[email protected] جديد الكتب رجل شريف سيء الحظ لم نكن نتوقع أن يصدر كتاب السفير والوكيل الأسبق لوزارة الخارجية السودانية بهذا الحجم (720 صفحة من القطع المتوسط) وبهذا الشمول (مغطيا كل المواقع التي خدم فيها خارج السودان حتى تلك التي كان فيها على درجة السكرتير أو أكثر بقليل) ولكن ذلك ليس مستكثرا على فاروق عبد الرحمن الذي تميز منذ سنوات دراسته بالميل الشديد إلى الاستيثاق من معلوماته والدفاع عن آراءه بذاكرة حديدية مدعومة بمذكرات تفصيلية ومراجعات سنوية أو عقدية ومأثور لدى أصدقاءه أن تصلهم منه صور فتوغرافية أو كارت بوستال يشير إلى جلسة أو زيارة قاموا بها أو قام بها إليهم قبل عشر أو عشرين سنة على سبيل تجديد الذكرى واستعادتها من براثن النسيان. ولا يبدو أن مرور السنين قد أخذ من ذاكرته ألقها القديم بل على العكس زادها قوة وتأكيدا. واجد لزاما علي في مفتتح القول أن اعتذر عن توهمي أن الدبلوماسي لا ينهض لجلائل الاعمال الا اذا كان كبير الرتبة والمقام وان الرتب الصغرى ليس امامها مجال للإنجاز باعتبارها قاصرة على مساعدة السفير في أداء المهام الموكلة اليه فليس ذلك الفرض صحيحا في كل الأحوال ومثالنا على ذلك ما روى المؤلف عن الأدوار الهامة التي أتيح له ان يلعبها وهو سكرتير أول قائم بالأعمال في بعض سفاراتنا بالخارج وذلك دور مطلوب مرغوب في ناشئة السلك من ذوي العزيمة والنظر السديد متى وجدوا أنفسهم في مقام المسئولية كما فعل المؤلف في عديد من المواقف التي عاشها. ولا شك ان تلك الصفات التي تجلت في المؤلف في بداية تدرجه الوظيفي هي التي شفعت له حين آن الأوان ليكون وكيلا لوزارة الخارجية بعد انتهاء الحقبة النميرية ليكون سندا وعضدا لوزير خارجية الانتفاضة الزميل العزيز إبراهيم طه ايوب. عرض وليس بتقييم يستطيع قارئ هذا الكتاب أو متصفحه ان يلمح الزمالة والصداقة التي تربطني بالمؤلف فقد شرفني بإيراد اسمي في عدة مواضع من سفره النفيس وتلك علاقة لا أتبرأ منها حفاظا على المصداقية وتظاهرا بالتجرد والحياد في الاحكام بل على العكس اريد إثباتها بل أريد أيضا ان اضيف اليها كوننا أقرباء وأبناء مدينة واحدة وزملاء دراسة في باريس على مدى عامين من عمرنا الراشد ولن يضير شيء من ذلك بحيادي نحو هذا الكتاب إذ انني لست بصدد تقييمه وانما بصدد عرضه على القراء تاركا لهم مطلق الحرية في الحكم والتقييم وكل ما أحاوله هنا هو إجمال محتوى الكتاب لمن لم يقرأه ليحدد على ضوء ذلك هل يفتش عنه ليقرأه أو يقتنيه ام انه لا رغبة له فيه. وفي اعتقادي ان هذا الكتاب هو قصة حياة رجل شريف سيء الحظ فمثل كل أبناء جيله ولد وعاش في الزمن الخطأ وعاصر الناس الخطأ وتلقى منهم المعاملة الخطأ فقد عشنا الجزء الأكبر من حياتنا تحت نير الأنظمة الشمولية (6 لعبود و16 للنميري و26 للإسلاميين) والجملة 48 عاما تحت أنظمة لا تقدر الناس بأي معيار سوى معيار الولاء فمن معهم