نبيل علي صالح…..علم المستقبليات هو من العلوم المتأخرة قليلاً في الظهور، وتعني –من جملة ما تعنيه- الوقوف عند الواقع الحالي للإنسانية بتنوعاتها وأبعادها الهائلة، من أجل دراسة واقعها وواقع المجتمع والبيئة التي تعيش فيها، ومن ثم وضع تصورات مستقبلية على شكل إمكانات وطرق واضحة للمسيرة البشرية في الحياة، تمكن الإنسان من الشعور بالأمان والاستقرار في تلك السبل والمنافذ العملية الخلاصية.. وتزداد أهمية هذا العلم في ظل عالم إنساني كبير مضطرب ويعج بالمتغيرات والتعقيدات والمؤثرات، وتتزايد فيه حاجة الناس إلى وضع حلول عملية ناجعة لمشاكلهم وأزماتهم ليس التي يعايشونها سواء أكانت مشاكل بيئية أم اجتماعية أم صحية أم اقتصادية أم سياسية، وإنما أيضاً تلك التي من الممكن توقع ظهورها أو حدوثها في مقبل الأيام والعصور تفادياً لعدم السقوط في مهاويها، أو على الأقل تقليلاً من النتائج السلبية والتكاليف المادية التي يمكن دفعها فيما لو تحتم الوقوع فيها.. إذاً لم يعد الحديث عن هذا العلم المتمحور حول أهمية البعد المستقبلي -في حياة الأفراد والشعوب والأمم- لوناً من ألوان الترف الفكري والاجتماعي والعلمي الذي كان يُمارس على نطاق واسع في المجتمعات الغربية حتى أواسط القرن العشرين على مستوى التنجيم والتنبؤ بأحداث المستقبل بطريقة خيالية تجريبية، بل أصبح علماً قائماً بحد ذاته في تلك المجتمعات، له أسسه ومعاييره ومحدداته الفلسفية والعلمية الواضحة والفاعلة التي مرت بمراحل مديدة من التخلف والتقهقر الحضاري عشعشت فيها الخرافة والأسطورة فترات طويلة من الزمن، لكنها مع ذلك كانت السباقة في الوصول إلى التأسيس الجدي لعلم المستقبليات واستشراف المستقبل، خصوصاً بعد التقدم النوعي الكبير الذي حدث في مجال الدراسات التاريخية التحليلية ذات الصلة بالوقائع الاجتماعية وقوانين التاريخ ونواميسه التي تتحكم في المسيرة التاريخية للإنسان. وقد أصبح واضحاً الآن أن استمرار حياة الأمم والحضارات، وتقدمها، ونهوضها –على المستوى العلمي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي– مرتبطٌ فعلياً بمدى تجذّر عقلية التفكير العلمي المستقبلي في البنية الحضارية الذهنية والعملية لتلك الشعوب والأمم. باعتبار أن نهوض الأمم، وتطورها، ونجاحها، أو نكوصها، وتأخرها، وفشلها، وهزيمتها، يجري وفق ضوابط وسنن وقوانين ثابتة كونياً وتاريخياً وعلمياً، لا بد من اكتشافها، ووعيها، وإدراكها، وضبط نظمها ومعاييرها وقوانينها، والاستجابة لها، والتكامل بها ومعها، من أجل تحقيق الأهداف والتطلعات الحضارية الكبرى للشعوب والمجتمعات والحضارات. ونحن لا نقصد من استخدامنا لكلمة الاستجابة هنا الانسحاق الكامل تحت وطأة الضغط والثقل (النوعي) لتلك القوانين، واليأس من عدم القدرة على فهمها، ومن ثم استثمارها مستقبلاً، ولكننا نقصد أن يتوافر لدينا شرط الإرادة الإنسانية (نسبة للإنسان والفرد) والأممية (نسبة للأمة والمجتمع) الواعية والمتمثلة –عملياً– بالتخطيط الممنهج للغد الإنساني، ودراسة مواقعنا فيه انطلاقاً من متغيرات وثوابت واقعنا الراهن، وبالاعتماد على معطيات وقوانين التاريخ والحياة والوجود.. وذلك بهدف التمكن –ولو جزئياً (بالنظر إلى واقعنا العربي والإسلامي المتخلف)– من استيعاب بعض مواقع المستقبل، والعمل على إدارتها واستثمارها والانتفاع بها. إننا نعتقد بضرورة أن نحث الخطى ونبذل قصارى الجهد من أجل تأسيس منهج حقيقي لاستشراف ورؤية المستقبل، واكتشافه، ووعي مجالاته، والإعداد العملي له..