سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كمال الجزولي : بانتِظارِ المِيلادِ الثَّالِث: مَنْ هُوَ – دَاعِشُ – اتِّحَادِ الكُتَّابِ .. الغَائِبُ الحَاضِر؟!
نشر في حريات يوم 08 - 02 - 2015

بِانتِظارِ المِيلادِ الثَّالِث: مَنْ هُوَ – دَاعِشُ – اتِّحَادِ الكُتَّابِ .. الغَائِبُ الحَاضِر؟!
كمال الجزولي
(1)
لم أجد شبيهاً بمشهد "الجلواز" الذي انتدبته داعش ليضرم النَّار، قبل أيَّام، بكلِّ غلظة كبد، في جسد الطيَّار الأردني الشَّهيد معاذ الكساسبة، وإحراقه حيَّاً، حدَّ التَّفحُّم، سوى مشهد "الجلواز" الآخر الذي انتدبته وزارة الثَّقافة السُّودانيَّة ليقوم، بعد ظهر التَّاسع والعشرين من يناير 2015م، بتسليم اتحاد الكتَّاب السُّودانيين قرارها "المباغت"، بكلِّ حُمرة عين، وفي ما لا يتجاوز سطراً ونصف، بإلغاء تسجيله، وإغلاق داره، وكشطه من الوجود، وإرساله إلى العدم، بلا حيثيَّات، بل بدون محاكمة، وهو، بعد، في عزِّ حيويَّته!
لقد اتخذت الوزارة قرار إعدام الاتحاد، بسلبه عنصر قانونيَّته، دون أن تكبِّد نفسها حتَّى مؤونة إبداء سبب "وقائعي" موضوعي واحد. ولعلمها اليقيني، ربَّما، بأن إبداء مثل هذا السَّبب هو من أوجب واجباتها، لو كان موجوداً، أصلاً، فقد التمست لنفسها ما اعتبرته مهرباً يسعفها، حالَ عدم وجوده، بأن أشارت في صلب قرارها، باقتضاب، إلى أن الاتِّحاد "خالف قانون تنظيم نشاط الجَّماعات الثقافيَّة لسنة 1996م، وقانونه الخاص"، علماً بأنها إنَّما تردِّد، بذلك، نفس شروط الإلغاء الواردة ضمن "منطوق القانون"، كنصٍّ "عام"، بينما كانت، وما تزال، مطالبة بالإفصاح عن "واقعة" واحدة محدَّدة، تبرِّر، بوجه "مخصوص"، تطبيق "منطوق القانون" عليها! فالمحكمة نفسها لا تكتفي، عند إنزالها حكماً معيَّناً على شخص ما، بذكر "اسم" الجريمة المدَّعى بأنه ارتكبها، بل يلزمها أن تذكر، تفصيلاً، عناصر "فعله" المجرَّم نفسه، بما يبرِّر إدراجه تحت طائلة الاتهام والعقوبة المتعلقتين بتلك الجَّريمة المسمَّاة.
وإذن، فثمَّة حزمة من الأسئلة ما تلبث أن تنطرح، هنا، على الفور، أهمها: لِمَ، يا ترى، أعفت وزارة الثَّقافة السَّنيَّة نفسها مِمَّا لا يجوز إعفاء القضاء ذاته منه؛ ألأنها تضع نفسها، مثلاً، فوق القضاء؟! أم لأنها، ببساطة، لا تعرف لهذا القرار سبباً، كونها ليست هي صاحبته، بل استخدمت، فحسب، كمحض أداة في تنفيذه؟! وفي هذه الحالة مَن، تراه، صاحب ذلك القرار؟! مَن هو "داعش" الثَّقافة الحقيقي الذي حكم ب "إحراق" اتِّحاد الكتَّاب حيَّاً؟!
