محمد الحمامصي يحلل الباحث اليمني عبدالله اسحاق في "محطات في حركة التنوير الأوروبية " دينامية التحولات البنيوية ومستوياتها، حيث رأى أنه ابتداء من القرن السادس عشر حدثت في أوروبا تحولات بنيوية وحركات اجتماعية واقتصادية ودينية وسياسية، رافقها استكشافات جغرافية وفتوحات استعمارية، مع ثورة علمية تقنية رافقت الثورة الصناعية، التي فجرت في نهاية القرن الثامن عشر الثورة الفرنسية والثورة القومية – البرجوازية في أوروبا. ويرصد اسحاق في الجزء الأول من كتابه الصادر عن دار ابن رشد لحركة التنوير الأوروبية والمراحل التي مرت بها وصولا الى الثورة الفرنسية 1789 1799 والآثار التي أحدثتها مع التراكمات التي سبقتها الى ان أصبحت حركة التنوير الأوروبية حقيقة مستقرة في الوعي الجمعي والذهني في المجتمعات الأوروبية مع منتصف القرن الثامن عشر. وقد انطلق من القرون الوسطى والعقلية السائدة فيها ثم عصر النهضة الإيطالية أو الاستفاقة، متوقفا مع دانتي الليجيري 1265-1321، وحركة العلوم الإنسية أو الإنسانية، وفن الرسم والنحت، ويتوقف مع فرانسيس بيترارك 1304- 1374 أبرز مفكري حركة إحياء العلوم الإنسانية، ثم الحروب الإيطالية 1494 1559، ومارتن لوثر 1483 1546 وحركة الإصلاح الديني، رينيه ديكارت 1596 1650، وحرب الثلاثين عامًا 1618 1648، والثورتين الانجليزية 1688، والثورة الفرنسية 1789-1799. وذلك في محاولة جادة لاسقاط حجرا في المياه العربية الراكدة والمستطيبة لحالة الاستلاب العقلي لكي تستيقظ من سباتها العميق. ويشير اسحاق إلى أنه على الرغم من أن فلاسفة ومفكري العرب الأندلس قد لعبوا دورا مهما ومؤثرا في حركة التنوير الأوروبية عن طريق قيام ابن رشد بشرح فلسفة أرسطو العقلية التي وصلت تلك الشروح الى الغرب الاوروبي في عصور الظلام الذي كانت تعيشه أوروبا إلى بداية القرن الثالث عشر، واستمر تأثير تلك الفلسفة الرشدية الى القرن السادس عشر، إلا أن العقلية العربية ظلت أسيرة تعظيم العلوم الشرعية على حساب العلوم العقلية البرهانية ، فلم يعد العقل العربي قادرًا على مغادرة الإطار الذي خندق داخله. يرى اسحاق أن أصول عصر التنوير تعود إلى عصر النهضة (Renaissance) الذي تطور خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر وقام على الفلسفات الإغريقية والإسلامية والشرقية القديمة وعلى أنقاض تفكك علاقات الإنتاج الإقطاعية ونشوب الحروب الصليبية وبدايات نشوء الرأسمالىة في إيطاليا (جنوا والبندقية) وتطور المانيفكتورة (المصنع اليدوي) واكتشاف قوة البخار والطباعة من قبل غوتنبرغ 1445 وتطور وسائل النقل البحرية التي أدت إلى التوسع في الاستكشافات الجغرافية واكتشاف العالم الجديد. كل ذلك تمخض عن تحولات بنيوية جذرية وشكل انقلاباً في جميع مرافق الحياة التي وضعت الأسس لقيام الحداثة التي زعزعت البنى الفكرية والمجتمعية والاقتصادية القديمة وأنتجت تيارات اجتماعية وفكرية وفلسفية عقلانية نقدية في مقدمها: تطور العلوم والتكنولوجيا والفلسفة والآداب والفنون والموسيقى والمسرح وغيرها. ونمو النزعة العقلانية التفاؤلية التي تعتبر الإنسان معيار كل شيء وأن الطبيعة البشرية والمجتمع هما مصدر القيم الإنسانية. وظهور تيارات فكرية ومذاهب سياسية ونظريات اجتماعية وفلسفية كان في مقدمها فلسفة التاريخ لهيغل وفلسفة القانون لمونتسكيو ونظريات العقد الاجتماعي لهوبز ولوك وروسو وقيام الثورات البرجوازية التي توجت بالثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان. ويلفت إلى أن مرحلة القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت مرحلة مخاض لصراع طويل ومرير بين