لأننا معنيون أولاً وأخيراً بأهمية الدخول إلى هذا الحقل العلمي الكبير الذي يمكن أن نمتلك فيه كعرب تراثاً إخبارياً واسعاً يهتم بالمستقبل الإنساني، ويتحدث عنه، بل وحتى يؤسس له. لذلك فالمشكلة القائمة عندنا لا تكمن في عدم وجود عناصر ومعطيات التأسيس المستقبلي الإسلامي المطلوب، بل هي متوافرة بكثرة على هذا الصعيد، ولكنها (أي المشكلة) قائمة أساساً في عدم تشكيل وبلورة صيغة معرفية نظرية عربية وإسلامية على مستوى المنهج -وعملية على مستوى التصور والإعداد- خاصة بدراسة المستقبل. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : لماذا يحتاج العرب والمسلمون لدراسة المستقبل، واستشراف آفاقه؟!. وما هي المنطلقات الفكرية التي يجب أن ينفتحوا عليها في سياق عملية التأسيس العملي لعلم المستقبل العربي والإسلامي؟!. في الواقع يشكل التعامل الموضوعي الدقيق مع مفردة الزمن –في بعدها المستقبلي– أحد أهم عناصر النظرة الواقعية والعقلانية المتصلة بقضايا وهموم مجتمعاتنا العربية والإسلامية في امتداداتها التاريخية المستقبلية، كما ويعبر –في الوقت ذاته– عن نمط فريد من التفكير القيادي والإداري لدى أي موقع من مواقع المسؤولية في حركة هذه الأمة، خصوصاً إذا ما عرفنا أن الوقت يتداخل صميمياً مع أي عمل حياتي مهما كان نوعه، و حجمه، و حقله. ولذلك وجب علينا أن نفهم الدور الحضاري الذي يلعبه عامل الزمن في حياة الأمم والشعوب، بما يؤدي –في النهاية– إلى استثماره وتوظيفه، على مستوى مشروعنا الحضاري العربي والإسلامي، لصالح عالمنا العربي والإسلامي في عيشها ووجودها (وحوارها) الحضاري الشامل والمركب. لكن هذا التوظيف المطلوب لعامل الزمن لا يمكن أن يجد لنفسه طريقاً إلى حيز الفعل -في ظل ظروف وأوضاع أمتنا الراهنة– ما لم يمتلك العرب والمسلمون مفاتيح الدخول إلى العصر الحاضر والمستقبلي الذي تظهر فيه عملية التخطيط للمستقبل، والإعداد له أحد أهم حاجات ومتطلبات الدخول المطلوب العمل عليه في هذا المجال. صحيح أن هناك حاجة دائمة ورغبة ملحة تؤكد عليها، وتأمر بها النصوص ومنظومات التفكير الإسلامية -من خلال ضرورة التأهيل والاستعداد للزمن المستقبلي، واستشراف أبعاده المختلفة (ولتنظر كل نفس ما قدمت لغد)، (من عرف الأيام، لم يغفل عن الاستعداد)، (من لم يتحرز من المكائد قبل وقوعها، لم ينفعه الأسف عند هجومها )، وأن الواجب العملي يقتضي وعي أحداث المستقبل، ومواجهة التحديات والابتلاءات، وعدم الانهزام واليأس أمام ضغوطات الحياة، و..