هو المواطن الصالح ومن ليس معهم فهو ابن الستين المستحق للضرب والاذلال. والمؤلف لم يكن معهم ولكنه أيضا لم يكن ضدهم الا ان ذلك لم يفيده ولم يثبت براءته لان القاعدة المتبعة لدى تلك الأنظمة تقول: من ليس معنا فانه ضدنا وهكذا وجد المؤلف نفسه مطرودا من وظيفته وموضعا لمعاملة استثنائية القسوة من وزير خارجية ذلك الزمان الذي اختصه بالملاحقة الشخصية ليتأكد من خروجه من السكن الحكومي وحرمانه من الاتصال الهاتفي من تلفون الدار واسوأ من ذلك حرمانه من مرتب الشهرين الأخيرين من خدمته كسفير يوشك ان يغادر الرغد النسبي لوظيفة السفير إلى مجهول اسمه العطالة وانعدام الوظيفة. يذكرني تشدد ذلك الوزير في القسوة على زملائه بما يعتبر حكمة عبرية استقاها اليهود من تاريخهم المرير اذ وجدوا أن أقسى الولاة عليهم هم الولاة القادمين من صفوف اليهود أنفسهم فالوزير المقصود كان واحدا منا وقد سبقنا إلى الخدمة بعقد كامل ولكنه كان عدوا لكل موهبة من كل نوع فاذا كنت كاتبا أو ساخرا أو ضاحكا فانت عدوه الشخصي وإذا كنت معروضا في قفص ليتفرج الناس على حمرة مؤخرتك فالويل لك منه لأنه سيدمرك تدميرا ويبدد شملك تبديدا ولا سبيل للاستطراد في ِشأنه فقد اسبل الموت عليه حصانته التي تأمرنا ان نذكر محاسن موتانا ونغض الطرف عن اساءاتهم وكما اضنانا حيا فقد اضنانا بعد موته ونحن نفتش ونبحث ونتقصى ونواصل الليل بالنهار لنجد له حسنة من الحسنات أو فضيلة من الفضائل محاولات تتلوها محاولات لم يبك السفير فاروق على اللبن المسكوب فقد شمر عن ساعد الجد وبدأ اتصالاته بكل منظمة تؤهله خبرته للانضمام اليها وكل الاشخاص والمعارف الذين يمكن ان يساعدوه في الحصول على وظيفة لدى احدى تلك المنظمات وكان سجله عامرا بالإخوان والزملاء والمعارف من السودانيين والعرب والأوروبيين ولكن حظا عاثرا كان يعترض سبيله في كل محاولة ما بين الطناش والاقزام الذين يحتلون المناصب ويخافون ان يأتي القادم الجديد فيكشف جهلهم وعدم اهليتهم للمناصب التي احتلوها في غفلة الزمان. وفي تلك الاحوال لا يجديك شيئا ان تقبل بأقل المعروض فان ذلك سيؤلب عليك عديمي الموهبة أكثر فأكثر لأن قبولك بالرتبة الأدنى سيجعل المفارقة اكثر وضوحا وسيقول المشرف عليكما: "كيف جاز لهذا الدعي ان يأتي أعلى في الرتبة من هذا الفلان الجديد.؟" واذا استمرأ البحث فانه واجد ان ذلك الدعي التحق بالمنظمة وهو في رتبة السكرتير بينما هذا الجديد كان وكيلا لوزارة بحالها. وربما كان ذلك الخوف من المقارنة والمضاهاة هو السر وراء سوء الطالع الذي رافق مساعي المؤلف للالتحاق بالموقع الذي يستحق. وتلقى ذلك النحس دفعة اضافية من نبل اخلاق الفاروق وتمسكه بالمثل العليا واعتبارات الكرامة والشهامة والامانة. وقد خلا كتابه من ذكر وقائع اخرى لم يشأ ان يتعرض لها بالذكر فقد فؤجيء بالخليجيين يسنون قانونا يمنع استخدام الموظف الاجنبي اذا بلغ أو تجاوز سن الستين