(2)
مسجلة "الجَّماعات الثَّقافيَّة" بوزارة الثَّقافة التي مهرت القرار بتوقيعها اكتفت بإغلاق هاتفها في وجوه الصحفيين (الأهرام اليوم، 2 فبراير 2015م)، وما من تفسير لذلك، في الغالب، سوى الخشية من ملاحقتها بالسُّؤال الوحيد الذي تتوقعه، لكنها، لألف سبب وسبب، لا تستطيع الإجابة عليه!
غير أن ارتباك تصريحات الرَّسميين في هذا الشَّأن مِمَّا يرجِّح الاحتمال الثَّاني، من كلِّ بُد؛ إذ لو كانت الوزارة هي الفاعل الأصيل، ولم تكن مجرَّد منفِّذ، بالوكالة، لتعليمات "داعش متخفي"، لكانت تلك التَّصريحات قد اتَّسقت، على الأقل، على صراط مستقيم، حول "حقيقة" القرار و"أسبابه"، ولما اتَّسمت بمثل هذا القدر من الاعوجاج في المبنى، والارتباك في المعنى، بين صحيفة وأخرى، بل أحياناً في الصَّحيفة الواحدة! ولولا توهُّم بعض أولئك الرَّسميين "منعة" و"حصانة" استثنائيَّتين في "داعش" الحقيقي، لما انزلقت ألسنتهم إلى رمي النَّاس بالباطل، وإن بصورة مضطربة، كما سنرى، دون تحسُّب لمغبَّة ذلك، حدِّ تعريض أنفسهم، وكلِّ من ساعد في ترويج تصريحاتهم، للمؤاخذة الأخلاقيَّة قبل المساءلة القانونيَّة!
لقد نشرت، مثلاً، بعض الصُّحف، وبخفَّة متناهية، خبراً من العيار الخطير، بل وفي واحدة منها تحت العنوان البارز الآتي: "البرلمان: الغشُّ في التَّسجيل وراء إغلاق اتِّحاد الكتَّاب!"؛ ومتن الخبر تصريح نسبته هذه الصُّحف إلى عفاف تاور كافي، رئيسة لجنة الإعلام والثقافة بالبرلمان، حيث "كشفت"، على حدِّ تعبير إحداها (الأهرام اليوم؛ 2 فبراير 2015م)، أو "أماطت اللثام"، على حدِّ الإضافة التي جاءت بها أخرى (اليوم التالي؛ 2 فبراير 2015م)، عن أن "الجِّهات المختصَّة!" أبلغتها ب "الملابسات الحقيقيَّة!" لإغلاق الاتحاد، ومن بينها "الغشُّ في التَّسجيل"! وعلى خطورة الخبر فلا تاور استطاعت أن "تفصح!" عن تلك "الجِّهات المختصَّة" التي أبلغتها بما صرَّحت به، ولا أيٌّ من الصحيفتين نهضت بمسؤوليَّتها الواجبة في تدقيق الخبر، بعدالة وحياد، ومضاهاته، في نفس متنه، كما تقتضي المهنيَّة، بتصريح من أيٍّ من مسؤولي الاتحاد، وإنَّما اكتفت إحداهما بالقول، ضمن مادَّة أخرى في نفس العدد، بأنها سعت لأخذ إفادة المسجِّلة، لولا أن هاتف الأخيرة ظلَّ ممتنعاً عن الإجابة "حتى الانتهاء من كتابة التَّقرير" (الأهرام اليوم؛ 2 فبراير 2015م)؛ وللقارئ أن يتساءل، ما شاء له الله، عن معياريَّة "الانتهاء" من كتابة التقرير، أهو وضع النقطة في نهاية آخر سطوره كيفما اتفق، أم الفراغ من استكمال كلِّ الجَّوانب اللازمة لمقوِّماته؟! من جهة أخرى، وللمفارقة، حملت صحيفة ثالثة تصريحاً لنفس الرَّسميَّة البرلمانيَّة شكَّكت فيه بشأن تصرُّف المسجلة، مشيرة إلى أنها "قد تكون تعنَّتت في استخدام القانون!" (الرأي العام؛2 فبراير 2015م). غير أن أيَّاً من الصَّحيفتين الأخريين لم تورد شيئاً من ذلك، بل أوردت كلاهما أن تاور عرضت تدخُّل لجنتها في الأمر حالَ لم يستأنف الاتِّحاد القرار، أو إذا استأنفه ولم يقتنع بالنتيجة (!) في حين أوردت الصحيفة الثَّالثة قول نفس المسؤولة "إن لجنتها لن تتدخَّل، لجهة أنها لا تعلم بالتَّفاصيل كاملة، ولم تتلقَّ شكوى رسميَّة". أما غالب الصُّحف الأخرى، والتي قيل إن محرِّريها حضروا تصريحات تاور، فقد نأت بنفسها عن إيراد الخبر!