الخ – لكننا، وبالنظر إلى ذلك، لا نستطيع أن نؤسس للمستقبل بالاستناد على الرغبات والنوايا الحسنة من دون ملاحظة ودراسة الإمكانات والطاقات المتوافرة في الواقع، وضرورة معرفة الطرق والأساليب الأمثل لاستخدام هذه الإمكانات بشكل فعال، وتوجيهها نحو ما نريد، وإلى ما نهدف، آخذين بعين الاعتبار وجود قوانين وسنن إلهية تاريخية ثابتة لا تتبدل، لها علاقة وثيقة جداً بما ذكرنا. حيث يجب العمل –في هذا الإطار– على اكتشافها وتحقيق الاستجابة لها، والعمل وفق ثوابتها وضروراتها.. لذلك فالمسألة هنا لا توزن –كما أسلفنا– بميزان النوايا الطيبة، بل لا بد من العمل الجدي وتركيز الجهود على وضع استراتيجيات عملية تبتعد عن دائرة الخطاب النظري التعبوي الفارغ من أي محتوى أو طموح مستقبلي هادف، وتتوفر على شروط وعناصر العلمية والموضوعية والواقعية المؤهلة وحدها لاستشراف المستقبل، والتأثير الفعلي في مساراته وتياراته من أجل تحقيق الهدف الأساسي لاستشراف المستقبل، وهو هدف الاستجابة الإنسانية للدعوى البنائية القائمة على الفرد والإنسان باعتباره سيد الكون والحياة، سعياً متواصلاَ باتجاه إقامة المجتمع المتطور والمزدهر والمعافى نفسياً وعملياً. لكن هذا الهدف النبيل للمستقبلية كما نفهمها ونعيها، لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن الغايات والأهداف الأخرى، وبخاصة هدف التخطيط العلمي والواقعي للمستقبل، ومعرفة أحداثه، والتنبؤ العلمي بها، واستطلاعها، بل إنه يستوعبها ويحتويها، ولا يختلف عنها إلا في دلالات النتائج والغايات فقط. من هنا نؤكد على نقطة أساسية وهي عندما يطرح العرب والمسلمون أنفسهم كبديل حضاري مستقبلي للعالم، فإن هذا الطرح خاطئ بحد ذاته، وهو يقتصر على دائرة الأحلام النظرية التي لا نزال نتعامل فيها مع التحولات والتحديات الجارية من منطلق ردود الأفعال الانفعالية الآنية، من دون وجود تخطيط عملي مسبق.. لأننا لا نزال نعيش في ظل واقع سياسي واجتماعي واقتصادي عربي وإسلامي يمثل أفقر وأسوأ ما وصل إليه المسلمون في تاريخهم القديم والحديث. فأشكال التخلف الشامل تلف بلدنا والمشاكل والأزمات والصدمات والانقسامات تطحن مجتمعاتنا...الخ..هذا هو الواقع المرير، ويجب أن نعترف بثقل وجوده الضاغط علينا، والذي يمزقنا بين كابوسه الأسود المهيمن وبين حلم امتلاك المستقبل. من هنا ينبغي علينا كعرب -إذا ما أردنا فعلياً التحرك على طريق التخطيط للمستقبل أو استشراف أبعاده المختلفة بهدف المشاركة في صنعه مع الآخرين– أن نواجه تحديات ترسيم وبناء طموحات واقعنا الداخلي، ومحاولة إيجاد الأجوبة المناسبة على أسئلة التنمية السياسية والاجتماعية والفكرية، وإشكاليات الحرية والحوار والتعددية السياسية، والاعتراف بالآخر، وتعميم ثقافة الوعي والانفتاح والتعاون المطلوبة في داخل اجتماعنا الديني والسياسي، مما له تأثير واضح ومباشرعلى صياغة المستقبل الذي نريد، وهو ما سيتيح إمكانية أوسع وأبعد مدى للدخول إلى عالم المستقبل من خلال استشراف أحداثه، وبناء بعض مواقعه. لذلك إن هدفنا ورغبتنا في امتلاك المستقبل -ومعرفتنا المسبقة بأنه من الضروري أن يكون لنا دور تكاملي مع باقي الأمم والحضارات والثقافات في ترسيم ووضع وبناء مستقبل العالم- يجب ألا تحجب نظرنا عن رؤية المشاكل والأزمات الكثيرة التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بل ينبغي أن يكون ذلك دافعاً لنا للعمل بالتكليف والمسؤولية الملقاة على عاتقنا من أجل إيجاد حلول عملية لها (لتلك الأزمات(.