المربخ يتعادل في أولى تجاربه الإعدادية بالاسماعيلية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    الى قيادة الدولة، وزير الخارجية، مندوب السودان الحارث    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    عائشة الماجدي: دارفور عروس السودان    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (3 من 11)
نشر في حريات يوم 19 - 02 - 2012


السياق السياسي وإنتاج النازلة..
في خضم الزوابع التي عصفت بالسُّودان بعد تفجُّر الحرب الأهليَّة الثانية في السُّودان العام 1983م، واستفحالها، حتى أغشت الناس تداعياتها، طفح نوع من الوعي السياسي لدي السُّودانيين، وبخاصة أهل الهامش، ودبَّ فيهم – عامة الناس منهم والبسطاء وآخرين على السواء – ذلكم النمط من الوعي حتى بات من العسر عسراً أن يرضى الإنسان السُّوداني المسحوق ذو قلب نابض، ومشاعر حيَّة، وكرامة بشريَّة، وبصيرة نافذة، أن يكون كماً مهملاً تنوشه عوادي الدهر والبشر معاً، وتنال منه تعديات الساسة الحاكمين. وحين قال الدكتور جون قرنق “لن يكون السُّودان كما كانت عليه الحال من قبل”، كان هو قد أدرك في شكل واضح أنَّ العالم يتغيَّر، وأنَّ الظروف التأريخيَّة والأفكار السياسيَّة أخذت تعطي السُّودانيين إدراكاً آخر في حياة مجتمعاتهم، التي ينبغي أن تتغيَّر كذلك لتحسين مستوى معايشهم، وهكذا ولدت – كما شهدنا بأنفسنا – تلك التعاليم التي ثوَّرت الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة في الآن نفسه وفي السُّودان ككل، وليس في الجنوب وحده. وحين يكون هناك تغيير يُصاب الناس المنتفعين من الأوضاع القائمة بالهلع من الأشياء، والرهبة من الجديد الذي لا يكادوا أن يبينوا ملامحه بعد، ويصبحون متزمِّتين في آرائهم ورؤاهم، ويخرجون للناس سوءاتهم في الصحافة والإعلام، ويبحثون عن كبش فداء، وينزلون العقاب على غيرهم في أعنف ما يكون العقاب في أقبية التعذيب.
ذلك، فلا ريب في أنَّ الحكومة السُّودانيَّة كانت مضطرة اضطراراً شديداً حين وقَّعت على اتفاقيَّة السلام الشامل بينها وبين الحركة الشعبيَّة العام 2005م، لذلك سعت السعي الحثيث منذ باكورة عهدها بالاتفاق في البحث عن الوسائل السياسيَّة والأمنيَّة والدستوريَّة للتملص منها جملة وتفصيلاً، أو فقرة بعد فقرة، أو مادة إثر مادة، وبخاصة فيما يختص بالمناطق الثلاث (أبيي، جنوب كردفان والنيل الأزرق)، وذلك لأنَّ الإجراءات الأمنيَّة المتمثلة في القوات المشتركة وانتشار الجيش الشعبي في هذه المناطق ارتبطت بالفترة الانتقاليَّة، وسرعان ما يُعاد انتشار هذه القوات، وبخاصة بعد انقضاء الفترة الانتقاليَّة. ومن ثم سوف لا يكون هناك حارس أو ضامن عسكري لبروتوكولات هذه المناطق غير الضمانات الديبلوماسية التي وافقت عليها الدول الأجنبيَّة والمنظمات الإقليمية والأممية التي رعت الاتفاق، حيث يسهل إذن العبث بها، أو تمزيقها إرباً إرباً.
وبرغم من ذلك، اغتبط الناس حبوراً وسروراً بتوقيع اتفاقيَة السَّلام الشَّامل العام 2005م، واعتبروها انجازاً وإعلاناً قانونيَّاً وتطبيقيَّاً لنهاية الحرب، وذلك بالتأسيس المشترك للسُّودان الجديد بمعاييره المختلفة التي ارتضت بها الشركاء في العمليَّة السلميَّة، حتى تسود الديمقراطية والحرية والشفافية والنزاهة والعدالة، وترتقي قيم حقوق الإنسان والمساواة أمام القانون والاعتراف بالآخر والتعايش السلمي وهلمجراً. وقد اقتضى أمر السَّلام في حد ذاته التنازل سلماً عن بعض ما اعتبره كل طرف من طرفي الصِّراع حقاً مقدَّساً إلى أبعد حد (Sacrosanct right)، حتى لا تتضاعف الخسائر بالحرب، وكان هذا التنازل المتبادل، أو الصلح بمعناه الحقوقي، هو الذي حفظ المزيد من إراقة الدماء ولو إلى حين. وفوق ذلك كله، تفاءل السُّودانيُّون أنَّ السَّلام لسوف يحول دون تحويل الاختلاف إلى خلاف، والخلاف إلى صراع، والصراع إلى قتال أو اقتتال، والاقتتال إلى أعطاب في العقل تزين للوالغين في الدم المزيد من الفتك، وتغري الضحايا بإلغاء الدولة الطاردة. أيَّاً كان من أمرهم، ففي أثناء مفاوضات السَّلام بين الحركة الشعبيَّة والمؤتمر الوطني في نايفاشا ونيروبي تباينت آراء أهل المؤتمر الوطني في عدة رؤى: فهناك فئة كانت ترغب في مواصلة الحرب حتى آخر جندي، أو حتى يرث الله الأرض، وبخاصة بعد ما فقدوا ممن أسموهم “شهداءاً في ساحات الفداء”، لأنَّ قبول السلام يعتبر خذلاناً مبيناً لهم حسب حد زعمهم؛ وهناك فئة كانت تريد توقيع اتفاقيَّة للسلام حتى يتفرَّغوا للتعامل بطريقة ما مع بؤرة الصراع التي التهبت في دارفور. وهذه الفئة الثانية كانت تبطن ماهية الأسلوب الذي لسوف تنتهجه للتعامل مع السَّلام الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى في نيروبي، سواء مع أهل جنوب السُّودان أم المناطق الثلاث (أبيي، جنوب كردفان، والنيل الأزرق). وما سنبينه في الصفحات التالية يوضِّح في أدقَّ الإيضاح ما نحن به قائلون.
ففي زيارته الأولى إلى ولاية جنوب كردفان، وجه نائب رئيس الجمهوريَّة علي عثمان محمد طه لوالي الولاية أحمد محمد هارون توجيهات محدّدة، حسبما أسماها “التقييم السياسي، الأمني والخطط الإستراتيجيَّة للأحزاب للمرحلة القادمة. وقد نعت هذه الخطة ب”الخطة الإستراتيجيَّة رقم (11) رباعيَّة الأهداف تجاه الجنوبيين الجدد”. إذ لا يتطلب الأمر جهدداً كبيراً أو قليلاً من إنعام النظر لكي ندرك أنَّ الجنوبيين الجدد هم النُّوبة، والجنوب الجديد هو جبال النُّوبة. إذن، ماذا جاء في الخطة ذات الأهداف الأربعة تجاه من أسموهم الجنوبيين الجدد”؟ بعد البسملة وعبارات سري للغاية واسم الشخص المرسل إليه وعنوان الخطة، جاءت النقاط الأربع على النحو التالي:
(1) يجب تجنيد أبناء الجنوبيين الجدد في القوات النظاميَّة وغير النظاميَّة حتى يتم التمكن من السيطرة عليهم بالأوامر العسكريَّة.
(2) عرقلة المثقفين والمعاشين في العودة للمنطقة حتى لا يشاركوا في الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي بالمنطقة، ويجب استيعابهم في إضعاف الجنوب الجديد.
(3) يجب تفعيل ودعم المؤسسات الدينيَّة (الدعوة، الإرشاد، الزكاة،… إلخ” واستيعاب أكبر عدد من أبناء الجنوبيين الجدد في المشاريع أعلاه على وجه الخصوص في المناطق المختارة، حتى يتم التمكن من السيطرة على عقولهم.
(4) ومن ثمّ الزج بهم في الصراعات الداخليَّة والخارجيَّة، حتى يتم التمكن من اقتلاعهم من جذورهم.
لقد جاء هذا كله مقترناً مع “بيان سري لدولة العرب القادمة – قطاع الغرب – جنوب كردفان”، الذي دبّ ودرج كل الأفكار العنصريَّة والإساءات التي بدت في منشورات سابقة ضد أهل النُّوبة أينما حلوا (ملحق رقم (1)). ففي هذا المنشور نجد دون أدنى شك كيف أنَّ الحكام “المؤتمرجيين” قد نظموا الكراهيَّة (Regulated hatred) حتى انتظمت الكراهيَّة في عهدهم، وأُصِيب المجتمع السُّوداني بخلل جلل في شعوره العام والخاص، وانحطّ إلى مراحل بعيدة نحو البربريَّة والبهائميَّة، وعمته الفسولة، والفسولة هي الانحطاط وضعف المروءة، مما قد يصعب علاج هذه الأدواء في المستقبل القريب. فالبيان الذي بين أيدينا تفوح منه رائحة عنصريَّة نتنة، فضلاً عن عبارات سيئة مسيئة ك”النُّجوس الفجوس (النُّوبة اللصوص)”، الذين “يعيشون كالأغنام في الحظائر”. فاللصوصيَّة ليست وصمة تستلحق بجنس بعينه. فما بال الذين يختلسون أموال الدولة وجامعي الضرائب من أهل السُّودان الكادحين بملايين الدولارات، وهم كثر! ويبدو من سياق المذكرة بأنَّ هذا العمل السري من قبل المجموعة الأثنية إيَّاها قد بدأ باكراً منذ العام 1988م، أو قبل ذلك التأريخ، وقد سبقته اجتماعات ومشاورات وإصدار منشورات سابقة تحمل نفس المضمون وتدعو إلى البغضاء والشحناء ضد الآخر المختلف معها إثنياً ودينياً وثقافياً. واتخذت هذه الجماعة لغة شفريَّة لاستصدار بياناتها والإشارة إلى محتوياتها. وفي مختتم المنشور تبنى كاتبوه عدة خطوات للإيقاع بالنُّوبة حتى تتم السيطرة عليهم، وذلك عن طريق وصفهم بعبارات التخوين والارتداد عن الإسلام، وإثارة المسلمين ضد المسيحيين منهم، وافتتان قبائلهم بعضها بعضاً، وإيقاع بينهم العداوة والبغضاء، وحث المؤتمر الوطني بعدم دعم أي مشروع لعودتهم إلى جبال النُّوبة، واشتراء أراضيهم والاستيطان فيها، واستيعابهم في المؤسسة العسكريَّة، ووضع سياجاً سميكاً بين المثقفين والمتعلِّمين عن جموع المتواجدين في جبال النُّوبة، فضلاً عن زيادة عدد المخبرين وسطهم.
مهما يكن من شيء، فلا مُراء في أنَّه بعد انطفاء مرحلة في التأريخ السُّوداني قديمة وبدء مرحلة جديدة في سبيل إنهاء العدائيات العام 2005م خرج النُّوبة بأهم بندين في البروتوكول الذي فصَّلته اتفاقيَّة السَّلام الشامل لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وهما:
(1) المشورة الشعبيَّة.
(2) نصيب الولاية من الثروة القوميَّة.
وكما أشرنا آنفاً، فلا شك في أنَّ اتفاقية السَّلام الشَّامل للعام 2005م لم تلب رغبات أي طرف بالكامل، حتى أهل جنوب السودان لم يحقِّقوا كل مطالبهم من خلال التفاوض، والأمر نفسه ينطبق أيضاً على ما بدأ يُعرف بالمناطق الثلاث (جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي)؛ فبالتفاوض لن يستطيع أي إنسان أن يحقِّق كل المطالب والطموحات. وبذلك نجد أنَّه “في جبال النُّوبة والنيل الأزرق ما زال لأهل المنطقتين رأي حول الاتفاقية، وإلا فلما طالبتا بالمشورة الشعبيَّة التي ألزمتهما بها اتفاقيَّة السَّلام الشامل.”(7) عليه، نجد أنَّ الاتفاقيَّة – على شمولها – لم تمثِّل رؤية الحركة الشعبيَّة للسُّودان الجديد، وبالطبع لم تترك المجال على عواهنه للمؤتمر الوطني لإنفاذ برنامجه الحضاري على كافة أهل السُّودان كرهاً وهم لا يرغبون. وكما أسلفنا القول، فالاتفاقية وفرت المشورة الشعبيَّة كآلية تمكن هؤلاء المواطنين من متابعة ومواصلة النضال عبر الوسائل السلمية من أجل تحقيق الأهداف المبتغاة. فبالنسبة إلى قضيَّة المشورة الشعبيَّة فإنَّها تعني أنَّ البروتوكول كان إجراءاً مؤقَّتاً لوقف العدائيات إلى حين البت والحسم النهائي للمستقبل السياسي والدستوري والإداري للولاية وسكانها، وكذلك كانت الحال بالنسبة للجزء الخاص بحق تقرير المصير لشعب جنوب السُّودان، والذي انتهى بالاستفتاء في 9 كانون الثاني (يناير) 2011م، الذي بموجبه انفصل جنوب السُّودان في 9 تموز (يوليو) 2011م. إنن، ما هي حقيقة المشورة الشعبيَّة؟
لقد وردت لفظة المشورة الشعبيَّة (Popular Consultation) في وثيقة “اتفاقية بيلفاست”، التي توصل إليها المفاوضون في محادثات الأحزاب (السياسية) المتعددة حول قضية أيرلندا الشمالية العام 1998م، بعبارة “المشورة العامة” (Public Consultation) في المادة الخاصة بالحقوق، الضمانات، وتكافؤ الفرص. ففي الفقرة (3) الخاصة بتشريع المملكة المتحدة ورد ما يلي: “بناءاً على نتيجة المشورة العامة قيد الإجراء، ترغب الحكومة البريطانية – كأولوية خاصة – في تبني التزام السلطات العامة في أيرلندا الشمالية في القيام بكل أعبائها مع الأخذ في الاعتبار الحاجة إلى الارتقاء بتكافؤ الفرص فيما يختص بالعقيدة، الرأي السياسي، الجندر، العرق، العاهة، العمر، الحال الاجتماعية، المعولين، والتوجه الجنسي. ويتطلب من المؤسسات العامة خلق برامج قانونية فيها يوضحون كيف سينفذون هذه الالتزامات. كما ينبغي على هذه المشروعات أن تغطي إجراءات تقدير وتقويم السياسة، بالإضافة إلى تقويم أثرها على بعض القضايا ذات الشبه، المشورة العامة، حصول العامة على المعلومات والخدمات، التقويم والجداول.” وكذلك جاء في الفقرة (6) في هذا الفصل – وتحديداً في الجزء الخاص بالمؤسسات الجديدة في أيرلندا الشمالية – ما يلي: “وقفاً لما تفرزه المشورة العامة، التي هي قيد الإجراء حالياً، تود الحكومة البرياطانية أن تشرع قانوناً جديداً لمفوضية المساواة لتحل محل كل من مفوضية الاستخدام النزيه، مفوضية تكافؤ الفرص (أيرلندا الشمالية)، مفوضية المساواة العرقية (أيرلندا الشمالية) ومجلس العاهات. وهذه المفوضية الموحّدة ستقوم بإسداء الرأي، وتقدير وتقويم التعهد القانوني، والتحرى في الشكاوي حول التقصير.”
وفي الفقرة (2) في الفصل الخاص بالشرعنة، التطبيق، والمراجعة ورد ما يلي: “سوف تنظِّم كل حكومة (البريطانية والجمهوريَّة الأيرلندية) استفتاءاً في 22 أيار (مايو) 1998م. وفقاً لموافقة البرلمان فإنَّ الاستفتاء الاستشاري (Consultative Referendum) في أيرلندا الشمالية، الذي سوف يُعقد تحت شروط قانون أيرلندا الشمالية (الدخول في المفاوضات) للعام 1996م، وسيخاطب السؤال التالي: هل تدعم الاتفاقية التي تمَّ التوصل إليها في محادثات الأحزاب (السياسية) المتعددة حول (قضية) أيرلندا الشمالية وتمّ تدوينها في الورقة الرقم 3883.”(8)
وكذلك وردت عبارة الاستفتاء الاستشاري أو التشاوري في خضم العاصفة السياسيَّة التي أثارها نداء الحزب القومي الإسكوتلندي حول استفتاء الإسكوتلنديين في تقرير مصيرهم باختيار البقاء في الاتحاد أو الانفصال أو الجنوح إلى خيار ثالث. وقضيَّة إسكوتلندا – إلى حدٍ ما – شبيهة بمسألة جنوب السُّودان قبل الانفصال وكل من جنوب كردفان أو النيل الأزرق حالياً، والنفط الذي يستخرج في بحر الشمال ثروة قوميَّة بريطانيَّة أشبه ببترول جنوب السُّودان قبل الانفصال، أو بترول جنوب كردفان حالياً، مع وجود تداعيات أخرى كالهُويَّة الإسكوتلنديَّة، ولغة “القيليك” التي يسعى الإسكوتلنديُّون لإحيائها، وتدريسها لتلامذة المدارس الأوليَّة، بل وتطويرها كإرث ثقافي ينبغي المحافظة عليه، ودواء مجان، ورسوم قليلة للدراسة الجامعيَّة للطلاب الإسكوتلنديين، ونظام أفضل لتمويل بيوت العجزة.
وحين برزت مسألة تفويض السلطات إلى إسكوتلندا في بادئ الأمر، شهد مجلس العموم البريطاني نقاشاً حاراً حول مشروع قانون تفويض هذه السلطات في يوم 13 كانون الثاني (يناير) 1977م بين أنصار القانون من جهة، وبين معارضيه من جهة أخرى. ولا نندهش لئن علمنا أنَّ لكل أمة مخذليها من أهلها. ففي ذلك الجدال اللاجب وقف النائب البرلماني من جنوب أبردين (بإسكوتلندا) إيين سبروت (حزب المحافظين) ضد مشروع القانون، معللاً كراهيته له بأنَّ الغرض الأساس لمشروع القانون إيَّاه ما هو إلا ترضية سياسيَّة وتجابن، ولسوف يعني الإجراء مزيداً من الحكومة، ثمَّ إنَّه لسوف تكون هناك ست أفرع للحكومة في إسكوتلندا، مما يعني أنَّها ستكون أكثر دولة في العالم تتزاحم فيها الإدارة. وأصر السيد سبروت أنَّ خروج إسكوتلندا وإنشاء مجلسها التشريعي لسوف يؤسس سابقة لتجزئة المملكة المتحدة. وفوق ذلك، لم ينس أغلب الإسكوتلنديين أبداً، ولم يغفروا لنصير السيدة مارغريت تاتشر – السيد مايكل فورسايث – الذي قدَّم موطنه إسكوتلندا كأرض اختبار لإحدى السياسات الحقود (ضريبة الدقنية (Poll Tax)) لحكومة حزب المحافظين برئاسة السيدة تاتشر، وذلك في غياب تام لأي تفويض سياسي. ومثلما قاد يهوذا الإسقريوطي عملاء الحاكم الروماني في أورشليم القدس إلى مختبأ المسيح عيسى عليه الصلاة والسَّلام، فقد قاد سكرتير إسكوتلندا السابق اللورد فورسايث، وهو من درملين بإسكوتلندا، حملة عنيفة ضد تأسيس البرلمان الإسكوتلندي العام 1997م، حتى أصبح شخصيَّة منبوذة في إسكوتلندا. ومن جانب آخر، قال مالكم ريفكيند (بينتلاندز الوسطى) بإسكوتلندا وهو من حزب المحافظين هو الآخر في ذلكم الجدال المشار إليه آنفاً إنَّه لا يشوبه أدنى شك في أنَّ الشعب الإسكوتلندي يرغب أن يكون بريطانيَّاً، وإنَّ حزب المحافظين ليس ضد مبدأ التفويض، لكنه يحاول أن يؤكِّد أنَّ الجهاز الذي نسعي لتأسيسه يستوجب أن يعمل لتقوية المملكة المتحدة. أما زعيم الحزب الليبرالي السابق جو غريموند، النائب البرلماني لجزيرتي أوركني وشيتلاند بإسكوتلندا، فقد كرَّر تفضيله للنظام الفيدرالي، قائلاً: “إنَّ النظام الفيدرالي لهو الطريقة المثلى التي فيها تجد تعريفاً واضحاً لسلطات المجلس (أو الجمعية التشريعيَّة).”(9)
فالاسكوتلنديون البالغ تعدادهم 4 مليون نسمة – وتحت مناشدة الحزب القومي الإسكوتلندي (Scottish National Party) – ينادون بالاستقلال عن المملكة المتحدة التي تكوَّنت باتحاد تاجي إسكوتلندا وإنكلترا العام 1603م، واتحاد البرلمان الإسكوتلندي والإنكليزي العام 1707م. وبرغم من أنَّ قانون الاتحاد، الذي وُقع قبل 300 عام، قد أنقذ الاقتصاد الاسكوتلندي من الانهيار، لا يقبل الإسكوتلنديُّون أيَّة وصفة اقتصاديَّة علاجيَّة لشعبهم ذي الهُويَّة المحدَّدة بواسطة سلطة لا يملكون حق أحادي لتعيينها وفصلها، لأنَّ ذلك قد يسبب سخطاً عارماً وسطهم. إذ يتنادى الإسكوتلنديون في هذا الاستفتاء المرتقب أن تتضمن استمارة التصويت سؤالاً آخر بعد سؤال الانفصال أو البقاء في الاتحاد؛ وهذا السؤال الآخر هو خيار الحكم الذاتي في الشؤون المالية. ويأتي هذا الخيار لأهمية المال في قضايا التنمية والتخطيط والخدمات (التربية والصحة وغيرها) في مجالات الدولة المختلفة، وذلك برغم من اتهام زعيم الحزب القومي الإسكوتلندي ألكس سالموند بأنَّه يحاول أن يضمن محور ارتكاز آخر في حال إخفاق الحزب في الحصول على أصوات كافية لإعلان استقلال إسكوتلندا عن المملكة المتحدة في الاستفتاء الذي سوف يجري قبل انتخابات البرلمان الإسكوتلندي القادمة العام 2016م. ومع ذلك، يرغب الحزب القومي الإسكوتلندي – في حال الانفصال – في البقاء تحت التاج الملكي، زاعماً بأنَّ إسكوتلندا المستقلة لسوف لا تزال جزءاً من الجزر البريطانيَّة، وكذلك يرغب في الاحتفاظ بالعملة (الجنيه الإسترليني)، برغم من أنَّه لم نسمع بعملة واحدة ووزيرين للمالية (إلا في حال “اليرو” في الاتحاد الأوربي، حيث بدأ يعاني من مصاعب شتى)، والقواعد العسكرية البريطانية (باستثناء الأسلحة النوويَّة)، والتمسك بالخدمات الصحية القومية.
بيد أنَّ أكثر ما يثير غضب القوميين الإسكوتلنديين هو تواجد الترسانة النوويَّة للجيش البريطاني في إسكوتلندا، مما يعني أنَّه في حال حدوث أيَّة كارثة نوويَّة فإنَّ الضحايا المباشرين هم الإسكوتلنديين وليس الإنكليز. ومن جهة أخرى، نجد أنَّ أنصار الاتحاد من الإسكوتلنديين يتخوَّفون في أنَّ إسكوتلندا المستقلة لسوف تعاني من البطالة، والانقسامات الدينيَّة بين الكاثوليك والبروتستانت، ولسوف تفقد هيئة الإذاعة البريطانيَّة، وهي من المؤسسات المؤثِّرة التي أسسها إسكوتلندي هو اللورد ريث. وإنَّ السعي للاحتفاظ بالعملة ليدركه من يريد الاستقرار الاقتصادي لدولة وليدة، وهي الحال نفسها التي سعت إليها كويبك عشيَّة مناداتها بالانفصال عن كندا، وأبدت الرَّغبة في الاستمرار في التعامل بالدولار الكندي. إذن، ما الذي يدفع الإسكوتلنديين دفعاً قوياً إلى المطالبة بالانفصال بعد هذا كله؟ هناك ثلاثة اسباب جوهريَّة هي التي تحث الإسكوتلنديين إلى اتخاذ هذا المنحى: أولاً، السخط التأريخي والحروب الدمويَّة التي كانت تدور بين الإنكليز والإسكوتلنديين قبل العام 1707م، حتى أنَّ هناك قبائل إسكوتلنديَّة تعرّضت للإبادة العرقية (Ethnic cleansing)؛ ثانياً، عامل الهُويَّة، وكما ذكر البروفيسور جيميس ميتشل – المحاضر بجامعة ستراثكلايد الإسكوتلنديَّة – أنَّ الهُويَّات في هذه الجزر (البريطانيَّة) مركبة، شخصيَّة، ومتغيِّرة، وهي مرتبطة مع بعضها بعضاً ببنيان دستوري واهن فقط؛ وأخيراً نجد أنَّ شكاوي وإحباطات الإسكوتلنديين ضد حكومة ويستمنستر في لندن بدأت تأخذ ضحاياها بالحق والإدراك. وإسكوتلندا – منذ إبرام اتفاقيَة الاتحاد العام 1707م – كانت لديها دوماً هُويَّة مزدوجة، ويُعرَّف وضعها الرسمي داخل المملكة المتحدة بأنَّها أمة شماليَّة بعيدة نسبيِّاً، صغيرة، غير خصبة، مائلة إلى الشمال، ومتجانسة.(10) فماذا يوضح هذا كله؟ في تفسير كثر من الظواهر وردها إلى علَتها فإنَّ ذلك ليعلّل بوضوح أنَّ التظلمات التأريخيَّة، وعامل الهُويَّة والتهميش المتعاظم تشكل عناصر احتقانات سياسيَّة ودوافع احتراب أهلي، ومن ثمَّ تؤدي في نهاية الأمر إلى تفتت الدولة كما حدث في الاقتتال الأهلي وتدخل حلف “الناتو” في يوغسلافيا السابقة العام 1991م، وانفصال إريتريا عن إثيوبيا العام 1992م، وتشظي تشيكوسلوفاكيا السابقة إلى الشيك والسلوفاك العام 1993م، واستقلال جزيرة تيمور الشرقية عن إندونيسيا العام 2002م، وكذلك انفصال جنوب السُّودان العام 2011م وهلمجراً. إذ أنَّ الحلول السياسية – حسب اعتقادنا الجارف – ينبغي أن تأتي من القراءة القانونية للواقع المتدارك. وهذا القانون المستمد من الدستور ينبغي أن يتمتع برضا الشعب بكل فئاته، وذاك الواقع يجب أن يحظى باعتراف السلطة، وذلك امتثالاً لأثنيات القوميات المختلفة ولغاتها ودياناتها وثقافاتها ومشاربها السياسية.
