عائشة الماجدي تكتب: (جودات)    اشادة من وزارة الخارجية بتقرير منظمة هيومان رايتس ووتش    القوات المسلحة تصدر بيانا يفند أكاذيب المليشيا بالفاشر    الهلال يحسم لقب الدوري السعودي    أهلي جدة يكسر عقدة الشباب بريمونتادا مثيرة    الجيش السوداني يتصدى لهجوم شنته قوات الدعم السريع على الفاشر    المريخ يعود للتدريبات وابراهومة يركز على التهديف    مياسم يدعم والقطاع الرياضي يشكر    برباعية نظيفة.. مانشستر سيتي يستعيد صدارة الدوري الإنكليزي مؤقتًا    يوكوهاما يقلب خسارته أمام العين إلى فوز في ذهاب نهائي "آسيا"    هل يمكن الوثوق بالذكاء الاصطناعي؟.. بحث يكشف قدرات مقلقة في الخداع    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    سألت كل الكان معاك…قالو من ديك ما ظهر!!!    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    عاصفة شمسية "شديدة" تضرب الأرض    «زيارة غالية وخطوة عزيزة».. انتصار السيسي تستقبل حرم سلطان عُمان وترحب بها على أرض مصر – صور    مخرجو السينما المصرية    د. ياسر يوسف إبراهيم يكتب: امنحوا الحرب فرصة في السودان    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    كلام مريم ما مفاجئ لناس متابعين الحاصل داخل حزب الأمة وفي قحت وتقدم وغيرهم    الأمن، وقانون جهاز المخابرات العامة    شاهد بالصورة.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تشعل مواقع التواصل الاجتماعي بأزياء قصيرة ومثيرة من إحدى شوارع القاهرة والجمهور يطلق عليها لقب (كيم كارداشيان) السودان    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    محمد سامي ومي عمر وأمير كرارة وميرفت أمين في عزاء والدة كريم عبد العزيز    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكري 131 لرحيله : الامام المهدي .. كاريزما القلم في صناعة الثورة (3-3)
نشر في حريات يوم 21 - 06 - 2016

يبقي الحديث عن كاريزما القلم الثوري عند المهدي منقوصاً إن لم تمتد اي دراسة بهذا الشأن لتشمل الإصلاحات الاقتصادية و الاجتماعية التي تصدت لها أفكاره المكتوبة لتخاطب أشواق التغيير التي اعتملت في صدور الجماهير .
لقد سبق الامام المهدي حركات تغيير يسارية كثيرة في الحديث عن ملكية مصادر الثروة للأمة او ما يمكن ادراجه بمعايير اليوم في سياق تمليك وسائل الانتاج لمصلحة الطبقات المسحوقة بالمجتمع، وذلك من خلال هيمنة الدولة و مؤسساتها عليها -( بيت المال نموذجا) .. وتحدث المهدي ايضا عن تأميم المؤسسات القائمة سعياً لإنهاء سيطرة الأفراد- او لنكن اكثر دقة فلنقل إنهاء تسلط الأرستوقراطية التي ارتبطت مصالحها بالاستعمار التركي- علي وسائل الانتاج القائمة آنذاك .. وذلك علي نحو منشوره الذي يقول فيه : " ان المقصد هو إقامة الدين و ازالة الضرر عن كافة المسلمين .. فيلزم ذلك ان يفرغ الاخوان جميع المواضع التي تنتج منها المصالح جميعا ولا يعرض لها احد من الانصار وذلك : جميع الدكاكين ، و الوكالات ، والقصيريات والعصاصير والطواحين والبنوك التي كانت بالبحر للإيجار . و لو كانت مسكونة فليخرج منها من هو ساكن فيها لما يترتب عليها من مصلحة عامة للمسلمين من ضعفائهم و مجاهديهم .. حيث ان كل من هو ساكن بتلك الجهات يمكن ان يتدارك له مسكناً فلا يؤخر مصلحة المسلمين وانه أيها الاحباب لما كانت المشارع ( مرافئ السفن ) بهذا الزمن بهذه الجهات هي كالفئ ونحن لا نريد بالإفياء الا مصلحة المجاهدين والمساكين ، ولا نرضي لمسلم ان يكون همه الدنيا والجمع لها والمعلوم أن المشارع فيها أموال جسيمة وكل من استولي علي مشرع جمع فيه مالاً كثيرا ولا يجهز فيه غزوة ولا سرية و إستضر بكنزه .. فلذلك استصوب عندنا مع المشورة المسنونة ان نكتب الي كافة المحبين ان يرفعوا أيديهم عن المشارع . فلا نريد لمسلم بعد هذا ان يستخدم المشارع لنفسه ، فإذا كانت له مركب فلا سبيل عليه ، ومن انضم للجهاد معنا فله ضرورته والزائد عن الضرورة فانه علي العبد لا له " .. ( ابوسليم : الاثار الكاملة للامام المهدي ).. و تحليلاً لما تقدم مما اختطه قلم المهدي .. يقول المفكر السوداني الراحل الاستاذ محمد علي جادين : " ورغم مشاغل الثورة الكثيرة ، فإن قيادتها لم تغفل عن مواكبة المتغيرات الجديدة الناتجة عن ظروف الثورة وإنتصارها وسيادة الجماهير علي نفسها ومقدرات وطنها ، فاستجابت لها وبالإصلاحات اللازمة وخصص الامام المهدي حيزاً كبيراً من منشوراته لإعلان التشريعات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة المستندة علي عقيدته الاسلامية الصحيحة ، فكانت قرارته بتأميم المشارع والحدائق والمباني وكل المواضع ذات النفع العام وضمها لبيت المال " … ( محمد علي جادين و عبدالعزيز الصاوي : الثورة المهدية ، مشروع رؤية جديدة).
