المبتدأ: – وجد النظام الحاكم ضالته في دعاوى إقصاء الأحزاب المعارضة عن حراك التغيير، فالتقطتها أجهزته الأمنية وسارت بها لدق أسافين الفرقة بين قوى المعارضة وتوسيع هوة الخلاف بين الحركات الشبابية والأحزاب السودانية المعارضة، وهو هدف إستراتيجي عاشت تحلمبتنفيذه السلطة الحالية طوال مراحل سيطرتها على مقاليد البلاد دون جدوى، ولا أفهم كيف فات على متبني دعاوي الإقصاء هذه هذا الأمر !! فمن يروج لمثل هذه الدعاوي اليوم يقدم خدمة مجانية للسلطة الدكتاتورية تفوق في قيمتها جميع خدمات أجهزته الأمنية الملعونة. والخبر: – (1) الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الأحزاب السياسية المعارضة في هذا التوقيت الدقيق بالذات من بعض منسوبي الحركات الشبابية غير مبررة، وتضر بقضايا التغيير،وبغض النظر عن دوافع هذه الهجمة إلا أن تجارب الشعوب من حولنا قد أثبتت عدم جدوى أي حراك سياسي معارض مالم تكن القوى الداعية له منظمة، ولها تاريخ وخبرة كافية لقيادته بسلام نحو تحقيق أهدافه الإستراتيجية الموضوعة سلفا، وما الفوضى والانفلات الأمني الذي نشاهده في بعض دول الجوار، وأدّى لتحول انتفاضاتها الشعبية لحروب أهلية طاحنة،إلا نتيجة لغياب الأحزاب السياسية والمواعين التنظيمية الأخرى ذات الخبرة، والمراس السياسي، فعملية التغيير الثوري عملية معقدة ومركبة، يجب أن تسبقها جهود تعبويه وإعداد جيد توضع خلالهإستراتيجية عامة للتغيير واضحة ، وأهداف إستراتيجية محددة تبنى على أساسها التكتيكات المرحلية التي تنتقل بالحراك الثوري بنجاح من مرحلة لأخرى بأقل تكلفة مادية وبشرية ممكنة. (2) في ظل استحكام حلقات الأزمة الوطنية -التي أخذت بتلابيب مناحي الحياة كافة- قد نجد العذر لأصحاب الهجمة من الشباب، فالحياة قد غدت بصورة عامة تحت حكم السلطة الحالية جحيم لا يطاق، ونشاط بعض الأحزاب المعارضة لم يرتق بالفعل لمستوى المسؤولية التاريخية؛ ولكن رغم ذلك لا نستطيع خداع هؤلاء الشباب والزعم بأن وضعهم لأحزاب المعارضة والنظام في نفس الكفة والحكم عليها بالفشل عمل راشد وعادل، خاصة وقد شهد الجميع الكيفية التي تعامل بها النظام طوال فترة حكمه مع أحزاب المعارضة ، وكيف أنه استهدف وجودها وسعى لضرب مؤسساتها وتصفية نشاطها، مسخراإمكانيات الدولة التي جعلها تحت قبضة حزبه حتى أضعف كياناتها بوسائل غير مبدئية مستخدمة سياسة فرق تسد غير الأخلاقية. (3) ورغم سياسة استهداف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي ابتدأها النظام منذ بواكير حكمه، ورغم عزوف معظم الشباب عن رفدالأحزاب بطاقتهم وولوج سوحها لأسباب عديدة جلها ذاتي وغير موضوعي، ظلت هذه الأحزاب تناضل قدر طاقتها، وتقدم الشهداء والمعتقلين من قياداتها ومنسوبيها،ولم تخلُ مرحلة من مراحل حكم النظام من شهداء أو معتقلين، حتى توقّع الكثيرون من المراقبين للشأن السياسي في المنطقة لحاق الخرطوم برصيفاتها من العواصم التي اشتعلت في أردانها نار التحاور المسلح، كما هو الحال اليوم في طرابلس ودمشق، وظلت هذه المخاوف تسيطر على عقول شريحة مقدرة من المحللين السياسيين وكتاب الرأي عند تناول الشأن السوداني، بيد أن الجميع في اعتقادي قد وقع وهو يقارب الأزمة السودانية في فخ "القياس" دون مراعاة لفوارق البنية السياسية، ودون ملامسة متروية وعميقة لتاريخ نشأة الحراك السياسي السوداني والمواعين المنظمة له، قفزا فوق عوامل تراكم الخبرة والتجربة وفي هذا دلالة كافية لأهمية وجود هذه الأحزاب كتعويذة وطنية وكأعمدة راسخة لحصانة الوطن من التشرذم. (4) لتاريخ نضال المجتمعات -من أجل التحرر والانعتاق من نير الظلم وسعيها نحو تأسيس نظم حكم وطنية رشيدة- سمات وخصائص تختلف باختلاف الواقع الذي بذرت فيه؛ ويظل لكل تجربة إنسانية خصوصيتها التي يجب استصحابها عند مقاربة الظواهر التي تنبثق من رحم ذاك الواقع؛ وتعقيدات هذا الشأن تجعل الإحاطة بجوانبه كافة عصية على نهج "المقابلة القياسية" في التحليل الذي يتقيد بأسئلة محددة، تطرح مسبقا ولا يسمح بالخروج عنها، على عكس نهج "المقابلة المركزة" الذي يعدُّ أكثر دقة في التحليل، حيث يتيح حرية أكبر في تفسير الظواهر الاجتماعية، دون التقيد بأسلوب طرح الأسئلة المتعلقة بالظاهرة المدروسةفقد أهمل كثير من المحللين عند تحليل الأزمة