زليخة أبو ريشة…… عندما كتبت فيرجينيا وولف “الكاتبة النسوية البريطانية” كتابها “A Room of One's own” لم يخطر ببالها ان أطروحتها الاساسية فيه ستدخل دهاليز اللغات الاخرى وميول اهلها الممنهجة في اضطهاد النساء، وان قولها بأن يكون للمرأة في بيتها حيز خاص بها اصبح بقدرة قادر، بل قادرة- ان يكون “للمرء غرفته الخاصة”!! ذلك ان اللغة الانجليزية التي يتسع صدرها او لديها السلطة اللازمة لتمويه الوجود الجندري “أي المؤنث والمذكر”, قد خذلتها، لا العربية التي تنقسم من حيث التأنيث والتذكير نصفين متعادلين متساويين “باستثناء مفردات قليلة كالحروف التي ليس لها جنس، وبعض اسماء الافعال”، بل خذلتها المترجمة العربية التي ارادت في حرف العنوان الى “غرفة تخص المرء وحده” “ترجمة سمية رمضان، المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة, 1999″، ليصل خطاب وولف الى الذكور ويعمم عليهم ايضا، مع ان وولف لم ترد ذلك، وكانت تطلق بكتابها هذا مامنفيستو الحركة النقدية النسوية في القرن العشرين. واذا كانت تتحدث عن المرأة والكتابة – او هكذا طلب اليها – فإنها بدأت بالحديث عن ضرورة الحيّز المستقل المكاني للمرأة، من اجل ان تستطيع ان تكتب “فمن دون هذا الحيز الخاص لن يكون للمرأة التي لديها ذات متشوقة للكتابة ان تكرس هذا الذات لتغدو كاتبة”. بل ان ضغط المكان بانفلاشه وتعدده وتعذر تمحوره لن يؤدي إلا الى امرأة عازفة عن شغفها، وهي تظن ان الموهبة قد فرت منها. وقد تحيل هذا العزوف الى انشغالاتها بالبيت والاطفال.. وهو جزئيا صحيح، ولكن الأصح – في رأيي- ان هذه المرأة “او بالأحرى ثقافتها وثقافة مجتمعها” لم تنتبه مبكراً الى ضرورة تأمين الحيز المكاني الخاص بها وحدها. اي الصومعة الصغيرة التي ترتب فيها شواغلها ومفرداتها، وتطبخ فيها لنفسها الافكار والمعاني، وتتذوقها على مهل، من دون ان تقرقع فوق رأسها المنشغل هتافات الملاعب على شاشة التلفاز، وضوضاء مسلسلات الصغار والكبار المفضلة. والمكان الخاص بالمرأة في عقر دارها ليس ترفاً. فنحن نستطيع ان نرى ان بيوت البورجوازية وقصورها- قديمها وحديثها – وفي جميع درجاتها، لا تمنح هذه الفكرة ولا حتى أدنى اعتبار. وإذا كانت هندسة البيوت في مجتمع ما تخضع لاحتياجات ناس هذا المجتمع (كأن يكون لازما او غير لازم ان يكون في تصميم البيت صالون للضيوف مغلق او مفتوح، او غرفة طعام خاصة بالضيوف، او ان يكون ثمة حرملك وسلاملك، او ان يكون البيت بأسوار عالية كالقلاع او معتدلة او بلا أسوار اصلاً) التي تقر وفق فلسفتها وما يتبلور في ضوئها من حاجات، فإن ناس المجتمع الانساني لم يفكر اصلاً بأن المرأة – هذه الشريكة الاساسية في إنجاب الحياة وإعمار الأرض- تحتاج الى حيزها الخاص. فما بالك إذا كانت كاتبة؟! نعم، ليست كل امرأة كاتبة او فنانة مبدعة بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، ولكن كل امرأة تحتاج في إطار الممكن الى حيزها، الى معتكفها ان شئنا القول – بحيث تمارس في هذا المعتكف اتصالها الخاص بروح الارض وروح العالم، وتنقية نفسها وأعضائها مما يعلق فيها من غبار الجري في الحياة او وراءها “كأنها ستفر منها؟!” تحتاج المرأة ان تجعل من مكانها ملجأ من غضب عاصف او عارض تهدئ فيها رأسها، او من حزن عميق او عابر تربت هي بنفسها على نفسها منه… ومكاناً للتأمل والتنفس العميق الذي يذهب بالتوتر. وإني لأتخيل هذه المرأة وقد اختارت ركناً قصياً من البيت “كأن تكون شرفة مزججة”، وملأتها حتماً بأنواع النباتات الخضراء المتسلقة والمتدلية والواقفة مثلها وحدها، مع شجيرات صبّار بأنواعها تلك التي ستمنحها حكمة النضال والانتصار للحياة. فالمرأة تحتاج ان ترفو ما تهتك من روحها في صراع البقاء الذي تعبره – راضية او مرغمة – في مكانها شبه السري هذا، حيث يحرم على كل أحد او هتك حرمته. فلا الزوج يملك الزوجة اصلاً- فيما نؤمن به وندعو اليه- حتى يعبث بمتاعها “كما يقدر كثيرون ان يعبثوا بها روحاً وجسداً”، والابناء والبنات يقدرون كذلك باعتبار ان على الام ان تكون متوافرة في حياتهم وبرغباتهم في كل آن. هي الحديقة السرية اذن، لا الموقع المادي فحسب، التي تحتاج كل امرأة ان تفيء اليها، لتنكث ارضها وتحرر النباتات الضارة من التصاقها بتراب عقلها وقلبها، وتسقي عطشها الخاص الى المعرفة، ثم هناك تعري من دون خجل او ارتباك جميع قدراتها لتحررها بدورها من الازياء الضيقة الخانقة او الفضفاضة المذلة، وتتحاور معها وتتعرف اليها.. إنها إذن… غرفة للمرأة وحدها.