مهما يكن من شيء، ففي مانيفستو الحزب القومي الإسكوتلندي في انتخابات العام 2011م أبدى الحزب رغبته الملحة في هذا الاستفتاء، وفي أيار (مايو) أعطاه الشعب الإسكوتلندي أغلبيَّة ساحقة في البرلمان الإسكوتلندي، مما أهَّل الحكومة الإسكوتلنديَّة أن يكون لديها تفويض (Mandate) للقيام بهذا الاستفتاء، لكنها لا تملك السلطة (Authority)، التي هي من صلاحيات حكومة الويستمنستر في لندن. إذن ليست للبرلمان الإسكوتلندي المعروف ب”هوليروود” أيَّة صلاحية من الناحية القانونيَّة لإجراء استفتاء استشاري من جانب واحد، وفي أي شكل من أشكاله. وقد انبرى لهذا الجدال الصاخب بضربة لازب رجال القانون في الحكومة البريطانيَّة ومتخصصو القانون الدستوري في الجامعات. وقد أفتى النائب العام دومينيك قريف بأنَّه حسب قانون إسكوتلندا للعام 1998م، فإنَّه لا يحق – دون مواربة – ل”هوليروود” أن يصادق على أي إجراء قد يؤثِّر على الوضع الدستوري للمملكة المتحدة. وإذا قام الحزب القومي الإسكوتلندي بهذا الاستفتاء، فإنَّ حكومة المملكة المتحدة أو كرام المواطنين يمكنهم أن يتحرَّكوا لوقف هذا الإجراء في المحكمة العليا باعتباره غير قانوني. بيد أنَّه مخول لرئيس الوزراء البريطاني الحق في استخدام الفقرة 30 من القانون إيَّاه ويطلب من الملكة في مجلس لتغيير شروط القانون حتى يُسمح ل”هوليروود” بعقد استفتاء محدَّد حول الانفصال، وذلك وفق أشراط معيَّنة. ومن الأشراط التي وضعتها حكومة الإئتلاف (من حزبي المحافظين والليبراليين الديمقراطيين) برئاسة ديفيد كميرون (من حزب المحافظين) في سبيل هذا الاستفتاء أن تكون الإجابة بنعم أو لا للاستقلال برغم من أنَّ بعض الإسكوتلنديين يرغبون في الخيار الثالث الذي يوفر لهم تفويضاً بسلطات أوسع؛ وأن تشرف على الاستفتاء مفوضيَّة المملكة المتحدة للانتخابات غير الموالية لأيَّة جهة؛ وأن يكون التصويت عاجلاً وليس آجلاً.
ومن جهة ثانية، يريد الحزب القومي الإسكوتلندي أن يعدِّل في العمر القانوني للناخب الإسكوتلندي في الاستفتاء المرتقب، بحيث يشمل الشباب من عمر 16 و17 سنة، وأن تكون مراقبة الاستفتاء بواسطة لجنة تُنشأ لهذا الغرض بدلاً من مفوضيَّة المملكة المتحدة للانتخابات، فضلاً عن عقده في منتصف العام 2014م ليصادف الذكري ال700 لمعركة بانوكبيرن العام 1314م، وهي المعركة التي فيها انتصر لإسكوتلنديُّون بقيادة روبرت البروس على الإنكليز. ولكن إصرار رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كميرون على اقتصار سؤال الاستفتاء على الإجابة بنعم أو بلا، مع حذف خيار “التفويض الأعظم”، حتى لا يتم تشتيت أصوات الناخبين الإسكوتلنديين من أنصار الاتحاد، قد يصب في صالح الحزب القومي الإسكوتلندي (الحائز على 69 مقعداً في البرلمان الإسكوتلندي البالغ مقاعده 129)، ويرجح كفتهم، ويصوِّتون للاستقلال. و”التفويض الأعظم” يسمح للإسكوتلنديين بالحكم الذاتي بإدارة شؤون بلادهم الداخليَّة ما عدا الشؤون الخارجيَّة والدفاع. وفي الحين نفسه سيعطي هذا الخيار الثالث مواطني إسكوتلندا خيار دعم صورة أخرى محسنة من التفويض التي هي أقل بقليل من الاستقلال التام، وهذه الصورة المحسنة، التي تعطي “هوليروود” صلاحيات إضافيَّة في رفع الضرائب والاقتراض، هي الآن في مجلس اللوردات لمناقشتها والمصادقة عليها.
إذن، ما هو الاستفتاء الاستشاري في هذه الحال؟ وماذا في حشايا “التفويض الأعظم” (Maximum Devolution)، أو المعرف اختصاراً باسم (Devo max) أو (Devo plus)؟ الاستفتاء الاستشاري في هذه الحال يعني إجراء مفاوضات تفصيليَّة حول شروط الانفصال، ومن ثم وضعها أمام الشعب الإسكوتلندي لتصويت ينبغي الالتزام بنتائجه.(11) أما “التفويض الأعظم”، وبما أنَّ تفاصيله ما تزال قيد النقاش، إلا أنَّ المؤشرات الأوليَّة لهذا التفويض قد ظهرت في تقرير كالمان العام 2009م، وبمفهوم بسيط هو أنَّ الإسكوتلنديين يمكنهم أن يفرضوا الضرائب وينفقونها، وينهوا العلاقة المالية بينهم وبين لندن؛ أما قضايا الملوك والجيش والأعلام والحدود والجوازات فليست بمسائل ملحة، والتفويض يمكن أن يمتد ليشمل الإنفاق على البنى التحتيَّة لدولة الرفاه. وعلى الحكومة الإسكوتلنديَّة – وفي نهاية الأمر الويلزيَّة وأيرلندا الشماليَّة – أن تكون مسؤولة مسؤوليَّة مباشرة أمام ناخبيها في السياسة الداخليَّة.(12) فما هو تعريف “دولة الرفاه” التي تنصر وتنتصر لسائر المهمَّشين بلا استثناء؟ بما أنَّ تحديد أصل عبارة “دولة الرفاه” من الأمور العسيرة، وبما أنَّها عرضة للجدل، إلا أنَّ المؤرِّخين قد أبانوا بأنَّ كبير أساقفة يورك – وليم تيمبل – هو الذي عمَّمها، وذلك في كتابه الذي نشره العام 1941م بعنوان “المواطن والكنيسة” (Citizen and Church)، والذي فيه قارن بين “دولة الرفاه” من ناحية، وبين الدولة ذات السلطة الفاشية من ناحية أخرى، وحدَّد دور الأولى في مساعدة المعوزين.
على أيَّة حال، ففي حال انفصال إسكوتلندا فسيطالب الإسكوتلنديُّون – على لسان رئيس الحزب القومي الإسكوتلندي، ألكس سالموند – ب90% من عائدات النفط المستخرج من بحر الشمال، والتي تبلغ 5,9 بليون جنيه إسترليني في العام. هذا إذا تم التقسيم جغرافياً، كما تشير معاهدة الجنيف؛ أما إذا تم التقسيم حسب تعداد السكان فإنَّ الإسكوتلنديين سيحصلون على 9%. فيما تقول الحكومة في لندن إنَّ النفط لثروة قوميَّة للمملكة المتحدة ككل، وتعطي إسكوتلندا 8% من عائداته تماشياً مع نسبة سكانها بالقياس إلى سكان المملكة المتحدة، أي 545 مليون جنيه إسترليني. وأضاف سالموند أنَّ إسكوتلندا المستقلة لسوف تتحمَّل مسؤوليَّة 8% من ديون المملكة المتحدة؛ وفي الحق لقد ساهمت إسكوتلندا في إنعاش الاقتصاد البريطاني أكثر من الشركاء الآخرين، وهم إنكلترا وويلز وأيرلندا الشمالية. وكذلك في حال انفصال إسكوتلندا من الاتحاد يستوجب تعليق البرلمان البريطاني (مجلس العموم)، لأنَّه سيبقى هناك 550 نائباً برلمانيَّاً في مجلس العموم في لندن، ومحتوياً على 510 برلمانيَّاً من إنكلترا وحدها. ومن ثمَّ ينبغي أن تكون هناك إعادة التفكير بصورة جذريَّة في طبيعة العلاقة التي ما تزال تربط بين الأمم الثلاث المتبقية في الاتحاد – إنكلترا، ويلز وأيرلندا الشماليَّة – لتوكيد أنَّه ما كان يُعرف سابقاً بالمملكة المتحدة ما تزال جسماً مستقراً، حتى يعتقد الناس أنَّ لديهم تمثيل نزيه.(13) هذه هي حال الدول التي تحترم الدساتير والقوانين والعهود والمواثيق، لا كالسُّودان الذي انفصل منه جنوبه بنوابه البرلمانيين وأعضائه في مجلس الولايات وعادت الحرب إلى جنوب كردفان والنيل الأزرق حتى استقال ممثلو الحركة الشعبيَّة من البرلمان ومجلس الولايات، ومع ذلك استمرَّت الحكومة في الخرطوم كأنَّ شيئاً لم يكن، حتى أصبح ذلكم البرلمان الخرطومي ما هو إلا مجلس شورى المؤتمر الوطني لا أكثر ولا أقل.
فلا مرية في أنَّه كردة فعل ضد الأصوات المنادية بالتفويض، شرع الإنكليز يستظهرون هُويَّتهم ويحتجون على التناقضات الدستوريَّة بين إسكوتلندا وإنكلترا (والأصح بريطانيا). إذ يصوِّت البرلمانيُّون الإسكوتلنديُّون في مجلس العموم في قضايا المملكة المتحدة، والتي بلا شك تمس الإنكليز مباشرة، بينما لا يُسمح للبرمانيين الإنكليز التصويت في قضايا خاصة بإسكوتلندا. ولكن إسكوتلندا ما تزال جزءاً من المملكة المتحدة وينبغي عليها أن تشارك في القضايا القوميَّة التي تخص بريطانيا. أما إذا سُمح للإنكليز، الذين يشكِّلون 84% من سكان المملكة المتحدة، التصويت في مسائل ذات المساس بإسكوتلندا فلا معنى إذن لتفويض السلطات، وبهذه الأغلبيَّة الميكانيكيَّة سيديرون كل شيء. وفي حال انفصال إسكوتلندا سيكون هناك 92% من سكان بريطانيا في إنكلترا، 5% في أيرلندا الشماليَّة، و3% في ويلز، وسيزداد عدد مقاعد إنكلترا في البرلمان نسبياً، ويتعاظم نفوذها بصورة أكبر، ومن ثم ستشكل العزيمة السياسية لإنكلترا كل المملكة المتحدة بصورة حاسمة. وفي هذه الحال سيطالب ويلز وأيرلندا الشمالية بحكم ذاتي ذي صلاحيات أوسع.(14)
فلا ريب في أنَّ النزعات المنادية بانفصال إسكوتلندا عن المملكة المتحدة قد أجَّجت حركة احتجاجيَّة أصبحت تنمو وتطالب ب”صوت الشمال”، وفي حال مضي إسكوتلندا نحو الاستقلال ينبغي ألا تغض الحكومة الطرف عن التهميش النامي في شمال إنكلترا، في ظل حكومة يسيطر عليها ساسة متحدرين من جنوب إنكلترا، والذين لا يعرفون شيئاً عن الإقليم الشمالي، ولا يهتمون كثيراً بمشكلاته الاقتصادية والاجتماعية مهما كانت المباذل. إذ باتت هذه الحركة تتطالب بأن يكون للشمال صوتاً قوياً في مصيره الخاص، وتنادي بالحوار حول قيام حكومة إقليمية منتخبة مباشرة، وأن تكون لكل إقليم مفوضية مكوَّنة من رجال الأعمال وقادة أكاديميين. وهذه الحركة، التي أخذت اسم “مؤسسة حنا ميتشيل”، تشمل – فيما تشمل – نواب برلمانيين من حزب العمال كراعين لها، ومنهم نائب رئيس الوزراء السابق اللورد بريسكوت، ووزيرة المساواة في حكومة الظل كيت قرين، وجون كروداس. ويرى هؤلاء كلهم أجمعون أبتعون أنَّه قد حان الأوان لتفويض السلطات من الويستمنستر إلى الشمال، مع العلم أنَّ جون بريسكوت قد أخفق في محاولة سابقة في إنشاء برلمان منتخب في شمال شرق إنكلترا، وذلك حين صوَّت 78% من الناخبين ضد المشروع في استفتاء شعبي جرى العام 2004م. تلكم هي الحال في بريطانيا. وفي السُّودان كم كتبنا في أكثر من موقع، وكم جادلنا ما وسعنا الجدال، وكم أنذرنا وحذَّرنا بأنَّ انفصال الجنوب لا يحل مشكلات الشمال لأنَّ الأخير ليس بمتجانس، وإنَّ أمر أهله لشتى، وفيه أقاليم عديدة مهمَّشة اقتصادياً واجتماعياً وتنموياً وثقافياً، وإنَّ الإفرازات التي قد تعقب الانفصال لكثيرة سواء وسط أهل الشمال أنفسهم أم بين الشمال والجنوب.
أيَّاً كان من أمر أهل السُّودان، ففي استطلاع حديث للرأي العام في بريطانيا وُجِد أنَّ هناك نسبة عالية وسط الإنكليز أكثر من الإسكوتلنديين يأيدون انفصال إسكوتلندا عن المملكة المتحدة. فحينما انشطرت تشيكوسلوفاكيا إلى الشيك والسلوفاك العام 1993م كان إصرار القوميين السلوفاك على التفويض الأعظم هو الذي عجَّل بالانشطار، وكان الشيك – من جانبهم – تحت قيادة الرئيس فاكلاف كلاوس الحكيمة، هو الذي منحهم الدفعة القوية. إذ يمكن أن يحدث ذلك في المملكة المتحدة، ثم إنَّه قد حدث في السُّودان حين طغى وتجبَّر أشياع ما أسموا أنفسهم ب”مبر السلام العادل” في الشمال، وطفقوا يقرعون طبول العنصرية البغيضة والعنجهية السمجة ضد أهل الجنوب ومن ضاهاهم، حتى تلاقى أنصار هذا المنبر مع أهل السلطة بحكم صلات القرابة والعرق والدين والثقافة، وشرعوا يتربصون بشريكهم في الحكم الدوائر، ويقذفون بالعراقيل أمام تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، التي ارتضوا بها، وتعاهدوا عليها، حسبما وصت فقراتها، ومُهِرت بتوقيعاتهم، حتى أهدروا كل فرص الوحدة الجاذبة. وأهل الجنوب ومن ضاهاهم من جبال النُّوبة والأنقسنا هم أولئك وهؤلاء الذين أُدخِلوا في نفويهم الذِّلة والمحقرة بواسطة فئة من أهل الشمال – الذين يمثلهم أصحاب المنبر إيَّاه – وذلك لأوضاعهم الاجتماعيَّة، أم أعراقهم، أم انتماءاتهم إلى ذاك الصقع من أصقاع السُّودان النائية.