السودانية عوامل "التحصين" التي مثلت الحجاب الحاجز، وحالت بين الخرطوم وانزلاقها في أتون الفوضى التي تشهدها عدة عواصم في المنطقة حاليا؛ على الرغم من توفر أسباب هذا الانزلاق فعليا بأكثر مما هو متوفر في تلك الدول التي انقلبت عواصمها ومدنها الكبرى رأسا على عقب، وقضت نيران الحوار المسلح على اليابس والأخضر فيها،لا سيما عند إمعان النظر في فسيفساء المجتمع السوداني متعدد الأعراق والثقافات والمعتقدات؛ إلا أن خطل الأخذ بظاهر الظواهر الاجتماعية فقط -كمؤشرات قطعية الدلالة دون بذل جهد الغوص في عمق الحالة السودانية وتلمس مكنيزم تفاعلاتها الباطنية المنتجة لمجمل المخرج الذي نراه ماثلا- قد أضاع فضل الجهد سدى، فلم تتطابق خلاصته والواقع الذي تجاوز جموده الربع قرن. (5) جميع الآراء التي أجمعت على حتمية امتداد اللهب السوداني المندلع أصلا على طول حزام الهامش ونسفه للاستقرار النسبي الذي تعيشه الخرطوم؛ وبقية المدن الكبرى الأخرى؛ قد قدمت قراءات مقعرة؛ سمتها قصر النظر؛ تفتقر لمنطق الجدل وتعتمد حصرا في قراءتها على مبدأ "المقابلة القياسية"، الشيء الذي حدَّ من قدرتها على استقراء خصائص الواقع السوداني، وأدى لعجزها عن فك شفرة تعقيداته فطاش سهمها؛ وظل يراوح مكانه في انتظار أن يتلبس الواقع الخلاصات جبرا، عوضا عن تحليل هذا الواقع جدليا للوصول لنتائج واقعية توضحأهم طلسم في "تعويذة الحصانة" التي حفظت الخرطوم من خطر الانجرار لأتُّون الفوضى التي وقعت فيها ولا زالت تخوض في وحلها عواصم جارة، وهو رسوخ المواعين المنظمة لحركة ونشاط المجتمع؛ فالأحزاب السودانية ومنظمات المجتمع المدني على علاتها، والتي يحلو لكثير من الشباب اليوم تبكيتها ظلت هي الطلسم الأهم في التعويذة الوطنية، وأقوى أعمدة حصانته ضد امتداد الحوار الخشن،واندلاع الحريق (الشامل)؛ رغم توفر عناصر ومعينات الاشتعال؛ من سلطة فاسدة ارتكبت الكثير من المظالم، في مجتمع تقليدي متعدد السحنات والمعتقدات، ولا يزال إرث القبيلة يحتل مكانا مرموقا في أذهان نخبه، دع عنك عامة مواطنيه. (6) يمكن ببساطة رمي تلك المواعين بالنعوت كافة، واتهامها بالعجز وعدم القدرة على القيام بالواجبات، ولكن كل ذلك لن يسلبها شرف تحقيق الاستقلال الوطني بأقل تكلفة، مقارنة بمهر الدم الذي دفعته شعوب أخرى، ولن يحرمها أجر السبق ومحاولة إرساء نظام حكم ديمقراطي رشيد، والدولة السودانية المستقلة لا تزال في المهد تحبو؛ ولن يمحو ويسقط عنها تاريخ النضال الطويل بعدئذ ضد الدكتاتوريات العسكرية التي توالت على حكم البلاد، واستطال أمد حكمها حتى اليوم معطلا صيرورة تراكم التجربة الديمقراطية، ومفشيا في المجتمع أمراض النظم الشمولية من انتهازية وفساد وتنمية عشوائية، ليبقى رغم هذه العثرات الإرث الديمقراطي الذي أرست دعائمه باكرا هذه الأحزاب، باقيا في الضمير الوطني والعقل الجمعي مشكلا رافعة التقاء وتعويذة سحرية أقصت شمولية الفواجع والمواجع، وحدَّت من غُلَوَائِها. (7) هناك تهمٌ عدة تطارد وتلاحق الأحزاب السياسية، منها تهم بالجمود وتكلس الهياكل التنظيمية؛قادت لضعف تمثيل الشباب في الطواقم القائدة، ومنها عدم القدرة على التطور ومجاراة إيقاع العصر، ومنها ضعف البرامج المطروحة، والعجز عن استحداث وسائل وأدوات نضالية جديدة، ومنها أيضا ركض أغلبية هذه الأحزاب خلف مصالحها الحزبية، وإهمالها لمصالح الوطن العليا، وكل هذه التهم في جانب من جوانبها حقيقية ويصعب دحضها رغم وجود أسبابذاتية موضوعية معلومة عاقت وتعوق مسيرة تحديث وتطور هذه الأحزاب؛ عموما، ولكي تكون الأحكام منطقية وواقعية يجب عدم التعميم والاعتراف بأن البعض من هذه الأحزاب قد استشعرت مكامن ضعفهاوبدأت بالفعل خطوات جادة لمعالجة أوجه القصور في هياكلها التنظيمية، وبرامجها واللوائح المنظمة لحياتها الداخلية، وهو ما يجب أن يكون دافع للشبابأن يعيد النظر في مواقفه الرافضة لها،والتحلي بالموضوعية، وعدم نكران دورها الحيوي في صياغة تاريخ السودان الحديث، فالأحزاب مؤسساتمهمة تساعد في تأطير المشاركة السياسية، التي تعد معيارا لحضارية المجتمع، وسلامة العلاقة التفاعلية بينه، والدولة وهي بلا ادنى شكتمثل رمانة ميزان استقرار الوطن، والسلم الاجتماعي. ** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون