ان الإنسان بطبيعته ميال إلي الحقيقة والمعرفة وتحقيق الذات والتخلص من القيود الفكرية التي تحجر التفكير الانساني او القمعية ،وان البشر يحبون السلام والاستقرار والرفاهية ويرفضون القمع والاستبداد وخاصة اصحاب العقول او شغيلة الفكر فقد غادر آلاف من العقول السودانية وهي ثروة لا تقدر بمنطق الحسابات ولا المعادلات البرغماتية بل تمس كيان ووجود الامة بعينها ،وهؤلاء العقول المشردة هم الاطباء الجراحين واطباء الاختصاص والاستاذة الجامعيين في الحقوق والكمبيوتر والعلوم والإدارة والحقوق والإحصاء والمحاسبة وغيرها من مختلف التخصصات ، وكذلك الدبلوماسيين والعسكريين والمهندسين والكتاب والصيادلة والفنانيين والسياسيين ،كل هؤلاء العقول السودانية بمختلف كفاءاتهم غادروا البلاد وصفوف طويلة في الانتظار للهجرة بحثا عن الأمان والحرية والرفاهية وتطلعا إلي ممارسة حقهم الانساني في العيش وفق اقتضاءات الامن المعيشي. وبما ان قضية اهدار راسمال الامة قضية واحدة لا تتجزأ ، ولكنني سوف اركز في هذا المقال عن اسباب وعوامل هجرة اساتذة الجامعات ،ومما لا يخفي لاحد ان مئات الاساتذة من الجامعات السودانية قد غادروا البلاد في بحر هذا العام الي الجامعات العربية والإقليمية والعالمية باحثين عن حياة كريمة.ولعل أكثر ما يحزنني وأنا طالب انتمي لاحدي الكليات العريقة الاوهي كلية القانون بجامعة النيلين قد غادر أكثر من سبعة أساتذة، وهم في ارقي درجات التأهيل العلمي ،ومع كامل اقرارنا ان من حق البشر العيش بسلام والتنقل بحرية وتعديل الاسم او في تعبير عن اراءه بصورة سليمة او في تغيير مسكنه او في اختيار طريقة العيش او غير ذلك مما هو ثابت في الاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية. ولكن علي الرغم من دواعي ومبررات الهجرة الا ان هؤلاء المهّجرين وليس المهاجرين لان هجرتهم بفعل فاعل ،قد انفقت الدولة السودانية عليهم الملايين من عرق الشعب السوداني وباتوا في قمة التاهيل العلمي والمعرفي،ثم استثمرتهم الدول الاخري،حقا انه نزيف اليم للادمغة السودانية تغادر بلادها والتي في حوجة ماسة اليها ،واذا ابحرنا في جذور ازمة او محنة الأستاذ الجامعي نجد ان ضنك المعيشة وبؤس الوضع الاقتصادي للأستاذ الجامعي هي اكثر الدوافع الهجرة،ومن المعلوم جيدا ان وزارة التعليم العالي رفعت يدها تماما عن تمويل الجامعات حتي في الفصل الأول المتعلق بمرتبات الموظفين ،وان الجامعات ميزانيتها ضعيفة جدا لا تسمح لتحسين اوضاع الموظفين بمن فيهم هيئة التدريس ،لذلك تعتمد بشكل اساسي في عملية تمويل أنشطتها علي مواردها الخاصة التي ياتي معظمها من برامج القبول الخاص،ونتيجة لعدم تقنين وضعية الاستاذ الجامعي في سلم الوظيفي للدولة ترك الحبل علي الغارب لادارة الجامعات بالتحكم في تحديد رواتب الأساتذة ومستحقاتهم دفع بعض المديرين بتوزيع تلك الرواتب والمستحقات وفق امزجتهم. قد يتبادر الي ذهن اي انسان حادب لمصلحة الوطن لماذا ظل هذا النظام يتعامل بهذه الكيفية مع من هم افضل خيارات المجتمع! ،الم يكشف هذا زيف وادعاء بما يسمي ثورة التعليم العالي ِ…وفي الحقيقة هي ثورة تدمير التعليم العالي ،علما بان لا يمكن لاي امة ان يكتب لها الريادة ما لم تضع التعليم في قمة اولوياتها وتبني عليها خطط البناء والتنمية ،ومن المفارقات ان هذا النظام يرصد مليارات الجنيهات للأمن.. وأساتذة الجامعات في احلك الظروف الاقتصادية مما حدا بهم الي المغادرة!! اليس من الاجدر ان تخصص تلك المبالغ الهائلة لهؤلاء العقول وهم خير للسودان وللانسانية جمعاء!!. ومن العلوم جيدا ان هذا النظام الدكتاتوري تضع القيود والموانع