(3)
خلال الفترة مِن 13 إلى 16 يناير المنصرم، أي قبل زهاء أسبوعين من تسليم الاتِّحاد قرار حله، كان الطيِّب حسن بدوي، وزير الثقافة، يشارك في "مؤتمر وزراء الثَّقافة العرب" التاسع عشر الذي انعقد بالرياض تحت شعار "اللغة العربيَّة منطلقاً للتَّكامل الثَّقافي الإنساني"، حيث طرح بدوي المشروع الذي تعتزم وزارته تنفيذه بالخرطوم، في 10 مارس القادم، تحت عنوان "المهرجان الثَّقافي العربي الأفريقي الأول"، بهدف إحداث حراك عربي أفريقي مشترك، أو كما قال. وبينما تحدَّث، بغموض، عن "إحباط ثقافي" دون أن يحدِّد مَن "المحبَط"، بالفتح، ومن "المحبِط"، بالكسر، أكد بدوي، في حوار صحفي أجري معه بهذه المناسبة، أن وزارته "أشركت المثقفين" في "النهوض بصناعة الثقافة"، وأن مشروعها "يرتكز على استكمال "البنية الثَّقافيَّة الشَّاملة"، وتعزيز إدارة "التَّنوُّع الثَّقافي"، وتعزيز "التَّعاون الثَّقافي" بين السُّودان ومحيطيه العربي والأفريقي" (الشرق الأوسط؛ 3 فبراير 2015 م). وأكد أن السودان "مؤهل لتشكيل جسر" بين الثَّقافتين. وملخص المشروع "إقامة مناشط تجسِّد العلاقات الثَّقافيَّة المشتركة"، وأن "الدَّعوة قُدمت لجميع الوزراء".
ربَّما لا تحتاج المغالطات التي تعجُّ بها إفادات الوزير إلى فانوس ديوجينس لإضاءتها. فمن هم المثقفون الذين "أشركتهم" وزارته في المشروع، وهي التي تقاطع، كمثال، ومنذ سنوات طوال، اتِّحاد الكتَّاب الذي يعرف راعي الضَّأن في الخلاء، ولا ينكر غير مكابر، أنه يضمُّ أبرز رموز الفكر والكتابة الإبداعيَّة في بلادنا؟! وعلى مَن، تراه، سيعتمد سيادته في "صناعة الثقافة"، و"استكمال البنية الثَّقافيَّة الشَّاملة"، بينما الدَّولة تتعقَّب بالرَّقابة، والحظر، والتَّحريم أسماء مهمَّة في مجال الإبداع المكتوب، دَعْ بقيَّة القطاعات من تشكيليين وموسيقيين وغيرهم، حتَّى اضطرَّ المئات منهم إلى الهجرة، رجالاً ونساءً، إلى بلدان يلتمسون فيها هذه الحرِّيَّات؟! ومَن ذا الذي "سيعزِّز التَّنوُّع الثَّقافي"، بينما الدَّولة، بقضِّها وقضيضها، تتحسَّس مسدَّساتها كلما سمعت هذا المصطلح، حتَّى لقد وصفه رئيس الجُّمهوريَّة ب "الدَّغمسة"، في معنى "التَّدليس" على الحقائق، قائلاً، من باب الاستبشار بانفصال الجَّنوب، لدى مخاطبته عيد الحصاد بمدينة القضارف، إن السُّلطة لن تسمح، بعد ذلك، ب "دغمسة" الكلام عن "التَّنوُّع!" (الصَّحافة؛ 20 ديسمبر 2010م).