وكان يذكر باحتقار شديد أولئك الاكبر منا سنا وقد قاموا بتزوير اعمارهم ليصبحوا أصغر منا حتى يتسنى لهم الاستمرار في خدمة الخليجيين بعد سن التقاعد وغالبية أولئك من النوع الذي كان يفتري على الناس بما لديه من البيوت المستأجرة والاراضي التي اشتراها رخيصة وصار الآن يطلب فيها الملايين. كل أولئك النفر من فقراء الروح الذين لا يتورعون عن شيء في سبيل اكتساب المال واكتنازه ولكن الفاروق صرح لمخدميه الخليجيين بعمره الحقيقي فمنحوه بضعة سنوات من الخدمة الإضافية نزل بعدها عند ارادة المعاش. كلنا ذلك الرجل كل هذه العذابات عشناها فصلا فصلا ويطرب صديقي العزيز كمال الجزولي حين فوجيء ان المنظمات الدولية تجانبت عنا ذات اليمين وذات اليسار وانني سعدت بالعمل مترجما عند الاممالمتحدة بعد ان كنت فيها مندوبا لبلادي أحقق مع وحدة الترجمة لو انها حرفت كلامي عن مواضعه أو أخطأت أدني خطأ في نقله للغات العالم ولكن تلك هي الايام وتلك افاعيلها في الرجال. وفي غمرة كل المتاعب التي عاشها لم ينس الفاروق ان يرشحني للسفير القطري بواشنطن لأكون له مستشارا بعد ان اضناه تعالم اخوته واخوتنا العرب. وكان السفير الكبيسي رجلا بمعنى الكلمة فسعدنا معا بايام ضاحكة ونجاحات مؤكدة حتى جرى نقله من واشنطون فزهدت روحي من كل خير في الدبلوماسية والدبلوماسيين وتوجهت إلى اقصى الغرب الامريكي بعيدا عن رحمة تلك الفئات. عدا تلك المنغصات التي لابد ان يلاقيها الرجل الشريف متى استهانت به امته أو بالأحرى استهانت بنفسها في شخصه-عدا ذلك فان الكتاب مليء بالقصص الرائعة والمواقف الضاحكة والقفشات الجميلة وفيه فصول كاملة في الغناء والموسيقى واخبار الرياضة الدولية ممثلة بالأولمبيادات التي شهدها المؤلف والمباريات الدولية التي وقف على امرها وكلها اشياء اغرم بها المؤلف اشد الغرام وانفق في سبيلها الوف الدولارات وطوى من اجلها الوف الاميال والفراسخ. ولا زال همه ان يضيف المزيد إلى الاقطار الثمانين التي زارها أو اقام فيها في مختلف ارجاء هذا العالم الفسيح. اعتقد ان هذا الكتاب قراءة اجبارية لكل دبلوماسي لغناه بالمعلومات عن دول العالم وانظمته وفيه عبرة كبرى لمن يريد ان يعتبر ويفتح عينيه واذنيه على تقلبات الزمان وتنكر الدنيا لأكابر الرجال فيتسلح بالعزم والصبر على مكاره الزمان وان يأخذ نفسه بالحزم في كل الامور وان يزرب نفسه بالرجال والاصدقاء نزور عند المثل السوداني الذي ينصحنا ان نزرب انفسنا بالرجال بدلا من تزريبها بالشوك. وافضل من ذلك ان نتعاهد على حماية الموظفين بالخدمة المدنية من مكايد الانقلابيين وما هم قادرون عليه من اعمال البطش القاسية ضد زملاء كان يمكن ان يكونوا معهم في صفوف الجيوش وهو خيار لا صعوبة فيه كما يعلم العسكريون وغير العسكريين والصعوبة كلها ان تسهر وتفقأ عينيك في دراسة الاقتصاد أو القانون ليأتي زملاؤك من الكلية الحربية ويحولوا حياتك إلى جحيم