لقد سعينا بالكتابة بإسهاب عن لفظة “المشورة العامة” أو “الاستفتاء الاستشاري أو التشاوري”، وكدنا في البحث والاستقصاء ما أُتيحت لنا وسائل البحث والاستقصاء عن مدلول العبارة، وقلنا عنها كل ما يمكن أن يُقال، وذلك في سبيل التوطئة إلى عبارة “المشورة الشعبيَّة”، التي وردت في بروتوكول حل النِّزاع في ولايتي جنوب كرفان والنيل الأزرق، حتى يكون ما أسهبنا فيه وما ذهبنا إليه مثاباً للسُّودانيين، أي مرجعاً لهم، لأنَّهم إدارأوا (أي اختلفوا) في تعريفها ومضمونها، فاستوجبوا هذا التبيان والتبيين. هذا، وقد اختلف السُّودانيُّون – عامتهم وخاصتهم – في أمر هذا اللفظ، فباءوا (أي استوجبوا) بهذا الإيضاح الذي نحن إليه قادمون. فما هو مدلول “المشورة الشعبيَّة” حسبما جاء في البروتوكول المشار إليه آنفاً؟
جاءت المشورة الشعبية كحق ديمقراطي لتحديد مستقبل ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق الدستوري والسياسي والإداري، إلا أنَّها صاحبها التباس في الفهوم والتعاريف لدي كثر من الناس. فهناك من رأى أنَّها آلية ديمقراطيَّة الغرض منها تقويم وتصحيح وتحديد وجهة النظر حول مسار الاتفاقية وصلاحيتها لحسم النزاعات وفضها، ومنهم من قال بأنَّها تعني حق تقرير المصير أسوة بالجنوب. وقد كُتِبت مقالات كثيرة حولها، وقيلت أقوال متعددة بصددها، غير أنَّ أكثر ما استرعى انتباهنا ما جاء في مذكرة حزب البعث العربي الاشتراكي (الأصل) في الفاتح من آب (أغسطس) 2010م حول هذه القضية، وعن الأزمة في المصطلح وتفسيراته وتأويلاته. وقد أبان الحزب في مذكرته إيَّاها “مفهوم المشورة الشعبية” وعناصرها؟ فما هو مفهومها؟ وما هي عناصرها المكونة لها؟ المشورة الشعبيَّة (Public consultation) في التعريف العام هي سلسلة من الإجراءات السياسية والقانونية يتم عبرها إشراك الشعب في معالجة المشكلات التي يعاني منها. وهي تعتبر إحدى المفاتيح الإجرائية لقياس إتجاهات وميولات الرأي العام في منطقة ما في شأن من الشؤون العامة. وتهدف المشورة الشعبية – فيما تهدف – إلى تحقيق الشفافية، وإشراك المواطنين في المشروعات الكبيرة، ووضع القوانين والسياسات عبر تبادل المعلومات والأفكار، وتحمل المسؤولية كجماعة. وتأتي أهميتها من كونها تقلل من احتمالات العنف والتنازع الذي يمكن أن ينشأ بين الحكومة والمواطنين حول قضايا الحكم. إلى جانب أنَّها توفر المعلومات المتاحة بغرض تحليلها وتصنيفها وتقدير التوقعات المحتملة، بما يساعد على صناعة القرار الصحيح. علاوة على أنَّها تزيد من معدلات الشفافية، وتساعد على اكتشاف ذوي النظر الثاقب، وكذلك الأفكار البديلة لأولئك المتأثرين مباشرة بالأحداث. أما من حيث التطبيقات والوسائل فإن للمشورة الشعبية أنماط وصيغ كثيرة متنوعة ومتعددة. بمعني آخر، إنَّ لها أشكالاً مختلفة باختلاف الموضوع والهدف. وهي عبارة عن مثلث متساوي الأضلاع، وعناصره هي:
(1) الإخطار (Notification): أي التعريف المسبق لأصحاب القضية بالموضوع المعني بالمشورة حتى يهيؤوا أنفسهم لعملية المشورة هذه، وذلك من خلال نقل المعلومات الرسمية للعامة، وتمليكهم الحقائق وتهيئة البيئة للحوار.
(2) المشورة(Consultation) : وتعني الأخذ بآراء الجماعات الفاعلة والمؤثرة وتدفق المعلومات منها وإليها، وهي تتم في كل المراحل بدءاً من مرحلة تحديد المشكلة وتشخيصها إلى مرحلة التقييم والتدخل السياسي والقانوني. وقد تنتهي هذه العملية في مرحلة واحدة، أو قد تكون حواراً مستمراً بحسب تطور المشكلة واستمراريتها.
(3) المشاركة (Participation): وهي عملية تقتضي وجود أصحاب القضية في مراحل صياغة السياسات والقوانين والمطالب والمعالجات، ومراحل صياغة النصوص الممهدة للإجراءات.
من خلال هذا العرض يُلاحظ أن المشورة الشعبية هي وليدة الظروف المحلية، لأنَّها تنبع من واقع المجتمعات وحاجاتها وظروف تطورها. فهي بالنسبة للغرب تبحث عن نواقص لاستكمالها باعتباره قد قطع شوطاً بعيداً في بناء الدولة ومؤسساتها، وفي الاستقرار والتحضر. بينما في دول عالم الجنوب فإنَّ مهمتها ربما تكون أكبر وأصعب من مجرد تطوير للقوانين وقياس للرأي العام لتتعداها إلى إرساء قواعد للسلام، وبناء الوحدة الوطنية، وتحقيق الإندماج المجتمعي والتعايش الخلاق، وتقنين الحقوق التي تضمن المشاركة الواسعة. لأنَّ المشورة في جوهرها هي نظم للحوار المباشر والوصول مع الجماهير إلى اتفاق بشأن قضية ما أو معالجة مشكلة ما على مستوى الأقاليم أو على مستوى الدولة، وذلك بتوسيع دائرة المشاركة من أجل صناعة القرار الإيجابي بصيغ مرنة تقترن بشيء رسمي، وتقنين موصوف، وآليات محددة. وبهذا ربما تكون هناك دورات عديدة للمشورة إذا كان في وجودها منفعة فعلية في حل المشكلات والخلافات.
ومن خلال الاتفاقية، تشير المشورة الشعبيَّة إلى أنَّها آلية سياسية ديمقراطيَّة لتأكيد وجهة نظر المواطنين في الولايتين حول الاتفاقية، وهي منوطة باللجنة البرلمانية المنشأة من المجلس التشريعي المنتخب لكلا الولايتين ومهمتهما (تقويم وقياس مدى تنفيذ الاتفاقية)، حيث تقدم هذه اللجنة تقريراً للمجلس بعد مضي أربع سنوات من التطبيق. وبالطبع، حدث إرباك شديد للجدول الزمني نسبة للصراع على التنمية والخدمات وانسياب الدعم المركزي، وعلى ملكية الأرض في النيل الأزرق، بينما سيطرت حال التشاكس على الشريكين طوال الأعوام المنصرمة، إلى جانب تفشي العنف والنزاعات المسلحة، وبروز نوع جديد من المشكلات وإفرازاتها (تعدد الإدارات في كادقلي، الفولة، كاودا) وانتشار حمى تسليح الميليشيات من قبل المؤتمر الوطني والفساد المالي والإداري، ومعايير إنشاء المحليات، ودمج الخدمة المدنية في جنوب كردفان. وفي العام 2009م صدر قانون المشروة الشعبيَّة للولايتين على عجل (ملحق رقم (2)).
وقد احتوى القانون – فيما احتوى – على مسالب هي في الحق كثيرة، فعلى سبيل المثال إعطاء المادة (10) الحق للمجلس أو رئيس الجمهورية في إسقاط عضوية أي عضو من المفوضية. إنَّ هذا الحق لا يتلاءم مع دوافع وأسباب إنشاء المفوضية، لأنَّ الرئيس يمكن أن يسعي لإسقاط عضوية أي عضو يخالفه الرأي حول الموقف من تنفيذ إتفاقية السلام الشامل الموقعة العام 2005م. وكان الأوفق للمشرع أن يجعل إسقاط العضوية قصراً علي المجلس من خلال موافقة ثلثي أعضائه أو الأغلبية البسيطة. كذلك حدَّدت المادة (12) المصادر المالية للمفوضية في الآتي: موارد تخصصها الولاية المعنية، المنح من الأشخاص أو المؤسسات غير الحكومية التي توافق عليها حكومة الولاية، المنح من المنظمات الوطنية والأجنبية من خلال الحكومة أو حكومة الولاية المعنية، التمويل من المانحين أو الأصدقاء، وأي مصادر أخرى يوافق عليها المجلس. كان الأوفق للمشرع أن يجعل المصدر الأساس لمالية المفوضية هو وزارة المالية والاقتصاد الوطني، وذلك من خلال ميزانية واضحة تعدها المفوضية ويصادق عليها المجلس الشريعي المعني والمجلس الوطني. فليس من المعقول ولا من المقبول لولاية كانت حتى وقت قريب مكاناً للاحتراب والاقتتال والتمرد وغياب التنمية أن تمول مفوضية يفترض أن تكون ميزانيتها كافية للقيام بهذه المهمة. وفي الفقرة (ج) في المادة (15) يعطي المشرع حق التفاوض مع الحكومة المركزية لحكومة الولاية، وذلك في حال قرر المجلس التشريعي أنَّ قصوراً قد شاب تنفيذ الاتفاقية في الولاية. ولا نجد حكمة وراء ذلك، فالحكومة المركزية أو حكومة الولاية هي المُناط بها تنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وتطبيق مقرراتها خلال المدة المحددة؛ وهي مسؤولة بالتالي عن القصور الذي شاب التطبيق على أرض الواقع، فكيف إذن تحاكم نفسها بنفسها؟! وكذلك نجد أنَّ القانون قد سكت في مرات عديدة عن نهايات كان الأحرى به أن يضع لها نصوصاً موضوعية وقاطعة، وبخاصة جهة التحكيم التي يمكن اللجوء إليها في حال فشل مجلس الولايات في حسم الخلاف.