وعلى هذا الأساس ربَّما كان للطيِّب بدوي الذي عاد، للتوِّ، بعد مشاركته في "مؤتمر وزراء الثَّقافة" بالرِّياض، فهم مغاير للشِّعار الذي انعقد تحته ذلك المؤتمر، والذي يدعو إلى جعل استخدامات "اللغة العربيَّة منطلقاً للتَّكامل الثَّقافي الإنساني"!
الحديث عن سياسة "تعزيز التَّنوُّع"، على هذا النَّحو، ليس مِمَّا يمكن أن يعني، والحال كذلك، أبناء الهامش المكتوين بنار "الاستعلاء"، بل ولا يمكن أن يعني سوى الدلالة المغلوطة لالتحاق بعض هؤلاء الأبناء، فقط، بسلطة الإسلامويين التي دفعت بهذه الظاهرة البغيضة إلى أقصى أمدائها.
أما "المهرجان الثقافي" الذي يتمُّ تدشينه، للمفارقة، بحلَّ اتِّحاد الكتَّاب، قبل أسابيع قلائل منه، فلا يمكن أن يكون، في أفضل الأحوال، سوى .. أكذوبة كبيرة!
(4)
مهما يكن من أمر، فإن وزير الثَّقافة نفسه الذي تتبع له مسجِّلة الجَّماعات الثَّقافيَّة، عاد، بعد الانفجار المدوِّي لواقعة حلِّ الاتِّحاد، يزورُّ عن الخوض في تداعياتها، كونها، على حدِّ تعبيره، لا علاقة لها بالسِّياسة! ومع ذلك يسارع إلى تولي كِبْر تبريرها، قائلاً إن ثمَّة "إجراءات وحيثيَّات استندت إليها المسجِّلة في إصدار القرار!" (اليوم التالي؛ 5 فبراير 2015م). لكنه، بدلاً من الإفصاح عن تلك "الإجراءات والحيثيَّات"، يعمد إلى التَّذكير بمقامه هو كصاحب ولاية استئنافيَّة أخيرة، وأنه، بهذا المعنى، "في انتظار نتيجة الاستئناف الذي دفع به الاتحاد إلى المسجِّلة" (المصدر نفسه)، ولعله يقصد "أمين" الوزارة، قانوناً، أو، بالأحرى، وكيلها، فعليَّاً. فإذا علمنا أن الوزير سيكون، بالفعل، محطة الاستئناف النهائيَّة، حسب القانون، لفهمنا، مقدَّماً، مدى "العدل!" الذي يتحلى به سيادته وهو يعلن، منذ الآن، وعلى رؤوس الأشهاد، علمه بأن "قرار المسجلة"، الذي سوف يُستأنف إليه لاحقاً، لم يصدر من "فراغ"، بل لقد "استندت" فيه إلى "إجراءات وحيثيَّات" محدَّدة، فيا لضيعة تعويل الاتِّحاد على إنصاف الرَّجل لقضيَّته!