المختلفة علي مصادر المعرفة واهدرت وتهدر الحريات الحريات الاكاديمية بهدف تطبيق سياساتها القمعية وتوطيد دعائم فلسفتها الاستبدادية المتمثلة في المشروع الحضاري،وسعت في محاربة كل قنوات الفكر والحرية العلمية والتفكير الحر واشكال الابداع والبحث العلمي إلا ما يتناسب ونمط الحكم الدكتاتوري مثل الثقافة الشمولية وفرض العقيدة او المذهب السياسي وعسكرة التعليم المقترنة بثقافة الخوف وعبادة الافراد ،ذلك ان حرية التفكير والابداع ورفع القيود عن مصادر المعرفة هو العدو الأول للأنظمة الدكتاتورية ،ومن خلال كل التجارب الانسانية للأنظمة الشمولية ( فالقوة ربما تصنع الخوف لكنها لا تصنع الاحترام،كما ان الظلم إذا ساد دمر ،ونتائج الظلم الخراب). هذا النظام قد قام باهانة العلماء وتم زجهم في السجون وضربهم وتعذيبهم وتعريضهم لأبشع صنوف المعاملة اللا إنسانية وكل ذلك بسبب الراي ،ودونكم نماذج كثيرة من استاتذتنا الاجلاء الذين تم تعزيبهم من قبل زبانية النظام ،ويبدو ان التاريخ يعيد نفسه فقد اعدم سقراط بتهمة افساد عقول الطلاب حينما ناقش طرق غير مالوفة في تحيديد مفهوم الديمقراطية ،وكذلك هجر أفلاطون أثينا بعد إعدام سقراط إلي كثير من الدول ،وايضا الناظر للتاريخ الإسلامي يجد ما حاق لابي حنيفة والامام مالك والحنبلي من مضايقات وغيرها من انواع تقييد الحرية ،ومما يؤرق الضمير العلمي في ظل هذا النظام تحولت الجامعات والمؤسسات العلمية السودانية من مراكز للبحوث لتطوير الدولة والمجتمع إلي زيل تابع .للمؤسسة العسكرية الامنية للنظام الشمولي ،ولهذا يجري تعيين مديري الجامعات دونما انتخاب حر من مجلس الاساتذة ،ويعتبر السيد الرئيس الراعي الأول لأي جامعة وفقا لقوانين الجامعات ،كل هذه العمليات تخدش من مصداقية وحيادية مؤسسة التعليم العالي والتي يجب ان تكون مستقلة،وفي هذا المضمار يجدر بنا الحديث عن الحرية الأكاديمية ،والمقصود بالحرية الأكاديمية هي حرية أعضاء الهيئة الأكاديمية للوصول إلي مختلف علوم المعرفة والتطورات العلمية وتبادل المعلومات والأفكار والدراسات والبحوث والإنتاج والتأليف والمحاضرات في استخدام مختلف وسائل التطور الحديثة ودون تقييد أو حواجز وصولا لخير المجتمع والإنسان ،وقد نصت المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ،ويشمل هذا الحق اعتناق الآراء دون تدخل ،واستقاء الأفكار ونقلها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون أي تقييد بالحدود الجغرافية ) وقد دأب هذا النظام بكل الآليات المتاحة له علي إهدار كافة الحريات الأكاديمية وذلك من جراء عدم تقديم مستلزمات ت البحث العلمي واعتقال وتعذيب المبدعين والمفكرين من أساتذة الجامعات ,ووضع قيود لحرية التفكير العلمي ,كل هذه الأسباب قد جعل الأستاذ الجامعي مجرد موظف بدل ان يكون باحثا ومشتغلا في حقل المعرفة . وكنتيجة حتمية لهذه الأسباب المتمثلة في ضعف وتدهور البحث العلمي ،وانعدام القدرة علي استيعاب أصحاب الكفاءات في مختلف تخصصاتهم ،وضعف المردود المادي ،وعدم الاستقرار السياسي (شعور بعض أصحاب الخبرات بالغربة في أوطانهم) ،هجروا أساتذتنا الكرام سعيا وراء ظروف أكثر حرية وأكثر استقرارا،ولكن حتما سيعود هؤلاء العقول ويتم تكريمهم لان الأمة التي تكرم عقولها تكون قوية بهم،وان عودة العقول سوف يكون بعد زوال النظام وبناء دولة القانون والمؤسسات الدستورية واحترام حقوق الإنسان ومنها ضمان الحريات والحقوق والحريات الأكاديمية وحرية التفكير وحرية التعبير والتأليف والكتابة والإبداع والنشر والاتصال مع العالم وهو زمن ليس ببعيد وعندها لابد ان يبزغ الفجر بعد ليل طويل.