ولما كان اقتصاد سودان القرن التاسع العشر يقوم علي الزراعة بعد الرعي كإحدى وسائل الانتاج الاساسية.. فقد إنبري القلم المهدوي للتأسيس لرؤية جديدة قائمة علي أساس " الارض لمن يفلحها " وهي رؤية علي الرغم من إقرارها حق الملكية الفردية الا انها تقوم علي إتاحة الفائض عن الحاجة من الارض للآخرين ليُعملوا سواعدهم فيها لمصلحتهم. ونهي المهدي بحزم عن فرض ملاك الاراضي الزراعية لضرائب علي من يستغل تلك الاراضي الفائضة عن الحاجة من الفقراء والمساكين .. ومنها ضريبة " الدقيندي " الشهيرة التي أثقلت كاهل السودانيين بعهد التركية السابقة وذلك علي نحو منشوره الآتي : " ومن كان له طين فليزرع ما استطاع زرعه و إن عجز او لا احتياج له فلا يأخذ فيه ( دقيندي ) لأن المؤمنين كالجسد الواحد وان كل مؤمن ملكه من الطين له ولكن من باب احراز نصيب الآخرة فما لا يحتاج اليه يعطيه لأخيه المؤمن المحتاج ".. ( ابوسليم : مصدر سابق)..
وفي هذا الشأن يظل التسأول قائماً عما اذا كان فردريك انجلز مفكر الاشتراكية الابرز قد اطلع علي ما خطه قلم المهدي او بلغه بعض تفاصيل ذلك حينما قرر جازماً : " ان الثورة المهدية هي حركة نشأت بسبب الصراع بين الأغلبية المُستغلة ( القبائل الرحل ) والاغلبية المستغلة ( اثرياء المدن ).." .. ( سمرنوف: المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفيتي ).. ويظل ذات التسأول قائماً إن كان ذلك هو ما دفعه ( اي انجلز ) للكتابة لاحقاً عن "المهدي السوداني الذي جابه الانجليز ظافراً في الخرطوم" .. وان بقي قدر معقول من التحفظ علي استقراء انجلز لحقائق الأشياء عن الثورة المهدية من علي البعد كما أورد ذلك الاستاذ تاج السر عثمان ( انجلز : مجلة العصور الحديثة ، نقلا عن الاستاذ تاج السر عثمان .. مقال بعنوان فريدريك انجلز والثورة المهدية، موقع الحوار المتمدن ). اما المؤرخ الروسي البروفسور سيرجي سمرنوف فلا يخفي نظرته لتلك الإصلاحات التي دعا لها قلم المهدي من زاوية تقدمية حين يقول : " لم تقض الثورة المهدية علي مصالح كبار التجار البرجوازيين ، وكبار ملاك الاراضي الاقطاعيين الذين كانت تؤيدهم الطبقات الحاكمة في الأقطار الأجنبية فحسب ، بل قضت ايضا علي الاحتلال الاجنبي والموظفين التابعين للحكم الاجنبي وكافة أشكال و أدوات الحكم الاستعماري" .. ( سمرنوف : نفسه ) .