مضى الوزير، بعد ذلك، ينفق حديثاً مطوَّلاً، لكنه غير مفصح ولا مفهوم، لجهة الخروج عن نصِّ القضيَّة المطروحة من حيث أسباب القرار، والسُّلطة الحقيقيَّة الكامنة وراء إصداره، فتطرَّق، بدلاً من ذلك، إلى أمور لم ترد في قرار الحل، نجملها في:
(1) ما أسماه "صِّراع الاتِّحادات!" الذي يقول إنه أضرَّ بسمعة "السُّودان"، علماً، من جهة، بعدم وجود أيِّ صراع على تمثيل الكُّتَّاب بين الاتِّحاد وبين أيِّ اتِّحاد آخر، كما وأن المعروف عن اتِّحاد الكُتَّاب المحلول أنه ظلَّ يتفادى، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، بؤر تفجير مثل هذه الصِّراعات، معلناً، منذ تكوينه الباكر، أنه لا يدَّعي احتكار تمثيل الكُّتاب، وليس ضدَّ أن ينشأ في السُّودان أكثر من اتِّحاد في هذا المجال، بحسب اختلاف التوجُّهات، والمدارس، والأمزجة، وفي ذلك قمَّة التَّعبير عن الدِّيموقراطيَّة؛ أما من جهة أخرى، فلعلَّ سيادة الوزير لا يعلم بأن الذي أضرَّ بسمعة البلاد، على هذا الصَّعيد، حقيقة، ليس تعدُّد التنظيمات، بل عدوان السُّلطة المستمر على حرِّيَّات التَّعبير والتَّنظيم، بما في ذلك حرِّيَّات الجَّماعات الثَّقافيَّة المستقلة، وكذلك الحُرِّيَّات الصَّحفيَّة التي يكاد المراقبون يُجمعون على أنَّها لم تشهد، طوال تاريخها في السُّودان، أوضاعاً بهذا السُّوء الذي تشهده حالياً؛
(2) ما وصفه ب "الخيط الرَّفيع بين السِّياسة والثَّقافة، وبين الثَّقافة والاقتصاد"، محذِّراً "بالصَّوت الواضح كلَّ المؤسَّسات التي تريد أن تحرِّك نشاطاً سياسيَّاً بأن هناك مسجِّل أحزاب، فيجب أن تسجِّل نفسها كتنظيمات سياسيَّة!" (المصدر نفسه). وقد يقول بعض طيِّبي القلوب، حسني النَّوايا، إن الوزير إنَّما أراد أن يقول، بذلك، إن "السَّبب" في حلِّ الاتِّحاد هو اشتغاله بالسِّياسة كحزب، لا الثَّقافة كما ينبغي! لكن مثل هذا القول مردود عليه، غض النَّظر عن الاختلاف أو الاتفاق على محتواه، بأن الوزير، لو أراد، بالفعل، هذا المعنى، لما كان ثمَّة ما هو أيسر عليه من الذهاب إليه مباشرة، بدلاً من كلِّ هذا التَّخفي وغموض العبارات!
إن ما ظلَّ يطلبه الاتِّحاد، عدالة، هو أن يعرف، فقط، ما الجِّهة التي حلته، وما الفعل المنسوب إليه وأدَّى إلى حله؛ فهل لو كانت لدى سيادة الوزير إجابة محدَّدة، أتراه كان سيحتاج إلى كلِّ هذا القدر من الثرثرة، والالتواء باللغة، عن "إجراءات وحيثيَّات" قرار المسجلة، دَع المحاضرات التي لا معنى لها عن الفروق بين الاقتصاد، والسِّياسة، والثقافة، ومَن يريد أن يعمل ك "حزب سياسي"، ومن يريد أن يعمل ك "جماعة ثقافيَّة"، وشروط تسجيل وعمل كلٍّ من المؤسَّستين، وما إلى ذلك من "عناوين" فرغ الاتِّحاد من استيعابها وهضمها قبل أكثر من ربع قرن من مجئ سيادة الوزير إلى وزارته ليلقي محاضراته ودروسه، كجلاميد الصخر، فوق رؤوس النَّاس، بل قبل سنوات طوال حتَّى من مجئ سلطة النُّخبة الإسلامويَّة نفسها لتتحكم في شؤون "الثَّقافة" ومصائر "المثقَّفين"!
أمَّا أعجب ما ورد ضمن إطناب الوزير، بحق وحقيق، فهو عودته، بآخرة، وبعد كلِّ ذلك، ليقول، لا فُضَّ فوه، إن حديثه أعلاه لا ينطبق على ما جرى لاتِّحاد الكتاب، وإنَّما يرتبط بخطة وزارته، وترتيباتها لتنظيم العمل للعام 2015م، مثلما يرتبط باجتماع عقدته الوزارة في ديسمبر 2014م مع "كلِّ!" الاتِّحادات الثَّقافيَّة الأهليَّة، حيث حاوروها، وقيَّموا أداءها، وخرجوا بموجِّهات لها بأن تعقد جمعياتها العموميَّة، وتفعِّل مؤسَّساتها بشكل جيِّد، حتى تستطيع أن "تتوافق إلى مسمَّى الاتِّحادات، لأن هناك فرقاً بين مسمَّى الجَّمعيَّة والاتِّحاد"!