وبما أنَّ محرِّرو مذكرة حزب البعث العربي الاشتراكي (الأصل) رفضوا مبدأ حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي سواء لأنَّ المشورة الشعبيَة لم تأت بذلك صراحة أم لأسباب حزبية مبدئية، ولكن إذا لم يتوصَّل الطرفان في نهاية الأمر إلى حل يرضيهما أو يرضي أحدهما، وبخاصة الطرف الذي حمل السلاح لانتزاع حقوقه المسلوبة فماذا هو فاعل إذن؟ أفليس له الحق في رفع سقف مطالبه إلى حق تقرير المصير، والذي قد يفضي إلى الحكم الذاتي أو الكونفيدرالي أو الانفصال التام؟ ولا نتوقع أن يهن أو يستكين أولئك وهؤلاء إن لم يحصلوا على ما ارتادوه بالتي هي أحسن، لأنَّ ليس كل الناس يستحبب حياة الذل في دعة النفوس، بل عز المعيشة يأتي بعد أن يشقى لها المرء ليسبر بها أغوار هذه الحياة؛ وكثيراً ما يتمثل الناس قول الشاعر:
والذُّل في دعة النفوس ولا أرى
عزَّ المعيشة دون أن يشقى لها
وفي الآن نفسه أخذ عُجب وخُيلاء فئة من أهل الشمال لا يستهويان كل قويات السُّودان، وطفقوا لا يرضون بالمذلَّة والهوان، لأنَّه حتى الأرقاء حين يشتد بهم الحيف، ويفظظ عليهم أسيادهم، وتغلظ عليهم قلوبهم، ويمكرون بهم المكر السيء، فإنَّهم ليثورون في سبيل الحرية، أو يأبقون، أي يهربون، سعياً للانعتاق من ربقة العبوديَّة. فلِمَ يرضون بالدنيَّة في دنياهم! فهناك أذلّان هما فقط اللذان يقيمان على الضَّيم الذي يُراد بهما، وهذان الأذلّان هما العير (أي الحمار)، وحشياً كان أم أهلياً، والوتد الذي يُعقل عليه. فالأول يرضى بالخسف وهو معقوص، أي مشدود بقطعة بالية من الحبل هي الرُمة، والثاني يُشج في الأرض ويُغرس فيها كالميت عديم الأهل والأصحاب، والذي لا يجد أحداً يرثيه بعد وفاته. ولله در القائل:
ولا يقيم على ضيم يُراد به
إلا الأذلّان عَيرُ الحيّ والوَتدُ
هذا على الخَسْف مًعْقوصٌ برُمته
وذا يُشج فما يرثي له أحد
ثم من بعد ندلف إلى قضية التنمية وما حصد سكان ولاية جنوب كرفان منها إلا الريح، ولا نقل الرياح لأنَّ في الأولى عذاب كما هو العهد بريح صرصر عاتية، وفي الآخرة استحباب للهواء الذي قد يجلب النسيم العليل، أو وابلاً من المطر ليسقي به أرضاً أصابها الجفاف. فأولى المشكلات السياسية التي واجهت ولاية جنوب كردفان كانت تتمثل في تأخر تشكيل حكومة الولاية، وكان السبب المباشر في ذلك التأخر هو تأخر صياغة دستور الولاية، وإجازته، ومن ثم استخراج شهادة المواءمة والمطابقة للدستور الولائي مع الدستور القومي الانتقالي من وزارة العدل، وبعدئذٍ يتم تشكيل الحكومة. أما أولويات التنمية فكانت تتمثل في ثلاثة محاور: المحور الأول كان يتعلق بخطة إسعافية للتنمية في مجالات المياه والكهرباء؛ والثاني بمتوسط المدى في توطين العائدين من النزوح؛ والثالث هو كان على المدى البعيد إكمال الطريق الدائري. ولعلَّ قرشي عوض قد أوفى موضوع هذا الطريق الدائري حقه في مقال له بصحيفة يوميَّة، حيث أشار إلى المشكلات التي “كانت تكمن في جديَّة الشركات التي تمَّ التعاقد بينها وبين الهيئة القوميَّة للطرق والجسور لبناء الكباري بين أم روابة وأبوجبيهة منذ 9 سنوات”، حيث لم يزل التنفيذ بنسبة لم تتجاوز 40%، وفي عدة مرات تمَّ تحويل التمويل المخصص له لغرض آخر بعد أن انحبس لفترات طويلة لعدم اكتمال الكباري.(15)
ولكن كثيراً ما تأبط بعض الناس شراً، وطفقوا يتساءلون عما لدي الحركة الشعبية من برامج اقتصادية، تنموية اجتماعية تود تطبيقها، فضلاً عن شعار “السُّودان الجديد”. ففي سفر كاتب هذه السطور إلى جبال النُّوبة استوقني استفهام أحد أنصار المؤتمر الوطني في مدينة الدلنج بتساؤل عما تطرحه الحركة الشعبيَّة من برنامج وترغب في أشد ما تكون الرغبة في إنزاله إلى الواقع الحياتي أو طرحه على أرض المعاش؟ كان هذا التساؤل المحفوف بأشتات من الشمات يعبِّر عن كثر من أمثال هذا “المؤتمرجي” أو “الإخوانجي”، الذين ما فتأوا يردِّدون بأنَّ الحركة لا تملك غير شعار “السُّودان الجديد”، الذي طرحته منذ باكورة عهدها بالنضال المسلح والسياسي في الآن نفسه العام 1983م. وإذا أتى هذا التسآل الملحاح من باب الجهل عند العوام فلا غضاضة في ذلك، ولكننا لا نجد شفاعة للسائل “المؤتمرجي” بمدينة الدلنج، وهو ذاك الذي امتلك ناصية المعارف والعلوم. وكان من اليسر يسراً أن يتناول أي أدب من أدبيات الحركة الشعبيَّة ويقرأ ما تيسَّر منه نصفه أو قليله، حتى يدرك كنه وبرامج الحركة. فما هي هذه البرامج في التنظيم السياسي، وتطوير المجتمع المدني، والتعاطي مع قضايا التنمية التي لم تقتصر على الجنوب فحسب، بل على السُودان عموماً والمناطق المتأثرة بالحرب خصوصاً؟
فلا يُعقل أن تكون الحركة أيَّة حركة نشأت بمانيفستو سياسي لا غبار عليه، وأنفقت أعواماً تناضل عسكريَّاً وسياسيَّاً، عديمة البرامج! ففي ظروف الحرب القاهرة القاسية عقدت الحركة الشعبيَّة مؤتمرها القومي الأول في شُقدوم في السُّودان الجديد برئاسة القائد الراحل يوسف كوة مكي، وأصدر المؤتمر قراراته وتوصياته في 12 نيسان (أبريل) 1994م. ففي هذا المؤتمر القومي تمَّ تسليط الأضواء على تأسيس مجلس التحرير الوطني، المجلس التنفيذي الوطني، تركيبة المجلس التنفيذي الوطني، المؤتمر القومي، إنشاء أجسام الحركة الشعبيَّة في الأقاليم، مانيفيستو وأهداف الحركة، الشؤون العسكريَّة للجيش الشعبي لتحرير السُّودان، تأسيس القضاء المستقل، تعديل قوانين الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير لتحرير السُّودان للعام 1984م، سياسة الحركة الخارجية، موقف الحركة تجاه إحلال السَّلام في النِّزاع السُّوداني، تأكيد الوحدة، حشد ومشاركة المواطنين في النضال، عضوية الحركة الشعبية في التجمع الوطني الديمقراطي، مشاركة المرأة في النضال التحرري، المنظمات التابعة للحركة الشعبيَّة، الإدارة المدنية في السُّودان الجديد، الخدمات الاجتماعية في السُّودان الجديد، التعليم والثقافة، الاقتصاد والمال، شؤون الإغاثة الإنسانيَّة، والأجسام القومية المتخصصة في الحركة الشعبيَّة.
فلا اختلاف في أنَّ هذا برنامج سياسي، عسكري، اجتماعي وثقافي طموح أعاد تنظيم هيكليَّة الحركة ومؤسساتها الدستوريَّة والتنفيذيَّة والقانونيَّة والعسكريَّة والإعلاميَّة وغيرها، وذلك لبسط القانون والانضباط وصيانة حقوق الإنسان وتوفير الخدمات الاجتماعيَّة. وفي العام 1994م أصدرت سكرتارية الشؤون القانونيَّة للحركة الشعبية لتحرير السُّودان قوانين العقوبات والإجراءات الجنائيَّة للعام 1994م. والتزاماً منها بالدفاع عن حقوق الإنسان، وسيادة حكم القانون، وتضامناً مع الشعب السُّوداني، واستجابة لرغبة العاملين في مجال القانون بمناطق السُّودان الجديد، تبنَّت منظمة “أفريكان رايتس” (African Rights) ترجمة هذه القوانين من اللغة الإنكليزيَّة إلى العربيَّة. فقد جاء مشروع الترجمة إلى العربية استجابة لطلب قدَّمه قضاة جنوب كردفان لمنظمة “أفريكان رايتس” في مؤتمر عقدوه في كانون الأول (ديسمبر) 1995م لتذليل الظروف القاهرة التي كانت تواجه القضاة وكتبة المحاكم والشرطة والسجون وغيرهم من القائمين على أمر تصريف العدالة، وذلك لإعلاء حكم القانون، وخلق وعي قانوني في مناطق الحرب، حيث يغيب الأمن ويعاني الإنسان أيما المعاناة. واعتمدت هذه القوانين، من حيث المضمون، على قوانين العقوبات والإجراءات الجنائيَّة للعام 1994م، والتي أُلغيت بموجب قوانين العقوبات والإجراءات الجنائيَّة في أيلول (سبتمبر) 1983م، وهي تلكم القوانين سيئة السمعة التي أُشتهرت ب”قوانين سبتمبر”، وكان أحد مطالب الجماهير السُّودانية المنتفضة في نيسان (أبريل) 1985م ضد نظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري (1969-1985م) هو إلغاء قوانين سبتمبر، و”رمضان كمان” – كما ردَّد أحد أبناء الجنوب في المسيرات الداوية التي كانت تجوب مدن العاصمة المثلثة، وتجتاح المدن السُّودانيَّة الأخرى، وتنادي برحيل الطاغية نميري. فقد ظنَّ هذا الإنسان البسيط أنَّ صيام شهر رمضان – وما تصحبه دوماً من إجراءات عامة في مدن شمال السُّودان من قفل أماكن المطاعم والمشارب وتوبيخ الذين يتناولون الطعام والشراب في هذا الشهر – هو جزء لا يتجزأ من حزمة هذه القوانين الإسلامويَّة أو “السبتمبريَّة”.
أيَّاً كان من أمر قوانين سبتمبر و”رمضان كمان”، ففي الفترة ما بين 30 نيسان (أبريل) – 4 أيار (مايو) 1996م عقدت الحركة الشعبيَّة موتمراً حول المجتمع المدني وتنظيم الإدارة المدنيَّة في حيمان بكوش الجديدة، وأصدرت تقريراً حوى توصيات في غاية الأهميَّة حول عدة قضايا ذات الصلة بالموضوع. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1998م نشرت الحركة الشعبيَّة سياستها الصحية للسُّودان الجديد (Health Policy for New Sudn). إذ غطت هذه السياسة الخدمات الصحية في كل المستويات: المجتمعي، المقاطعة، الإقليمي، والقومي. فقد تم تصميم هذه السياسة الصحية لتطبيق الطارف دونما إلغاء التليد. فما هو القديم التليد وما هو الجديد الطارف في هذه السياسة الصحيَّة؟ في الماضي كانت الخدمات الصحية تتكون في مناطق الحركة من الاعتماد على الأدوية التقليديَّة، وبقايا متبعثرة من الخدمات الصحية الحكومية وجهاز الرعاية الصحية الأولية الذي أنشأ العام 1976م، ومستلزمات هنا وهناك لمجموعة من المنظمات غير الحكومية، التي كانت تعمل تحت توجيهات منظمة السُّودان للإغاثة وإعادة التعمير من ناحية، وعملية شريان الحياة من ناحية أخرى. أما الجديد الطارف فهو المواءمة بين المستحدث العلمي والقديم التقليدي، واستخدام حقائق الحاضر كنقطة انطلاق إلى المستقبل، وبذلك تكون الوثيقة قد جعلت قضايا تكلفة الرعاية الصحية وإنشاء جهاز صحي مستديم حجر أساس للسياسة الصحية في السُّودان الجديد.
وفي أيار (مايو) 1999م أصدرت الحركة الشعبية موجهات لتطبيق هذه السياسة الصحيَّة في السُّودان الجديد. هذا، فلم تنتظر الحركة نهاية الحرب وإقرار السَّلام لكيما تبدأ عمليَّة التنمية. فحينما كانت تتساعى للوصول إلى السلام عبر المفاوضات مع الحكومة القائمة يومئذٍ – أي حكومة الجبهة القومية الإسلاميَّة (المؤتمر الوطني حالياً) – من خلال منظمة الإيقاد (المسار الرقم 1)، وعبر التجمع الوطني الديمقراطي (المسار الرقم 2)، شرعت الحركة في تنفيذ مشروع التنمية الاجتماعية-الاقتصادية في السُّودان الجديد، وتوفير الخدمات للسكان المدنيين في المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وذلك من خلال برنامج أطلقت عليه الحركة اسم “السلام عبر التنمية” (Peace Through Development) (المسار الرقم 3). فأين نبعت أصول وثيقة “السلام عبر التنمية” الصادرة في شباط (فبراير) 2000م؟ وماذا هدفت بها الحركة الشعبيَّة؟ الوثيقة عبارة عن نتائج ورشة العمل التي عُقِدت في يامبيو في الربع الأخير من العام 1999م عن شعبة الإدارة الاقتصاديَّة بالحركة. وهدفت الوثيقة – فيما هدفت – مخاطبة خمسة شركاء في عمليَّة السَّلام المستدام لتطبيق هذا المشروع، وهم: المجتمع المدني في السُّودان الجديد بما فيه المنظمات السُّودانية الأصلية غير الحكومية، أبناء المنطقة المقيمين بالخارج، الأصدقاء والمتعاطفون مع الحركة الشعبيَّة، المنظمات غير الحكوميَّة العالمية، والمجتمع المدني.
وفي الفترة ما بين 26 – 29 حزيران (يونيو) 2001م نظَّمت سكرتارية الحركة الشعبيَّة للتعليم وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) وعمليَّة شريان الحياة ندوة في يامبيو حول التعليم، وذلك لخق بيئة تعمل على زيادة فرص التعليم لأطفال جنوب السُّودان خاصة والسُّودان الجديد عامة. وكانت هذه الندوة، التي جاءت تحمل اسم “مسارعة فرص التعليم للجميع” (Accelerating Learning Opprtunities for All)، في نفس مسار مبادرة الحركة الآنفة الذكر، أي “السلام عبر التنمية” لحل النزاع السُّوداني، وإستراتيجيَّة صندوق الأمم المتحدة للطفولة وعملية شريان الحياة للتحرك نحو التنمية، والتي يعتبر التعليم جزءاً رائساً فيها.
ومن ثمَّ نجئ إلى فجر السَّلام. وفي ذلك، أقرأتم الخطاب الذي ألقاه قائد الحركة الشعبيَّة الدكتور جون قرنق دي مبيور في نيروبي في يوم 9 كانون الثاني (يناير) 2005م؟ إذ لم يكن ذلك الخطاب حديثاً عاطفياً جياشاً للتعبير عن فرحة ذلكم اليوم بتوقيع اتفاقية السَّلام الشامل، بل حمل هذا الخطاب السياسي الهام برنامجاً اقتصادياً زراعيَّاً وتنموياً لنقل المدينة إلى الريف، وليس العكس؛ وبذلك نكون قد تجنَّبنا نزوح جيوش من القرويين الجيعاء إلى المدن واستعداءهم في أشد ما يكون الاستعداء. وفي أذار (مارس) 2005م صدر برنامج “أعدته بعثة خاصة عُرِفت باسم البعثة المشتركة لتحديد احتياجات السَّلام (Joint Assessment Mission – JAM) ضمت مجموعة مقتدرة من مفاوضي نايفاشا (لوال أشويك، يحيي حسين، الفاتح علي صديق وآخرين)، إلى جانب نابغين من اقتصاديي السُّودان، نذكر منهم – مرة أخرى – علي عبد القادرعلي وإبراهيم البدوي (…) والاحتياجات التي عناها البرنامج هي، بوجه خاص، احتياجات المناطق التي تأثرت بالحرب: الجنوب والمناطق الثلاث (أبيي، جنوب كردفان، والنيل الأزرق)، دون إغفال لمناطق القطر الأخرى، التي لم تلق حظاً من التنمية.”(16)
مهما يكن من شيء، فبعد مبادرات عديدة من الأمم المتحدة إلى حكومة السُّودان، بما فيها الاستنجاد الشخصي من الأمين العام للأمم المتحدة إلى وزير خارجيَّة السُّودان في أيار (مايو) 1999م، قبلت الحكومة السُّودانيَّة – ووافقت الحركة الشعبيَّة على – مبدأ إرسال بعثة لتقييم الوضع الإنساني في المناطق التي تقع تحت سيطرة الحركة الشعبيَّة في جبال النُّوبة. ومن ثمَّ، باشرت هذه البعثة (United Nations Humanitarian Assessment Mission to SPLM areas of the Nuba Mountains – HAMNM) – تحت غطاء الأمم المتحدة – مهامها في منطقة جبال النُوبة في الفترة ما بين 19 – 24 حزيران (يونيو) 1999م بمشاركة مكتب تنسيق الشؤون الإنسانيَّة، برنامج الغذاء العالمي، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة. ووصَّت هذه البعثة على أن ترسل بعثة ثانية لإعداد دراسة تفصيليَّة عن المنطقة حالما سمحت الظروف العمليَّة بذلك. ولذلك أُقِرَّ بأن تُرسل بعثة أيضاً لتقييم الوضع الإنساني في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السُّودانيَّة. إذ قامت هذه البعثة بعملها في مناطق إدارة الحركة الشعبيَّة في فترة مدتها 15 يوماً وفي النصف الثاني لشهر أيلول (سبتمبر) 1999م وفي مناطق الحكومة لأسبوع واحد، اعتباراً من يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر). وفي كلتا الحالتين قسَّمت البعثة نفسها إلى مجموعتين حتى يتسنى لها أكبر قدر من التغطية المساحاتيَّة. وشملت البعثة ممثلين من وكالات الأمم المتحدة، وهي: منظمة الأغذية والزراعة، مكتب تنسيق الشؤون الإنسانيَّة، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، صندوق الأمم المتحدة للطفولة، برنامج الغذاء العالمي، منظمة الصحة العالميَّة؛ بالإضافة إلى أربع منظمات غير حكوميَّة هي: كير، دي إي دي، صندوق إنقاذ الطفل (المملكة المتحدة)، وصندوق إنقاذ الطفل (الولايات المتحدة). وكان على رأس المجموعة التي ذهبت إلى مناطق الحركة برنامج الغذاء العالمي، وفي مناطق الحكومة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وكانت الأهداف الأوليَّة لهاتين البعثتين هي:
(1) تحديد احتياجات السكان المتأثِّرين بالنزاع في المنطقتين.