وفي سياق متصل يتعرض الدكتور عبدالله علي ابراهيم بقدر اكثر تفصيلاً لتداعيات ما كتبه المهدي علي ثري الواقع حينما يتطرق لمنشور المهدي للكبابيش والذي قال فيه : " ولا يتشاجر اثنان في طريق الزرع ولا يدعي احد وراثة ارض من آبائه و اجداده ليأخذ منها خراجاً او يقيم بها و هو ساكن لأجل ذلك " .. فكما يتبين من ما سبق انه هنا لا يعترض علي توارث الارض بقدر ما يعترض علي الخراج الباهظ الذي يفرضه اصحاب الاراضي الغير مستغلة علي غير القادرين من البسطاء . ومن المهم هنا التطرق لخلفية العلاقات المجتمعية والقبلية المعقدة التي وطدت من خلالها السلطة الاستعمارية التركية أركانها في السودان. وليس أدل علي ذلك من شئ مثل ارتباط مصالح أرستقراطية النوراب الحاكمة عند الكباببيش بالنظام الاستعماري الذي كان قائماً قبل المهدية مما أتاح لها امتيازات اقتصادية تفضيلية من خلال نظام " التبع " والذي جعل كلمتهم الاعلي بين قبائل اخري في المنطقة كالكواهلة والشنابلة و بني جرّار بكردفان .. وليس بمستغرب ان تشير بعض المصادر لتمدد نفوذهم حتي مضارب النوبة في الجبال الشمالية جنوبا ً والزغاوة والفور غرباً . ويري عبدالله علي ابراهيم ان منشور المهدي المار ذكره : " قد انبني علي معرفة سديدة بالجغرافية السياسية لبادية شمال كردفان بحيث يصح القول أنه كان بمثابة برنامج سياسي عرض للخاضعين لأرستقراطية النوراب أفقاً للتحرر من علاقات التبعية للنوراب والتحالف مع المهدية التي عززت مصالحهم في إطار السياسات المحلية لمناطقهم " .. كما يري عبدالله علي ابراهيم ايضا أن : " تعاليم المهدية التطهيرية قد حملت تهديداً قوياً للبني الاجتماعية والأخلاقية لأرستقراطية النوراب القائمة علي الثروة" ..وذلك لطبيعة التركيب الطبقي المعقدة لمجتمع النوراب وارسترقراطيتهم الحاكمة والذي يستطرد الدكتور ابراهيم في وصف واحدة من صوره حين يقول : " يكمن احتقار واضح للفقر في اعماق نظرة أرستقراطية النوراب الحاكمة للحياة فالذي لا يملك شيئا في بيئتهم يحتل احدي خانتين فهو اما متفضل عليه من ذوي السعة مما يدخل في دائرة اعتدادهم وفخرهم و اما مُتندر عليه ".. (ع.ع.أ : المهدية والكبابيش ، نحو مشروعية للمعارضة) ..
وعلي المستوي الاجتماعي اصطدمت منشورات المهدي الإصلاحية التي أمر فيها بمحاربة غلاء المهور ومنع النياحة علي الميت بتقاليد اجتماعية عريقة شكلت أوتاداً راسخة استندت عليها ثقافة أرستقراطية النوراب الحاكمة، ومن ذلك منشوره الذي جاء فيه : " يلزم الا تكون لكم مباهاة في الاعراس ولا في غير ذلك فمن يتزوج منكم تكون وليمته بتمر كوليمة فاطمة بنت رسول الله(ص) او مع طعام كوليمة ام المؤمنين … ومن لم يقدر ولم يطب له قلباً بما ذكرت فلا يزيد من خروف و ذلك إسراف . ولا تزيد العزبة عن خمسة ريال ولا البكر عن عشرة ريال و اللبس لا يزيد عن ثوبين و كل ذلك خروجاً عن المباهاة وحب الدنيا ".. ويلوح المهدي في اخر المنشور بمصادرة المال المبدد بالإسراف في المباهاة بالاعراس والمهور من صاحبه لمصلحة الفقراء و المساكين .. وفي ذات الإطار يقول عبدالله علي ابراهيم: " في مجتمع ذي مراتب قائمة علي الثروة يفتئت مثل هذا الامر علي امتيازات ذي السعة " .. و يستطرد اكثر فيما يختص بتعارض منشور منع النياحة علي الميت المهدوي مع تقاليد الكبابيش الراسخة بهذا المضمار حين يقول : " فمن طقوس النياحة اجتماع القبيلة حول النقارة لدي وفاة واحد منها وقد تَرَكُوا ثغرة تدخل منها الإبل وغيرها لينالها الواقفون تعليقاً علي نوعها وعددها وتأتي اخيراً إبل المتوفي وعلي كل ناقة جرس فتُغلق الثغرة وتدور ثلاثا منها داخل الحلقة ثم يُفصَّل صغارها من امهاتهم فينشأ صوت حنين كظيم متبادل بين الصغار والامهات ليشيع مناخاً من الآسي والفقد وينتحب الرجال والنساء علي السواء .. فعلاوة علي ان الاجتماع علي الفراش استعراض لثروة المتوفي والاخرين فشأن المتوفي أيضاً يزداد طرداً مع ما يملك اي مع كمية الأصوات الصادرة من إبله صغاراً وكباراً .. لهذا يصبح النهي عن اجتماع النياحة والفراش إفتئاتاً علي الموسرين إذ يقع مشهد وداعهم الأخير في جملة امتيازاتهم القائمة علي الثروة ".. ( ع.ع.أ : مصدر سابق ).