وبصرف النظر عما في العبارة الأخيرة من غموض، ناهيك عمَّا تنطوي عليه من شبهة "تعالٍ" و"تعالُم" نربأ بلغة الوزير أن تنزلق إليها، إذ ليس ثمَّة تطابق، بالضَّرورة، بين "الوزير" وبين "العالِم"، كما قد يعتقد سيادته، فإن المعنى الإجمالي لذلك الحديث، على أيَّة حال، لا يعني الاتِّحاد في كثير أو قليل، لسببين: الأوَّل هو أنه لم يحضر، أو يُدْعَ حتى، لحضور أيِّ اجتماع مع الوزير، أو أيٍّ من معاونيه، في ديسمبر 2014م! والثاني هو أنه غير ملزم، أصلاً، بموجِّهات الوزارة، حيث إلزاميَّته لا تتجاوز القانون الذي أنشئ بموجبه.
(5)
في صدر هذه المقالة وصفنا قرار حلِّ الاتِّحاد بأنه "مباغت"؛ سوى أن هذا غير دقيق تماماً؛ فمِن جهة أولى، ليست هذه أوَّل مرَّة يُصدِر فيها نفس النِّظام الحالي قراراً بحلِّ الاتِّحاد، فقد سبق أن فعل ذلك فور استيلاء الإسلامويين على السُّلطة بانقلابهم العسكري الذي أطاح بالدِّيموقراطيَّة الثَّالثة في الثلاثين من يونيو 1989م. وقتها لم يكتف النِّظام بإصدار قرار الحلِّ، بل قام، تبعاً لذلك، بمصادرة ممتلكات الاتِّحاد، وطرده من داره، وتخصيصها لاتحاد الطلاب التَّابع لحزب السُّلطة! أما من جهة أخرى فإن الاتحاد ليس استثناءً من هوجة "الشَّطب والإلغاء" التي اجتاحت، قبله، مراكز نشاط ثقافي كثيرة، بصرف النَّظر عن القوانين والمؤسَّسات الحكوميَّة التي يتبع لها تسجيلها. فقد سبق أن ألغي، خلال الفترة الماضية، على سبيل المثال، تسجيل مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتَّنمية البشريَّة، ومركز الدِّراسات السُّودانيَّة، وبيت الفنون، ومركز سالمة، ومركز محمود محمد طه، وغيرها. وللأسف ما يزال نظر الإجراءات القانونيَّة التي أسَّستها بعض هذه المراكز ضدَّ تلك القرارات معطلة، لأكثر من سنة، أمام المحاكم. واستطراداً فإن تلك الهوجة لم تقتصر على مؤسَّسات النشاط الثَّقافي المستقلة فقط، وإنَّما شملت أيضاً منظماتٍ مدنيَّةٍ أخرى، ومؤسِّسات صحفيَّة، وأحزاب سياسيَّة، مثلما شملت أفراداً صحفيين، وسياسيين، وناشطين حقوقيين، مِمَّا يشي بطابع الحملة المبرمجة والمخططة، وينفي عن قرار حلِّ الاتِّحاد، إنْ توخَّينا الدِّقَّة، صفة "المباغتة"!