(2) تحديد حجم وطبيعة المساعدة الإنسانيَّة للاستجابة إلى هذه الاحتياجات.
(3) تقييم البنى التحتيَّة والمواقع الأرضيَّة.
(4) تحديد الأطر لتقديم الاحتياجات.
وكانت مهمة البعثة تتلخَّص في تحليل مقوِّمات التدخل، ومن ثمَّ والخروج بتوصيات للنشاطات الإنسانيَّة قصيرة المدى، بالإضافة إلى برامج وأعمال الإعمار والتنمية للمدى المتوسط والطويل.(17) وقد غطَّت توصيات البعثة القضايا الآتية: الصحة والتغذية، القطاع التربوي-التعليمي، الزراعة واقتصاد الغذاء، الماء والصحة البيئيَّة، “الجندر” والحراك الاجتماعي، الإعمار وإعادة التعايش السلمي، والإمدادات. هذا البرنامج، الذي تمَّ إعداده في المناطق الواقعة على طرفي النزاع، حمل جهوداً عظيمة كفيلة لبناء السلام ورتق النسيج الاجتماعي، علاوة على شمولها وتغطيتها لجميع قضايا إعادة البناء والتعمير والتنمية وغيرها.
مما سبق نستطيع أن ندرك أنَّ كل هذه الدراسات المعدة كانت كفيلة بتطبيقها، وبخاصة مع تدفق عائدات النفط الذي أمسى يشكل واحداً من مصادر الدخل القومي الرئيس في السُّودان، وكذلك مع تدفق الأموال من الدول الغربيَّة التي تعهدت ببناء السَّلام وصيانته بعدما تواصت على ذلك في مؤتمر المانحين في أوسلو بالنرويج. بيد أنَّه كان على الحكومة السُّودانيَّة أن تقوم بواجبها المنزلي، وترتيب البيت السُّوداني من الداخل، وهذا لم يكن يحتاج إلى من يتمتَّع بذكاء مفرط حتى يستدرك هذا الأمر، فالمنح والقروض الغربيَّة والمساعدات الإنسانيَّة غير الطارئة ظلَّت مرتبطة ارتباطاً وشيجاً بالإصلاحات الديمقراطيَّة منذ أمد مديد. وتعود هذه العلاقة إلى تقرير البنك الدولي العام 1989م المعنون ب”إفريقيا جنوب الصحراء: من الأزمة إلى النمو المستدام (Sub-Saharan Africa: From Crisis to Sustainable Growth)، والذي ربط – وللمرة الأولى – سريان المساعدات والقروض المالية بما أسماه الحكم الرشيد (Good governance)، ويشمل هذا الحكم الرشيد – فيما يشمل – نظام تعدُّد الأحزاب، الحريات السياسيَّة، مجتمع مدني نشط، حكم القانون، والشفافيَّة في اتخاذ القرارات. وفي الدول التي فيها تسود خطوط أثنيَّة ودينيَّة وثقافيَّة “وهميَّة” فاصلة يفتح الاقتراب إلى الديمقراطيَّة أبواباً جهنميَّة للانتهاكات الإنسانيَّة الجسيمة بواسطة المجموعة الأغلبيَّة أو الأقليَّة. فعلى سبيل المثال صراع الهوتو والتوتسي في رواندا وبورندي، ونزاع الكوكويو والكلينجين وأثنيات أخرى في كينيا، وازدراء العرب وخُيلائهم ضد الأثنيات الأخرى في السُّودان. إذن، كان يستوجب على حكومة السُّودان إطفاء الحريق الذي أشعلته في دارفور حتى لا تجد هذه الدل المانحة عذراً للتحجيم عن أو وقف هذه المنح المالية. وفي الحق هذا ما كان، حيث تعلَّلت أغلب الدول – باستثناء بريطانيا وهولندا والنرويج والسويد، التي أوفت بالتزاماتها المالية – التي وعدت بالمساهمة من قبل تعذَّرت بالعدائيات التي استعرت في دارفور، وتداعياتها في تجاوزات حقوق الإنسان من قتل وتشريد واغتصاب ومصادرة ممتلكات ونهب وتفشي الأمراض وهلمجراً، ودارت عجلات الأزمات إلى الوراء، “وكأنَّنا يا أبوزيد ما غزينا.”
وفي هذا الإطار حسبنا أن نقف برهة ونلقي التساؤل الآتي حتى ندرك جوهر الصراع السياسي-العسكري يومذاك. إذن، فيم كانت الحرب الأهلية في جنوب كردفان أو أيَّة بقعة من بقاع السُّودان؟ وعلام ناضل مواطنو جبال النٌّولة وغيرهم؟ بالإضافة إلى النضال في سبيل الدفاع عن النفس والعرض والممتلكات، وانتصاراً للكرامة، ورفعاً للظلم السياسي والاجتماعي كانت مسألة التنمية قضيَّة محوريَّة وعنصر رئيس في استحقاقات السَّلام. وكانت ولاية جنوب كردفان، والمناطق الأخرى التي تأثَّرت بالاقتتال الأهلي، في حاجة ملحة للمال كحب الزهرة الذابلة للقطرة الهاطلة، حتى يتم صرفه في تشييد المباني المهدمة، وتعبيد الطرق المهملة، واحتفار الآبار المعطلة، وإعادة فتح المدارس المغلقة، وإصلاح الأراضي الزراعية، وتأهيل مراكز العلاج والخدمات البيطريَّة والمحاربين السابقين لينخرطوا في الحياة المدنية وما سوى ذلك. ومع ذلك، لم تنل ولاية جنوب كردفان نصيبها من الثروة القوميَّة إلا القليل القليل؛ فقد كتبنا في هذه القضية باستفاضة في سفر أصدرناه العام 2010م.(18) ولعلَّ الدليل الساطع يصفعنا حين نطَّلع على ما في ثنايا الكتاب، وما جاء فيها من أوجه الفساد والاستبداد من قبل المؤتمر الوطني وأشياعه. وكانت لسلطان حكومة المؤتمر الوطني عزة بالإثم لا تبالي بعهد ولا وفاء ولا ميثاق. غير أنَّ أهم ما صاحب هذه المسألة برمتها ما يلي:
(1) عدم الإيفاء بوعود التنمية والميزانيَّة.
(2) الفساد في منح العطاءات والتزوير.
(3) الاضرابات نسبة لعدم صرف المرتبات والأجور وغيرها.
فلا مُراء في أنَّ مسألة التنمية مرتبطة بالأرض واستثمارها، حيث أنَّ الصراعات السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة كلها تدور حول قضية الأرض. فعلى الأرض تقوم الحضارات، وتزدهر العمران وتنشأ المدن؛ ويخرج لنا الرب مما تنبت الأرض من بقلها وقثَّائها وفومها وعدسها وبصلها وفاكهة وأباً متاعاً لنا ولأنعامنا؛ وعلى الأرض تجري الأنهار، وتُشيَّد الطرق والكباري والسكك الحديديَّة؛ ومن باطنها تُستخرج المعادن والنفط؛ وعلى سطحها تدور المعارك البريَّة حول ما شجر بين الناس حول موارد طبيعيَّة مصدرها هذه الأرض. إذن، فالأرض سلعة ذات ثمن باهظ. فاستغلال أراضي السكان الأصليين – سواء بواسطة الدولة أم الشركات الأجنبيَّة المتعددة الجنسيات – ما يزال يثير نزاعات خطيرة تهدِّد الأمن وتعصف بالاستقرار في جميع دول العالم. هكذا كان اغتصاب أراضي سكان قرية “فوكان” بمديرية قوانق دونق في جنوب الصين قد أثار احتجاجات قروية عنيفة في كانون الأول (ديسمبر) 2011م، وبخاصة بعد مقتل أحد المواطنين من جراء تعرضه للتعذيب في الحبس بواسطة الشرطة. ولعدة سنين خلت افتقد المواطنون في القرية إيَّاها مئات من الهيكتارات الفلاحية، التي كانوا يستصلحونها لزراعة الأرز، أي المحصول الرئيس في الصين. وبعد تواطؤ الموظفين الفسدة مع الشركات التجارية والصناعيَّة، افتقد هؤلاء القرويُّون أراضيهم.(19)
ومن هذا المنطلق كانت أراضي النُّوبة مصدر نزاع سياسي واجتماعي ثم عسكري. ففي كتابه “الأرض والحكم والصراع ونوبة السُّودان”، رفض الدكتور جمعة كندا كومي “أن يعد التنوع اللغوي أو الدين أو العرق من العوامل الرئيسة في تأريخ (صراعات) المنطقة (جبال النُّوبة)، وبدلاً عن هذه العوامل (ركَّز) المؤلف على مسائل الأرض، وتحديداً المطالبات المتنافسة على الأرض واستعمالاتها المتعدِّدة بواسطة الأفراد والمجموعات كالعامل الأساس المحدِّد للعلاقات بين مجموعات النُّوبة المستقرين فيما بينهم، وكذلك بينهم وبين العرب الرحل من الرعاة المتحدِّثين باللغة العربيَّة الذين يتنقَلون عبر السهول المنخفضة بين الجبال، وبين كل تلك المجتمعات المحليَّة وبين الدولة.”(20) هكذا نرى “أنَّ المعارك التي دارت محليَّاً بين السكان (تارة)، أو السكان وقوات الحكومة (تارة أخري)، كانت هي دوماً صراعاً حول ملكيَّة الأرض واستخداماتها، وكانت خيبة الأمل من سياسات الحكومة المركزيَّة حول الأرض، واستخدامها لقوى شبه عسكريَّة متحالفة معها هو السبب الرئيس الذي حدا بساسة النُّوبة الرئيسيين للانضمام إلى (الحركة الشعبيَّة) وقوات الجيش الشعبي (لتحرير السُّودان) في المقام الأول.”(21) فلا ريب، إذن، في أنَّ “عمليات نزع الأراضي التي تمَّت بواسطة مؤسسات الدولة ورجال الأعمال والمستثمرين، كانت كلها أموراً لعبت فيها الحكومات المتعاقبة دوراً رئيساً، (وقد) لعبت مشاريع الزراعة الآلية الضخمة في هذا الحزام الساحلي المتميِّز بوفرة نسبيَّة في المياه دوراً سلبيَّاً أفسد طبيعة وبيئة المنطقة لدرجة أثَّرت على السكان جميعاً: الرحل منهم والمستقرين.”(22)
ومن قلب إفريقيا نقفز إلى الجنوب الإفريقي، حيث بوتسوانا. ففي 13 كانون الأول (ديسمبر) 2006م أصدرت المحكمة العليا ببوتسوانا حكماً يقضي بعدم شرعية قرار الحكومة بطرد “البوشمين” (Bushmen) من أراضي جدودهم في صحراء كلاهاري. وبرغم من حساسيَّتنا المفرطة تجاه تسمية “البوشمين” (إنسان الغابة) من منطلق الصواب السياسي، إلا أنَّ أهلها يرتضون بها، ولا يمكن، إذن، أن نكون “بوشماناً” أكثر من “البوشمين” أنفسهم، أو كاثوليكيَّاً أكثر من البابا، أو رومانيَّاً أكثر من الرومان، أو تركياً أكثر من الأتراك. مهما يكن من شأن، فقد سمحت السلطات الاستعمارية البريطانية لهم بالبقاء فيها، كما أكدت بقاءهم فيها الحكومة الوطنية الأولى بعد الاستقلال. وأقام في هذه الأراضي حوالي 5000 مواطن من أثنيات قانا، قوي وتسيلا من قبائل البوشمين. إذ بدأت الحكاية بشيء من المأساة شديد. ففي شباط (فبراير) 2002م اجتاح الجيش البوتسواني حظيرة كلاهاري، وتحت إشهار السلاح، استاقوا الناس في مركبات وقذفوا بهم خارج المنطقة في معسكرات بعيدة عن أراضي أجدادهم. وفي قرية قوقاما قامت مجموعة أخرى من الجيش بتحطيم البئر وردمها بالأسمنت، حتى لا يعود القرويُّون إلى القرية التي منها طُرِدوا. وأي إنسان يمكن أن يقدم على هدم البئر الوحيدة في الصحراء، إلا من لم يكن له قلب عطوف أو نفس رحيمة! وفوق ذلك، طفق الرئيس البوتسواني يطلق على هؤلاء البوشمين ألفاظاً نابية مسيئة، حيث وصفهم ب”مخلوقات بدائية من العصر الحجري”، التي يستوجب الإلقاء بها في مزبلة التأريخ. هذه إساءة ليست ضد البوشمين وحدهم لا شريك لهم، بل هي الإساءة لإنسانيتنا المشتركة. فما هي دوافع كل هذه الحملة غير الإنسانيَّة ضد الإنسانيَّة؟ عن طريق صدفة جيولوجيَّة، تقع حظيرة كلاهاري وسط أكبر منتج للماس في العالم، وإنَّ الماس الموجود في باطن الأرض في هذه المنطقة تبلغ قيمته 3,3 بليون دولاراً أمريكياً. ونتيجة لحملة خاضتها منظمة “البقاء العالمي” (Survival International) في في رفع دعوى الاستئناف ضد قرار طرد البوشمين، جاء حكم المحكمة لصالحهم العام 2006م. وقال القضاة: “إنَّ للبوشمين حق العيش على أراضي أجدادهم ليصطادوا فيها، ويجمعوا الثمار البرية في وضع تقليدي ودون أذونات رسمية.” وفي كانون الثاني (يناير) 2011م قضت محكمة الاستئناف البوتسوانية بأنَّ للبوشمين حق ليس في استخدام البئر فحسب، بل في احتفار آبار أخريات، وإنباط الماء، حتى ينشأوا مورداً قراحاً للمياه يرتفق منه الناس. وقالت المحكمة بأنَّ سلوك الحكومة تجاه البوشمين مشين. وبعد عودة البوشمين من معسكرات الاستيطان إلى ديارهم منتصرين، شرعت منظمة “فوكس يونايتيد” الجنوب إفريقيَّة في احتفار الآبار؛ أما التنقيب عن الماس، الذي لسوف يبدأ العام 2013م فتقوم به شركة “جيم دايموندس”، وتعمل بالتنسيق مع البوشمين؛ حتى الصحافة البوتسوانية التي كانت تظهر عداءاً بواحاً ضد البوشمين قد تغيَّرت.(23)
وكما أبنا سلفاً فإنَّ الاستغلال الجائر لأراضي السكان الأصليين والموارد الطبيعة المستخرجة من بواطنها أمسى شيئاً لا يطاق سواء بواسطة الأهالي المحليين أم منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكوميَّة الدوليَّة. فعلى سبيل المثال نجد أنَّ قضية الحصول على الأرباح من تعدين الماس لتمويل النزاعات الدمويَّة في العالم النامي قد طفحت إلى السطح العام 2000م عقب تقرير فاولر الذي موَّلته الأمم المتحدة. وقد أورد التقرير – فيما أورد – أنَّ عقوبات الأمم المتحدة قد أخفقت في وضع نهاية للحرب الأهليَّة في أنغولا، التي موَّلها الإتجار بالماس، حيث اشترت شركة “دي بييرس” علناً ما يعادل 500 مليون دولاراً من الماس الأنغولي، بصورة شرعية وغير شرعية العام 1992م. بناءاً على ذلك أنشأت منظمة “عمليَّة كيمبرلي” العام 2003م لمراقبة الماس في المناطق ذات النزاع المسلح، وتوقيفه قبل أن يصل إلى الأسواق الخارجيَّة. بيد أنَّ هذه المنظمة، التي أسموها “عمليَّة كيمبرلي”، وتعني كلمة كيمبرلي الماس، أضحت مؤسسة من خلالها يتم تبادل المعلومات بين الحكومات والشركات، وليس هناك أي اتصال عملي مع لوردات الحرب في سبيل الإنتاج الأخلاقي أو تسويق الماس؛ أي بمعنى آخر إنَّه لملتقى – بكل ما تحمله الكلمة من معنى – من خلاله تجتمع الحكومات لتبادل الأفكار حول الكيفية المثلى لضبط تصدير واستيراد الماس، وكيفية جباية الضرائب بكفاءة عالية. هذا كل ما تفعله “عمليَّة كيمبرلي”، لا أكثر ولا أقل. وقد أعلنت شركة “استثمارات أنجين” الصينيَّة في زيمبابوي بالشراكة مع حكومة روبرت موقابي بأنَّها أكبر شركة لإنتاج الماس في العالم، وبمخزون يبلغ مليون قيراط للبيع.(24)
هذا جزء من الامتداد الصيني الاستثماري في إفريقيا، والسُّودان جزء لا يتجزأ من هذا التوسع الصيني. فالصينيُّون مدفوعون إلى الاستثمار في إفريقيا بدوافع تجاريَّة بحتة لا أخلاقيَّة، ولا يعيرون اهتماماً من قريب أو بعيد لقضيَّة تجاوزات حقوق الإنسان، وقد أبهجت هذه السياسة القادة الأفارقة الذين يتمرَّغون في اضطهاد شعوبهم، وهم – فوق ذلك – يتركونهم ضحايا المجاعات والأوبئة الفتاكة والجهل، ويتمادون في الحروب الأهليَّة دون أن تؤنِّبهم ضمائرهم، أو تتوجس أفئدتهم من خشية الله. ومن بين أولئك وهؤلاء قادة الحكم في السُّودان. ومن جهة أخرى، نجد أنَّ الدول الغربيَّة – في تعاملها مع الدول الإفريقيَّة والنامية الأخرى – تصر على حساب الدخل، الميزانيَّة العموميَّة، تخمين المخاطر وأشراط أخرى؛ أما الصينيين فيسألون عن الحوافز والأرض التي سيذهبون للعمل فيها. فبالإضافة إلى النفط يستثمر الصينيُّون في إفريقيا في مجالات التجارة، وذلك بإنشاء المحلات التجاريَّة والمزارع الكبيرة وتشييد الطرق والكباري. فعلى سبيل المثال يوجد ما بين 10000 – 15000 مزارع صيني في زامبيا، حيث يستخدمون الأهالي ويستغلونهم، وذلك بتأخير صرف أجورهم. وقد قادت ظروف العمل القاسية هذه إلى تظاهرات شعبيَّة ضد الصينيين في زامبيا ودول إفريقيَّة أخرى، مما أدَّت إلى حرق السيارات، واختطافهم. وفي إحدى هذه التظاهرات في تشرين الأول (أكتوبر) 2011م في زامبيا أطلق اثنان من المدراء الصينيين النار على عمال المناجم المتظاهرين، وأدى الحادث إلى جرح 13 منهم.(25) وفي سيراليون قالت رئيسة المجموعة القوميَّة للمحاسبة زينب بانقورا إنَّهم قضوا 15 عاماً يعملون في إصدار قرارات ضد الفساد، والآن جاء الصينيُّون ولم يوقعوا على أي من هذه القرارات.
وفي سبيل استغلال موارد الأرض الطبيعيَّة، يسألونك عن البيئة ومآلاتها. ففي تقريرها الصادر في آب (أغسطس) 2011م عن التلوث في إقليم الدلتا في نيجيريا، ذكرت الأمم المتحدة بأنَّ الخسائر التي أحدثها التلوث الناتج عن تدفق النفط في هذا الإقليم لمدة نصف قرن من الزمان لسوف تستغرق 30 عاماً و600 مليون جنيه إسترليني لإحتوائها. وقد لام التقرير، الذي أعده برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة بعد 14 شهراً من التحري المستفيض، شركة شل الملكية الهولندية والحكومة النيجيريَّة في مسؤوليتهما عن تلويث إقليم أغونيلاند الناتج للنفط في دلتا النيجر.(26) وبالطبع، دوماً ما تصاحب عمليَّة التنقيب عن النفط أو أيَّة معادن أخرى في إفريقيا إزالة الأشجار. وفي حال إعادة تشجير الأراضي المنزوعة الأشجار، بسبب هذا القطع الجائر أو تلك التي أصابها الجفاق والزحف الصحراوي، كثيراً ما يجهل القائمون بالأمر الملابسات الاجتماعيَّة لاستبدال أشجار بأخرى دخيلة على التربة والمنطقة معاً. وبعض الحكومات والمؤسسات والهيئات يشجعون بعنافة زراعة عينات شاذة من الأشجار على حساب أخرى محليَّة كحل لكل كوارث التغيُّر المناخي. إذ أنَّ أهم الفوائد البيئيَّة التي توفرها الغابات المحليَّة هي تنظيم المناخ ونماذج هطول الأمطار، فضلاً عن أنَّها تلعب دوراً رائساً في الحياة الروحيَّة والثقافيَّة للسكان الأصليين.
فقضيَّة التنمية غير المتوازنة في السُّودان قضية قديمة موغلة في القدم، ولئن اتخذت مسميات مختلفة؛ وهي كانت إحدى مطالب “الكتلة السوداء” في الأربعينيَّات، وحركتي “اللهيب الأحمر” العام 1957م، و”سوني” العام (1963-1964م) في دارفور، وجبهة نهضة دارفور العام (1964-1965م)، و”مؤتمر البجة” منذ نشأته العام 1958م، و”اتحاد عام جبال النُّوبة” العام 1964م، والأحزاب السياسيَّة لأهل جنوب السُّودان منذ نشأة “حزب الأحرار الجنوبيين” و”سانو” وغيرهما قبل استقلال السُّودان العام 1956م. وبعد أن نفدت كل الوسائل السلميَّة السياسيَّة، واستكبر أهل الحكم في الخرطوم استكباراً لجأ أولئك وهؤلاء إلى إشهار السلاح وحمله في سبيل استرداد حقوقهم المسلوبة.
إذن، فلِمَ لا تجنب الحكومات السُّودانيَّة البلاد المشكلات قبل نشأتها؟ ولِمَ لا تسارع في حلها بالمنطق والعقلانية قبل استفحالها؟ وذلك لأنَّ تجاهل المشكل ليس حلاً. فحين ييأس المظلوم في لمح أيَّة بارقة أمل في العدالة فلا غضاضة في أن يبحث عن وسائل بديلة للاستعانة والاستغاثة بها، وهذا البديل قد يكون شيطاناً رجيماً، أو مارداً جبَّاراً، ولا يهمه في الأمر من بعد كثيراً أو قليلاً. ولِمَ لا يفعلون شيئاً، حيث ليس لهم ما يخسرونه إلا الظروف المعيشيَّة المزرية التي يعيشون في ظلها والقيود التي تكبِّلهم. إذ تعتبر التنمية إحدى الوسائل الناجعة في امتصاص الغضبة القوميَّة. ألم تروا كيف حاولت السلطات المصريَّة احتواء الغضب الشعبي وإخفاقات التنمية غير المتوازنة في ربع من ربوع بلادها “من خلال إقامة مشاريع تنموية، تقيمها القوات المسلحة لخدمة أهالي شمال سيناء ووسطها وجنوبها، مثل عيادات طبية جديدة ومحطات مياه صالحة للشرب، إضافة إلى إعفاء أبناء شمال وجنوب سيناء من غرامات التجنيد والحبس نتيجة للتخلف عن التجنيد ممن تجاوزت أعمارهم 30 عاماً!”(27) هذه هي المساعي التي تستخدمها المؤسسة العسكريَّة المصريَّة لكسب تأييد ووقوف أهالي ومشايخ شمال سيناء ووسطها مع القوات المسلحة في جهودها لفرض الأمن والاستقرار داخل شبه جزيرة سيناء. والجدير بالذكر أنَّ الذي أغاظ قبائل البدو في شبه جزيرة سيناء هو تراكم حقب من التَّهميش، الاستبعاد الاجتماعي، التمييز العنصري، عدم الاستثمار في التعليم والصحة، تفشي الفقر المدقع، التغريب، ومصادرة أراضيهم لتشييد القرى السياحيَّة – شرم الشيخ مثالاً – وذلك لرفاهية القاهريين (أهل القاهرة) والسوَّاح الأجانب. ومع ذلك، لا يُسمح للبدويين بالخدمة في هذه القرى، حيث يُستورد العمال من القاهرة والمدن الأخرى، ولا يتيح أصحاب الفنادق فرصاً لنساء البادية لبيع حتى الخرز على شواطئ البحر الأحمر، ولذلك شرعت قبائل البادية في المطالبة بالتعوبضات عن أراضيهم التي هي حق لهم تأريخيَّاً. إذ أنَّ الفجوة الأمنيَّة التي خلقها سقوط نظام الرئيس السابق محمد حسني مبارك قد أيقظت فيهم حمية الحريَّة والمطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية.
