مقولة أن الشعب السوداني متدين بطبعه ، هي مقولة مع سطحيتها إلا أنها تعتبر من المسلمات لدي كثير من الباحثين والمفكرين الإسلاميين في السودان، فبقليل من التعقل يمكننا أن نكتشف عدم صحتها، فالشعب السوداني عاش عهودا زاهية في ظل الحكومات المدنية وقد كانت كل تصرفاته يسمها التسامح ووحدة الهدف والمصير، لكن عندما فرض عليه منهج الإسلام السياسي مخارج (إسلامية) لأزماته؛ بدأ سقوط الدولة السودانية فانهارت اتفاقية أديس أبابا بعد قوانين سبتمبر وضعفت قبضة الدولة إلي أن وقعت في دوامة 30 يونيو ؛ فمنذ 1989 حتي اليوم عملت حكومة الانقاذ والجبهة الإسلامية علي شحن هذا المجتمع الذي افترضت أنه (متدينا بطبعه) شحنته بقيم يحسبها منظري الإسلاميون قيما من الدين ومرتكزات لنهضة الأمة، لكن مجتمعنا رفضها ولفظها لا لأنه ليس متدينا بطبعه فحسب ولكن لأنها تخالف فطرته الانسانية وتخالف الدين (السمح) الذي يعرفونه من القرآن ومشايخ الطرق وأهل التصوف الرباني الحق، فالقيم التي سعي لغرسها الإسلاميون تصب كلها في إطار كراهية الآخر ونبذه وفي سبيل التكريس لنهج آحادي مبتغاه ليس دينيا خالصا -وإن كان هذا لا يبرره حتي مع وجود حسن النية- وإنما كان مبتغاه خدمة لمشروع سياسي حتي الآن لم يري السودانيون خيرا من الصبر عليه.. أعود لفرضية التدين (الطبعي) وأقول أنه ليس من طبائع الشعوب أن تولد متدينة كما أن الدين ليس أصيلا في طبيعة الإنسان، وانما يعد عنصرا مكتسبا في حياة الناس وجد لترقيتها وتهذيبها وتزكية سلوكها، وقد ارتضي الله لخلقه طريقة يتعبدوه بها كل أمة بما شرع لها وذلك ليشكروا نعمه وليحيوا بسلام يعمرون أرضه التي استخلفهم فيها.. ولأنه لا أمة طبعها التدين فإن الله لم يخلقهم متدينون وانما خلقهم بشرا فطريون وأرسل إليهم الرسل والأنبياء، ولأن الله بصير بالعباد فهو جعل لهم من العقل ما يجعلهم يميزون بين حقهم والذي قد يكون باطلا عند غيرهم، وباطلهم الذي هو الآخر قد يكون حقا عند آخرين؛ وهنا تكون نسبية أمر التدين وأحقية كل طرف في الإعتقاد بأنه يملك جزءا من الحقيقة لا مطلقها، وهذه المعادلة الفطرية تنكسر -شذوذا عن القاعدة- عندما يكون التدين (طبعة) في شعب أو أمة فهنا تتجلي الغلبة الفاضحة لعنصر الشعائر والمظاهر علي عنصر الشرائع والحقائق ، فمثلا يمكنك القول بأن مجتمع الجزيرة العربية متدين بطبعه، لأن تدينه (الطبعي) هذا يعتبر تدينا أقرب ل (إنا وجدنا آباءنا علي ملة …) فغلبت علي هؤلاء طباع من سبقوهم من قومهم ولذلك خلطوا دينهم بالغلظة وألبسوا إيمانهم بالظلم، فتجد منهجهم في التدين أميل لأن يكون منهجا جافا قاحلا حادا مثل (طبعهم) بما يحويه من عنف وتطرف وتكفير للآخر ورفض للمخالفين وإدعاء لحصرية الحق.. هذا والسلام..