ولعلَّ أكثر ما يرجِّح هذا الطابع المبرمج والمخطط للحملة ضدَّ المنظمات المدنيَّة، على وجه الخصوص، ومن ضمنها اتِّحاد الكُتَّاب، الخبر الذي كانت نشرته بعض الصُّحف الإلكترونيَّة قبل زهاء الثلاث سنوات، ولم تنفه الجِّهات المختصَّة، سواء في الدَّولة أو في الحزب الحاكم، ومضمونه تقرير مسرَّب حول ورشة عقدتها ما تُسمَّى ب "أمانة منظمات المجتمع المدني" التي كان المؤتمر الوطني قد أنشأها حديثاً، وقت ذاك، وخاطبها نافع علي نافع نائب الرَّئيس لشؤون الحزب، أيَّامها، حيث كشف عن "خطة أمنيَّة للتَّضييق على منظمات المجتمع المدني المستقلة"، قائلاً عن مهام تلك الأمانة المستحدثة: "نريدها أن تشتغل في مجال المجتمع المدني والقضايا السِّياسيَّة"، نافياً أن يكون مراد السُّلطة منها الاشتغال بالعمل الخيري: "العايز يشتغل عمل خيري عندنا ليهو منظمات أخرى"، ومشدِّداً، في نفس الوقت، على أنها "تتبع للقطاع السِّياسي" بهدف "تخريب منظمات المجتمع المدني التي ما تزال ناشطة"، حيث "ظلَّ القانون الرئيسي لممارسة الإنقاذ تجاه أحزاب المعارضة الدِّيمقراطية، ومنظمات المجتمع المدني المستقلة، الاحتواء أو التحطيم!" (حريَّات، 30 مايو 2012م).
(6)
لا نغادر، في الختام، دون إيراد ملاحظتين مهمَّتين: أولاهما أن حملة التَّضامن الضَّارية، غير المسبوقة، والتي أحيط، وما يزال يحاط بها الاتِّحاد من منظمات، وجمعيَّات، ومراكز ثقافيَّة، وحقوقيَّة، وطنيَّة، وإقليميَّة، وعالميَّة، ومن صحف، وصحفيين، وكتَّاب، من داخل ومن خارج البلاد، حيث الجَّميع، على تباين انتماءاتهم السِّياسيَّة، واتِّجاهاتهم الفكريَّة، ومدارسهم الإبداعيَّة، يعبِّرون عن رفضهم لقرار الحلِّ الجَّائر، ويطالبون بإلغائه، لَهيَ أقوى شهادة على سير الاتِّحاد بالطريق الصَّحيح في خدمة الثَّقافة، والانحياز لقضايا الكتابة والكُتَّاب، مثلما هي أوثق دليل على أنه لم يكن، يوماً، بآثم أو معتدٍ، بل هو، على العكس من ذلك، تماماً، معتدى عليه من سلطة جعلت من تركيعه، وتحطيم استقلاليَّته، بغية لها، بلا طائل، فأقدمت، دونما تحسُّب أو تبصُّر، على إطفاء بقعة ضوء باهرة في ليل الخرطوم الدَّامس، ثمَّ ما لبثت أن باتت تتخبَّط، كما قد رأينا، بحثاً عمَّا عساها تقول في تبرير فعلتها الشنعاء تلك!
أما الملاحظة الأخرى فهي أن لدى هذا الاتِّحاد نفسه، كما سبق وأوردنا، خبرة ثمينة في الصمود، لسنوات طوال، بوجه قرار حله الجَّائر في عقابيل انقلاب 1989م، فلم يتزحزح، قيد أنملة، عن شرط استقلاليَّته، أو يستكين، مقدار قلامة ظفر، لإغواء المساومة على دخول بيت الطاعة الحكومي، حتَّى استطاع أن يستعيد قانونيَّته، ولا نقول شرعيَّته، يوم غرَّد فجر "ميلاده الثَّاني"، ذات يوم بهيج من عام 2006م، في إثر اتِّفاق السَّلام الشَّامل والدُّستور الانتقالي لسنة 2005م، واللذين جعلا ذلك ممكناً. والآن، أيضاً، لا نشكُّ، البتَّة، في أن بُناة وأعضاء هذا الصِّرح العتيد سيواصلون استمساكهم بالحقِّ في وجه الباطل، مستندين إلى ذات تلك الخبرة العريضة، حتَّى يغرِّد، من كلِّ بُدٍّ، فجر "الميلاد الثَّالث" بإذن الله.
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.