ولعل تلك المقدمات – في رأينا – تفسر جيداً الاصطدام الحتمي القادم بين أيدولوجيا الزهد المفضية الي اقتسام الثروة والسلطة و ما يقابلها من ايدولوجيا تستند علي الجاه القبلي الموروث والغير قابل للقسمة علي اثنين والذي يتوكأ علي قيم اجتماعية يصعب تجاوزها بالمقابل الموضوعي . ويبقي كلٌ من الموقفين مُفسراً ومُبرراً في سياقه التاريخي.. ومن المهم هنا الإشارة الي ان فرعاً لا يستهان به من النوراب بقيادة الامير عوض السيد قريش قد انضم للمهدية منذ معركة شيكان وكان لهم راية بذات القيادة في معركة كرري ..بينما ظل قطاع مهم من النواراب علي موقفهم السابق من العداء لتلك السياسات التي دعت لها المهدية لتضاربها البيّن مع مصالحهم و ثقافاتهم المحلية المستندة الي إرث اجتماعي ضارب في البداوة.
ويبدو جلياً ان قسمات الثورة الاقتصادية والاجتماعية التي بشر بها قلم المهدي قد وجدت طريقها للتشكل في اذهان الكثيرين فيما وراء البحار .. ومن المدهش حقاً ان يتحدث عن ذات الرؤي .. سياسي ثوري بارز بالتيار القومي الأيرلندي وصحفي مرموق علي نحو جي جي او كيلي ( J.J.O'kelly)..فعلي الرغم من البرازخ التي تفصل بين السودان و ايرلندا إلا أن أخبار الثائر السوداني لم تكن لتتواري عن صحافة ايرلندا . فكتب او كيلي محيياً جهود محمد احمد المهدي كمصلح اجتماعي واقتصادي وعبر عن أشواقه .. "لتمتد أيدي هذا البطل الاسلامي الجديد لتلتقي مع جهود الاشتراكيين الفرنسيين والالمان .. لأنه رجل يتفق قلبه معهم وان كان هو ( اي المهدي ) اكثر عمقا منهم في هذا الشأن" .. ( مقال تحت عنوان مفكرة رجل أيرلندي .. ل Padraig Yeates : صحيفة التايمز الأيرلندية 24 اغسطس 2009 ) . ومع بروز ارهاصات تكون تيار يساري عريض داخل حركة القوميين الأيرلنديين المطالَبة بالاستقلال من بريطانيا ، يبقي من العسر بمكان تحديد الدوافع الحقيقية لمساندة تلك الحركة للثورة المهدية في السودان وحملها في إطار تنامي مد الوعي عند النخبة الايرلندية بنظرية حتمية الصراع الطبقي المرتبطة بفكر اليسار وإعمالها بالتالي – بموضوعية- علي خارطة احداث القرن التاسع عشر . بيد أنه بالعودة لما سبق مما كتبه اوكيلي صراحة ً عن الملامح الاشتراكية في فكر المهدي تظل تلك الفرضية قائمة بأسانيد موضوعية وإن اقترنت ببعض التحفظ حيال النهايات التقريرية التي ساقنا اليها الكاتب والتي لا تنسجم مع طبيعة الخندق الثقافي والفكري المغاير الذي انطلقت منه المهدية .