مهما يكن من أمر، فحينما نردِّد في هذا المقال عبارة المناطق التي تأثرت بالحرب الأهلية، ونلح في الترداد، نقصد – فيما نقصد – كذلك مناطق أهل البجة بشرق السُّودان. فقد شرع أبناء البجة في النضال السلمي من أجل قدر أكبر من الاستقلال الذاتي، وتوزيع أفضل للثرة القومية وضد مصادرة أراضيهم تحت قيادة تنظيم “مؤتمر البجة” العام 1958م. وحين لم يُستجاب أمرهم لجأوا إلى النضال المسلح العام 1990م، ولحقهم تنظيم الأسود الحرة لأبناء الرشايدة. وانتهجت حكومة “الإنقاذ” سياستها المعهودة – أي سياسة فرق تسد – للتعامل مع الأثنيات المختلفة في المنطقة، حيث خلقت ميليشيات قبليَّة مناهضة لجبهة الشرق (وهو الاسم الذي أُطلق على اندماج مؤتمر البجة مع تنظيم الأسود الحرة منذ العام 2005م)، فضلاً عن القسوة في القضاء على مظاهرة سلميَّة نظمها مؤتمر البجة في مدينة بورتسودان في كانون الثاني (يناير) 2005م. والبجة، الذين يقطنون في شرق السُّودان في أرض مساحتها 340000 كيلومتر مربع (يزيد قليلاً عن دولة مثل بولندا)، ويبلغ تعداد سكانهم 4 مليون نسمة (أي ما يعادل سكان إسكوتلندا)، تشكل مجموعة قبائل أكبرها الهدندوة في ولاية البحر الأحمر، وهناك قبيل البني عامر التي تنقسم بين السُّودان وإريتريا، والبشاريون الذين يقيمون في السُّودان ومصر. وكل قبائل البجة تتحدث بلغة تنتمي إلى المجموعة الكوشية. أما البني عامر فيتحدثون لغة التقراي. وهناك قبائل عربية عديدة تقطن هذا الإقليم مثل الشكرية في منطقة القضارف والتي تحترف الزراعة والرعي، وقبائل الشمالية العربية مثل الشايقية والجعليين التي نزحت واستوطنت في هذه المنطقة العام 1821م، وارتباطهما بالمركز في الحصول على رأس المال والتعليم العالي حقق لهما النجاح في مجالي الزراعة والتجارة. أما الرشايدة فهي قبيلة بدوية هاجرت من المملكة العربية السعودية إلى السُودان العام 1869م، وهناك مجموعات من النُّوبة والفور والهوسا والبرقو والزبارما وقبائل من جنوب السُّودان، وبخاصة في مدينتي بورتسودان وكسلا.
ويرغم من أنَّ الشرق من المناطق الغنية، حيث يُوجد الذهب والموانئ وأنابيب النفط والأراضي الخصبة للزراعة الآلية والمطرية والموارد الحيوانية، تعتبر المنطقة أكثر مناطق السُّودان فقراً، حيث بلغ متوسط دخل الفرد في السنة 93 دولارراً أمريكياً العام 2004م، ويعاني أهلها من الأمراض المستوطنة كالسل الرئوي، السرطان، وبخاصة أولئك الذين تضرَّروا من المباني السكنيَّة التي شيَّدتها حكومة الفريق إبراهيم عبود في الستينيَّات لإيواء نازحي منطقة حلفا القديمة بعد أن غمرت أراضيهم مياه النِّيل المحتجزة بعد تشييد خزان أسوان في مصر. هذه المباني مشيَّدة بالأسبستوس، وأخذ السرطان يفتك بهم فتكاً شديداً. وكذلك يعاني أهالي البجة في أعظم ما تكون المعاناة من تكرار دورات الكوارث البيئية (الجفاف والمجاعات) حتى فقد البجة قطعانهم من الماشية والإبل، فضلاً عن فقدان العمال منهم وظائفهم في الموانئ بعد إدخال الآلات الحديثة. ومع ذلك، لم يتلق الشرق سوى نسبة ضئيلة للغاية من الإنفاق الحكومي في مجالات التعليم والصحة والخدمات الأخرى بسبب تركيز السطات في المركز بدرجة عالية، مما يمنح الحكومة المركزية حق احتكار جميع الإيرادات المالية والتحكيم في توزيع الأموال على الولايات، بل وفي الطرق التي تنفق بها تلك الأموال وفي غالبية الأحوال تصل هذه الأموال فقط للجهات الموالية للنظام مثل زعماء القبائل والمسؤولين بالحكومة والجهات الأمنية.(28)
وقد انفرد قبيل الأمرار بإرسال مذكرة سياسية مطلبية إلى رئيس الجمهورية عمر البشير في آب (أغسطس) 2011م، معددين مظالمهم ومطالبهم في نقاط. وبعد أن ذكروا في مذكرتهم – فيما ذكروا – الثروات والموارد الطبيعية والبشرية في مناطقهم، أبانوا أنَّهم “في موازين المستحقات المقابلة والحقوق المكتسبة عن المجاهدات والبذل لم يجدوا إلا أقل القليل، وأعطيت جوائز البذل والعطاء لغيرهم بغير حدود، هذا فضلاً عن أنَّهم لم يجدوا حظاً في ثروات أراضيهم ومرابعهم التاريخية المباشرة، ناهيك عن أي حظوظ أخرى في ثروات قومية أو ولائية، بل لم يجدوا ما يستحقونه من مشاركة في سلطة مركزية أو ولائية وفق المعايير التاريخية والتواجد وأداء الواجبات المطلوبة منهم على خير الأوجه، هذا فضلاً عن بدهيات الحقوق التاريخية الأصيلة التي تستحقها كل القبائل والمجتمعات في مختلف مواطنها الأزلية.” ولتصحيح تلك الأوضاع طالبت عموم قبائل الأمرار الحكومة السُّودانية على المستوى المركزي بإنفاذ 15 مطلباً سياسياً واقتصادياً وإدارياً وتنموياً، وفي مجال الخدمات الصحية والتعليمية وغيرهما (ملحق رقم (3)).
وبُعيد نشوب الحرب في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بدأ الحديث يدور في الهمس عن اقتراب أهل شرق السُّودان من العودة إلى العدائيات، وبخاصة أنَّ الحكومة لم تُقدم على تنفيذ اتفاقية سلام شرق السُّودان للعام 2006م على النحو الذي ينبغي أن تكون قد نُفِّذِت. ففي ندوة إعمار شرق السُّودان، التي نظَّمها مركز دراسات المستقبل حول “التنمية وإعمار الشرق” في تشرين الأول (أكتويبر) 2011م، بدأ النقاش يدور حول أولوية المشاريع الكبيرة وتنفيذها، وهي طوكر، حلفا، القاش، ستيت، وتوصيل مياه النيل لولاية البحر الأحمر. وفي تلك الندوة أبان مستشار رئيس الجمهوريّة الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل بأنَّ أول صندوق لتنمية شرق السُّودان “بعد الاتفاقية حُدِّد له مبلغ 600 مليون دولاراً لتمويل المشروعات المختلفة (البنى التحتية والخدمات والتنمية البشرية)، مشيراً إلى أنَّ دولة الكويت قد ساهمت بدعم يُقدَّر بنصف مليار دولاراً، وفيما ساهم الصندوق العربي ب210 مليون دولاراً، والبنك والإسلامي للتنمية ب250 مليون دولاراً.”(29) وفي هذه الأثناء “قرَّرت الحكومة تخصيص مبلغ 250 مليون دولاراً للمشاريع الزراعية التأريخيَّة في طوكر، القاش، حلفا الجديدة، والقضارف، والتزمت بسداد أموال صندوق إعمار الشرق بشكل “فوري”، بجانب سداد المكون المحلي في مشاريع المانحين في مؤتمر الكويت.”(30) ولكن الالتزام – سواء بتخصيص الأموال أو سدادها – شيء والتنفيذ شيء آخر. وقد “سبق أن خصَّص الشريكان (الجانب الفرنسي والسُّوداني) لتنمية منطقة أرياب نصيباً قدره 300000 دولاراً أمريكياً سنوياً، ومنذ العام 2006م تسلمتها حكومة الولاية، وتم صرفها في غير ما خُصص لها، وعليه طالب (أهالي الأمرار) بإرجاع هذه المبالغ لإدارة الشركة لقنوات إشرافها القديمة، وبعيداً عن هيمنة الولاية، وصرفها من ثم عبر آلية يتفق حولها، فضلاً عن أهمية تعديل قانون تأسيس الشركة لإلحاق ناظر الأمرار ليكون ضمن مجلس إدارة الشركة (ملحق رقم (3)). وهنا يمكن أن يتساءل المرء إذا أنفقت الحكومة هذه المبالغ الواردة إياها – والتي لا شك في أنها ضخمة – في تنمية وإعمار الشرق حقاً فما المشكل إذن؟ غير أنَّ الأمر أكبر من ذلك، فأين عنصر الفساد في المال العام في كل هذا؟ وأين البيروقراطية والتماطل والتجاهل لأهم برامج وتخطيطات الدولة لإحداث تنمية نوعيةَّ وكميَّة لإقليم بعينه، وبخاصة إذا كان هذا الإقليم قد تأثَّر بالحرب الأهلية؟ وكذلك هل أبعدنا النظرة الأثنية والدونية التي يلجأ إليها صناع القرار وسياسيو السُّودان وحكامه؟ كذلك بدأت “اللجنة العليا لإنفاذ اتفاق سلام الشرق” برئاسة نائب رئيس الجمهوريَّة علي عثمان محمد طه في القيام بحركة دؤوبة لسحب البساط من تحت أقدام أيَّة مجموعة في شرق السُّودان تنتوي عملاً حربياً. هكذا كان الغرض الأساس من زيارة رئيس جهاز الأمن والمخابرات الوطني الفريق محمد عطا إلى أسمرا في أيلول (سبتمبر) 2011م، ألا وهو “تلافي التململ الذي بدأت تظهر مؤشراته في الحدود الشرقية للبلاد (…)، وهناك حراك كثيف في الناخية الشرقية لفتح جبهة جديدة بالمنطقة، وتود الحكومة السُّودانيَّة إحكام التنسيق والتعاون مع إريتريا للتصدي لأيَّة محاولات من هذا القبيل ومحاصرتها.”(31)
ومثلما سال لعاب أهل الشمال من قبل طمعاً في موارد الجنوب من أخشاب، وفواكه، وثروة حيوانيَّة ضخمة، ونفط، تحوَّل هذا الجشع إلى أبيي والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وبخاصة بعد ما أسموا الأخير “الجنوب االجديد”، ونعتوا أهله من النُّوبة ب”الجنوبيين الجدد”، وطفقوا يعدِّدون موارد المنطقة الطبيعيَّة والحيوانيَّة، وبالطبع دون الالتفات إلى البشر الذي يقطن هذه الجبال والوديان. ففي يوم 13 أيار (مايو) 2011م بعث البروفيسور إبراهيم أحمد غندور (أمين أمانة الاتصال التنظيمي بالإنابة) بخطاب إلى رؤساء المؤتمر الوطني بالولايات فيه تحدَّث عن أهميَّة ولاية جنوب كردفان، وذلك من خلال زيارة وفد من المؤتمر الوطني بقيادة البروفيسور الأمين دفع الله وزير الدولة بوازرة الزراعة والغابات إلى كردفان الكبرى (بولاياتها الثلاث) في خريف العام 1999م. إذ جاء في الخطاب ما يلي:
(1) جبل الترتر تصلح بيئته الخريفيَّة أن تكون موقعاً للإنتاج السينمائي.
(2) اقتصاد كردفان يقوم على الزراعة والإنتاج الحيواني.
(3) انتعاش التجارة، وبخاصة مع الجنوب.
(4) تعتبر ولاية جنوب كردفان الولاية الشمالية الوحيدة المنتجة للنفط (حقول هجليج وبليلة بمربع (6) تصل إنتاجيتها 110000 برميلاً يوميَّاً).
وفي مختتم هذا القسم نستطيع أن نقول إنَّ الاتفاقيَّة بحسبانها وفاقاً بين طرفين نقيضين، كانت بهما فتوق، أي إنَّها لم تكن مثل بقرة بني إسرائيل مسلمة لا شية فيها، ولذلك وُضِعت وسائل لإعمال الرتق في جسدها، سواء المفوضيات الكثيرة التي أوصت بها الاتفاقية أم الضمانت العضويّة (Organic guarantees)، التي فصلها الدكتور منصور خالد أيما التفصيل، وأسهب في تفسيرها وشروحها بشيء من التدقيق كثيف، وجدَّ في البحث والاستقصاء ما أُتِيحت له من وسائل البحث والاستقصاء. ومع ذلك، إدارأ – أي اختلف – الشركاء في تفسيرها تارة، وتشاكسوا حول البعض منها تارة أخري، ثم استغاثوا بضامني ورعاة الاتفاق تارة ثالثة لحل ما شجر بينهم، وبعدما تناوأوا بعضهم بعضاً. وفيما انصرم من استيفاء واستقصاء حول مسألة السياق السياسي لإعادة إنتاج الأزمة في جنوب كردفان نجد أنَّ سياسة الدولة الرسميَّة كانت مرسومة في سبيل خلق بلبلة سياسيَّة وأزمة أمنيَّة في المنطقة، وخطاب نائب رئيس الجمهوريّة، الذي هو أشبه بخطاب مروان بن الحكم الذي تسبَّب في مقتل سيدنا عثمان بن عفان ونشوب الفتنة الكبرى، ذلكم الخطاب المبعوث إلى والي الولاية التهيم شاهد على ما نحن فيه قائلون؛ واقتران الخطاب بمذكرة أثنية تحمل نفس الفكرة الجهنميَّة دليل آخر على ما نحن فيه زاعمون؛ والتقاعس في إنفاذ أهم استحقاقات السلام المتمثِّل في المشورة الشعبيَّة كان عملاً مقصوداً، وحرمان المنطقة من الموارد الماليَّة والتنمية الاقتصاديَّة والخدمات الأساسيَّة جاء عن سوء قصد وإصرار، ثم عدم المساعدة في إعادة النازحين ومسائل أخرى قد فاقمت من الأوضاع السياسيَّة. غير أنَّ المشكلات الأمنيَّة كانت أكبر هاجس وقف في سبيل عودة النازحين إلى قراهم في جنوب كردفان، فضلاً عن غياب خدمات التعليم لأبنائهم، وشح مياه الشرب، أو وجود الآجن منها والماء الآجن هو الذي تغيَّر طعمه ولونه، وتكاثر الألغام غير المنزوعة في الأراضي الزراعيَّة، وعدم إرجاع الأراضي المسلوبة إلى أصحابها من أهل النُّوبة وما سوى ذلك. وفي حقيقة الأمر، ما هي هذه الدواعي الأمنيَّة التي لم تسعف في عودة الاستقرار والأمن بالصورة التي ابتغاها النازحون الذين أُخرِجوا من عقر ديارهم في جبال النُّوبة بغير حق؟ هذا سؤال سنجيب عليه بعد حين.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.