حركة التنوير والتحديث من جهة، والأصولية الدينية من جهةٍ أخرى، وصولاً إلى منتصف القرن الثامن عشر، وهي المرحلة الحاسمة التي استقرت عندها حركة التنوير الأوروبية، التي انتقلت بدورها إلى مرحلة النقد والهجوم المباشر على الفكر الأصولي القروسطي دون مواربة، لتتشكل بذلك مرحلة القطيعة "الابستمولوجيا Epistemology" مع الماضي بكل أفكاره لتبدأ مرحلة انطلاقة أوروبا الحديثة. لقد عبّر عن هذه المرحلة المؤرخ الفرنسي الكبير بول هازار 1878-1944، بما معناه: بدأ المهاجمون يتغلبون شيئًا فشيئًا، ولم تعد الهرطقة منعزلة ومحتجبة، وكانت تكتسب أتباعًا وتصبح وقحة ومعتزة بنفسها، ولم يعد الرفض يتخفى بل أصبح ينتشر، والعقل لم يعد حكمة متوارية بل نقدًا جسورًا، وكانت المفاهيم الموروثة الأكثر عمومية كمفهوم القبول المطلق الذي يثبت الله، ومفهوم العجائب في موضع الشك، وكانوا يُقصون الإله إلى السماوات المجهولة التي لا تُدرَك، فالإنسان والإنسان وحده أصبح مقياسًا لكل الأشياء، كان هو نفسه مبرر وجوده وغايته. ويقول اسحاق أنه مع النصف الثاني للقرن الثامن عشر، استقرت حركة التنوير الأوروبية كحقيقة لا يستطيع أحد إغفالها أو إغفال حجم تأثيرها على قطاع لا يستهان به من الناس الذين لمسوا ذلك من خلال الإنجازات العملية المتلاحقة التي انعكس أثرها على الناس وصولاً إلى الثورة الصناعية التي حدثت في بريطانيا بدءًا من العام 1750 إلى 1850، والتي انعكس أثرها على سكان الأرياف المزارعين بتحسُن أوضاعهم المعيشية باستخدامهم الآلات الزراعية بدلاً من الوسائل البدائية. ومع ظهور اختراع الآلة البخارية التي عملت على ماكينة صناعة النسيج والأقمشة ضمنت بريطانيا تفوقها على منافسيها في الدول الأوروبية وصارت أغناها، غير أن الاختراع لم يكن حكرًا على بريطانيا، فسرعان ما انتشر إلى الدول الأوروبية الأخرى، وأصبحت الثورة الصناعية نقطة تحول رئيسة في التاريخ الإنساني، إذ شمل تأثيرها كل جوانب الحياة وارتفع معدل دخل الفرد بنسب خيالية عما كان عليه قبلها. ويؤكد أن ما نشهده اليوم من تطور متسارع في مجال التقنيات الحديثة في جميع مجالات الحياة، وهو الذي يُعدُّ ثورة بكل المقاييس وبالأخص في الخمسين سنة الماضية أساسها ومرتكزها كانت الثورة الصناعية التي شَرعت لهذا التطور المذهل الذي تعيشه البشرية. من هنا سنلاحظ التلازم الوثيق بين حركة التنوير الأوروبية والإنجازات العلمية، فلم تكن حركة التنوير منعزلة عن الإنجازات العلمية ولم يعمل مفكروها عملاً فكريًا بعيدًا عن المحيط العلمي والاختراعات. فالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت جاء بنظريته الشهيرة "نظرية الشك الديكارتي" بعد نظرية كوبرنيكوس 1473-1543، عن دوران الأرض حول الشمس، وأن الأرض ليست مركز الكون كما كان الاعتقاد سائدًا، وإنما الشمس هي مركز المجموعة الشمسية، وأن الأرض والأجرام السماوية الأخرى تدور حولها. وجاء بعده جاليليو 1564-1642، ليؤكد هذه النظرية ويدافع عنها مما عرضه للمحاكمة غير أن كوبرنيكوس لم يكمل نظريته أو أنه أحتار في موضوع الأفلاك السماوية ليأتي بعده إسحاق نيوتن 1642-1727، ليكمل نظرية كوبرنيكوس وليقدم شرحًا فيزيائيًا عام 1667، يُظهر فيه أن الكواكب تظل في مداراتها بسبب قوى الجاذبية وليضع النواة الأولى للطفرة العلمية الفيزيائية والرياضية التي ارتكز عليها العلماء من بعده لقيامه بتحليل حركة الظواهر الميكانيكية الطبيعية في الكون، شارحًا نظريته تلك في كتابه "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" وقد اعتبر نيوتن بهذا الاكتشاف المهم حينها من أعظم الشخصيات في التاريخ الإنساني.