التقليدية للفضاء العمومي ترى أن هابرماس بنى نظريته حول ستة افتراضات مؤسساتية كلها وطنية:
1. جهاز الدولة الوطنية (الدولة-الأمة) الذي يمارس السيادة داخل مجال حدودي ووسط قاطنيه
2. اقتصاد وطني منظم قانونياً وفق التشريعات الوطنية
3. جسم المواطنين الذين يقطنون داخل حدود وطنية ويقتسمون مصالح عامة
4. لغة وطنية تؤسس وسيط التواصل داخل الفضاء العمومي
5. أدب وطني يؤسس وسيط التكوين وإعادة إنتاج توجيه ذاتي (وطني) في سبيل جماعة متخيلة (وطنية) أي هوية وطنية
6. بنية وطنية للتواصل، وصحافة وطنية ومن ثمة شبكة وطنية للإعلام والتوزيع
هذه العناصر المؤسساتية هي التي ارتكزت عليها النظرية التقليدية للفضاء العمومي بطريقة أيديولوجية محددة وموجهة نحو سيرورة وطنية للتواصل العمومي عن طريق اللغة الوطنية والإعلام الوطني، والتي تخدم مصالح عامة مدبرة تواصلياً. ذلك أن كيان المواطنين يقوم بقيادة وتنظيم شروط العيش المشترك، وبشكل خاص اقتصاد وطني. وهو ما لا يسمح بالاعتراف أو البين-ذاتية على مستوى كوني عابر للأمم. بحيث اكتفت النظرية التقليدية الهابرماسية على المستوى الإمبريقي (التجريبي) بالنظر فقط في السيرورات التاريخية التي ساهمت في دمقرطة الدولة-الأمة (الوطنية). أما على المستوى المعياري فلا تمثل إلا مساهمة في نظرية الديمقراطية الوطنية. وهنا تكمن حدود نظرية هابرماس في الفضاء العمومي. وفي هذين المستويين ترى نانسي فريزر أنه يمكن نقد اختلالات الديمقراطية للدول-الأمم بتجاوز الطرح الهابرماسي، من خلال البحث عن أسس جديدة لنظرية معاصرة. لأن نظرية هابرماس تتعلق بمشروع سياسي محدود مرتبط بالدولة الوطنية (أي دمقرطة الدولة الحديثة) بحيث يصعب معه "فهم كيف تؤسس الفضاءات العمومية سلطة ديمقراطية مضادة لسلطة الدولة"، لذا فإن نقد هذه النظرية التقليدية يتوجه إلى الأسس الوطنية التي قامت عليها.
كانت المقاربة الهابرماسية دوماً مبنيةً على أسسٍ وطنيةٍ أي داخل الاطار الوطني، ونفس الأمر (في المقاييس الواسعة) يتعلق بالانتقادات المتنوعة التي تعيد التفكير في الفضاء العمومي من وجهة نظر الجندر (النساء) والعرق (الأقليات) والطبقة (الفقراء). ولم يتم أشكلة نظرية الفضاء العمومي إلا في العقود الأخيرة بفضل أهمية تنامي الظواهر العابرة للأمم، والمرتبطة بالعولمة، أو بما بعد الاستعمار أو بالتعددية الثقافية، حيث أصبح من الضروري بحث إمكانية وضرورة إعادة تشكيل نظرية الفضاء العمومي على أسس عابرة للأمم (دولية-عالمية).
تنطلق فريزر من بعض عناصر التفكير في هذا السبيل من أجل فضاء عمومي ما بعد برجوازي: "يتمثل اقتراحي العام في إعادة تسييس نظرية الفضاء العمومي التي تتعرض لخطر فقدان قيمتها السياسية". حيث يطرح الإطار الوطني للفضاء العمومي في النظرية التقليدية العديد من المشكلات والتي يمكن تحديدها في مشكلتين أساسيتين:
الأولى: الفرق بين الدول الوطنية والسلطة الخاصة، بحيث صار من الواجب إعادة بناء السلط العمومية على نحو دولي (عالمي) من أجل الحد من سطوة السلطة الخاصة ولفرض رقابة ديمقراطية دولية عليها
الثانية: تتصل بالفرق بين المواطنة داخل الدولة الواحدة والبلدان الأخرى، بحيث يجب مأسسة عناصر المواطنة الدولية/الكونية، وإنتاج تضامن واسع وغير مقيد بالفروقات اللغوية والعرقية (الإثنية) والدينية والوطنية، ومن ثم إنتاج وبناء فضاءات عمومية واسعة مبنية على تواصل ديمقراطي مفتوح.
ومن أجل التأسيس لمقاربة جديدة للفضاء العمومي ينبغي تفادي مقاربتين محدودتين:
مقاربة إمبريقية: تلك التي تأخذ بعين الاعتبار فقط النظرية في علاقتها بالوقائع الموجود والتي تتأسس على المعايير.
مقاربة مثالية: متعالية على الواقع الاجتماعي.
والبديل هو مقاربة نظرية نقدية توظف الخصائص المعيارية، وتأخذ بعين الاعتبار الإمكانات السياسية.
1 – - Habermas, Droit et démocratie. Entre faits et normes, trad. R. Rochlitz et C. Bouchindhomme, Paris, Gallimard, 1997.
2 – - Habermas, Après Marx, traduit par J-René Ladmiral, Fayard, Paris, 1985.
3 – = Nancy Fraser : qu'est-ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution, paris 2011, la Découvert/poche.
4 – - N, Fraser : le féminisme en mouvement, dès les années 1960 à l'ère néolibérale,Paris, La Découverte, coll. « Politique et sociétés », 2012, Trad. Estelle Ferrarese.
5 – - H. Arendt, condition de l'homme moderne, Paris, Pocket 2012.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.