ويبقي إعجاب حركة القوميين الايرلنديين بشقيها اليساري والجمهوري بالثورة المهدية كحركة تحرر وطنية هزمت قوي إمبريالية عالمية كبريطانيا و بكاريزما المهدي تحديداً في موضعٍ لا يدانيه شك .. ويتجلى أثر ذلك بصورة اكبر فيما نقلته صحيفة (Freeman's Journal ) بتاريخ 18 ابريل 1885 عن تظاهرة شعبية حاشدة للقوميين الايرلنديين بمقاطعة Tipperary بجنوب ايرلندا فأشارت الي مقاطعة الحضور للمتحدثين في اكثر من مناسبة بهتاف يحيّ المهدي .. Cheers for the Mahdi .. وأثني السياسي القومي الأيرلندي البارز "Mr.P.O'Ryan " علي زعيم حركة التحرر الايرلندية آنذاك " بارنيل" او " Parnell" .. ووصفه لفظاً بالمهدي الأيرلندي .. " Irish Mahdi" الذي سيمضي علي خطي سميه الاصلي في السودان والذي سينتصر وسيسخر في النهاية من مخططات اعدائه الانجليز البائسة . ( ارشيف الصحف الايرلندية.. صحيفة Freeman's Journal عدد 13 ابريل 1885) .. وفي نفس السياق نقلت صحيفة Herald York الانجليزية خبر المحاضرة الشهيرة التي ألقاها السياسي القومي الأيرلندي البارز " جون ريدموند" والعضو البرلماني النشط في مدينة نيوكاسل الانجليزية عن الثورة المهدية والتي حيّا فيها كفاح السودانيين ضد بريطانيا .. بعنوان " التحية للمهدي و رجاله " …. " Cheers for the Mahdi and his men " .. ( انظر ارشيف الصحافة البريطانية ، صحيفة Herald York بتاريخ 23 مايو 1885).
ويسهب المفكر المصري الراحل الدكتور عبدالودود شلبي والذي نال درجة الدكتوراة من جامعة اكسفورد البريطانية في " الاصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ودعوته " في الحديث عن الإجراءات الاقتصادية التي تعرض لها قلم المهدي حين يقول : " في 9 جمادي الاخر 1302 اصدر المهدي أمره بالاستيلاء علي الدكاكين والطواحين القائمة علي النيل بمدينة الخرطوم و ضمها الي بيت المال ، وفي 22 شعبان من السنة نفسها ، أمر بالاستيلاء علي المشارع و هي مرافئ للسفن النيلية – وكانت هذه المشارع تؤجر للناس مقابل مبلغ سنوي يدفع لبيت المال ، هذا الاستيلاء او التأميم بلغة العصر الحديث ظاهرة جديدة تستحق النظر والإلتفات ، فمن اين جاء المهدي بهذه الأفكار التي سبق بها ماركس وإنجلز وغيرهما ".. ( شلبي: الاصول الفكرية للمهدي السوداني). ويتفق الكاتب والمفكر المصري الدكتور محمد عمارة مع عبدالودود شلبي في أعقاب سياحة مماثلة في كتابات المهدي و رؤاه الإصلاحية المجتمعية حين يقول : " تلك هي قسمات الفكر الاجتماعي في الثورة المهدية ، تؤكد انها ثورة فقراء صنعت بما فجرته من طاقات روحية في الشعب السوداني أشياء يدهش لها الباحث فيما خلفت من وثائق و منشورات. وهي تؤكد في كل جوانبها انها كانت واحدة من ابرز حركات اليقظة التي تصدت بها الأمة في السودان للتحديات التي فرضها عليها أعداؤها في ذلك التاريخ ".. ( عمارة: تيارات الفكر الاسلامي ).
صفوة القول ان قلم الامام المهدي قد تصدي لجملة من القضايا والتحديات التي جابهت الوطن واهله بسودان القرن التاسع عشر فكتب وأصلح واجتهد و جاهد بقدر ما استطاع .. وخلف تراثاً هائلاً احتوت عليه منشوراته .. ما زال الي يومنا هذا يحتاج الي الكثير من التنقيب والتمحيص الأكاديمي الامين حتي يُنصف هذا الرجل الذي حرر وطنه و هزم بالروح التي أحياها في شعبه أعتي إمبراطوريات العالم التي لم تتواري عنها الشمس أبدا . وبناءً علي ما تقدم فليس هناك ابلغ مما كتبه المفكر الراحل الاستاذ محمد علي جادين عن رحيل المهدي حينما جزم : " بإستحالة إيجاد بديل لهذا النوع من القيادة التاريخية ، إذ يعتبر دورها الأبرز في تفجير الثورة وقيادتها ، ثم تقمصها لصفة الرمز في أذهان و وجدان الجماهير ، ذلك في حد ذاته عنصراً مهماً من عناصر جاذبيتها الشعبية وقياديتها لا يتوفر للرجل الثاني مهما كانت أهمية دوره في الثورة . كما إن هذه النوعية من القيادة تتمتع عادة بخصائص زعامية إستثنائية إستوجبتها لحظات انعطاف تاريخي معين ، مما يستحيل معه وجود شخصين من نفس النوع في بلد واحد في فترة معينة بمثل هذا الوزن الاستثنائي لشخصية محمد احمد المهدي "… ( جادين والصاوي : مصدر سابق).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.