آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفكر الأصولي.وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام..بقلم : عبد المجيد الصغير
نشر في حريات يوم 21 - 02 - 2012


عبد المجيد الصغير..
قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة.. *
1 –هناك مفارقة يلحظها كل مهتم بتاريخ العلم في الإسلام، ويتمثل ذلك في أنه منذ بداية تدوين “العلم” -كعلم الحديث والسير والتفسير- والمشتغلون بذلك يبدون عناية ملحوظة بالتاريخ وبالحديث ويلحون خاصة على أخذ العلم من حيثياته المعيشة وظروفه المجتمعية، وقد ترجم ذلك لديهم عنايتهم الفائقة “بالخبر” وتحقيقهم لمتنه و”أسباب” وروده ونزوله… إلا أن المفارقة تبدو حين نلاحظ أن مسار “العلم” في الإسلام انتهى إلى طريق أصبح فيه التاريخ، وتاريخ الحديث العلمي بالتحديد، هو الغائب الأكبر، بل أصبح “علم التاريخ” لدى بعض الفقهاء وعلماء الأصول علما مشبوها، لا ثقة بأصحابه ولا اطمئنان إلى أخباره؛ الأمر الذي رسخ لدى هؤلاء الاعتقاد بإمكانية تناول تقويم العلم ومعرفة طبقات رجاله والإحاطة “بمناقبهم” وتفصيل قضاياهم وطروحاتهم المعرفية بعيدا عن تناول ظروفهم الاجتماعية وأحوالهم الفكرية والسياسة...وها هو الرازي لا يجد ما يعلل به نشأة علم الأصول مع الشافعي إلا بمقارنة ذلك مع نشأة المنطق مع أرسطو، ومهما تكن من فائدة المقارنة هنا فإن الرازي لم يكلف نفسه بالبحث عما عسى يكون لحياة الشافعي ولظروف بيئته المختلفة من تأثير في تلك النشأة...هذا هو العيب الذي حاولنا تفاديه ونحن نراجع القول في أخطر علوم الإسلام، على أصول الفقه، ومعه علم أصول الاعتقاد (=علم الكلام).
2 –لأجل هذا، أجدني ملزما بالاعتراف أنه بالنسبة إلي، لم يكن عملي هذا مجرد اعتناء بدراسة وتقويم التراث، بل هو قبل ذلك وبشكل أولي كان اهتماما بدراسة مكونات واقعنا اليومي المعيش، وعناية برصد حركاته وأنواع المعاناة والإحباطات الاجتماعية والسياسية خاصة، تلك الإحباطات التي تميز مسيرتنا منذ ما يعرف بعصر “النهضة” العربية الحديثة إلى يومنا هذا !.
ولا أخفي عليكم أن هذا كان الدافع الأول الذي حفزني للكتابة في هذا الموضوع، خاصة بعد أن لاحظت، سواء على مستوى الفكر أو الممارسة، أن واقعنا اليومي المعيش لم يزل تتفاعل فيه كثير من الأسباب والعوامل التي كنا نحسبها قد ولت ولم يعد لها تأثير على مجريات أحداثنا اليومية؛ فكما عادت اليوم إلى السطح بعض المفاهيم والتصنيفات القديمة مثل: السنة، الشيعة، السلف، المذهب...عادت لتوظف من جديد وبأشكال متباينة، فكذلك الشأن بالنسبة للعديد من التصنيفات والمفاهيم التي كانت متداولة في التراث العلمي (الفقهي والأصول) والسياسي، ثم لجأت إليها الإصلاحية العربية والحركات السلفية وحتى السلطات السياسية والحركات القومية في العالم العربي الحديث والمعاصر، لجأ الجميع إلى تلك المصطلحات والمفاهيم قصد توظيفها لهذا الغرض أو ذلك، في هذا الاتجاه أو ذاك !
لذا فقد حصل لدي اقتناع بأن قراءة تراث الحركات الإصلاحية العربية الحديثة يجب أن يبدأ أولا بإحكام دراسة تلك “الأصول” التي كان رواد تلك الحركات الإصلاحية يزعمون الرجوع إليها ويتخذونها مطية للدخول إلى العصر الحديث؛ فكما أن الفكر العربي الحديث مارس ولا يزال يمارس تأويلاته على التراث الأوروبي، خاصة منه جانبه السياسي، فهو ولا ريب قد مارس تأويلات أخرى وبكيفية أوسع على ما اعتبره أصولا إسلامية، خاصة على مفهومين إجرائيين لعبا دورا بالغا لدى رواد الحركات الإصلاحية العربية، وهما مفهوم “السياسة الشرعية” ومفهوم “مقاصد الشريعة” وما ارتبط بهما من مفاهيم وقواعد فقهية وأصولية ومبادئ سلوكية و”نصائح سياسية”…
لقد اقتنعنا إذا بضرورة إعادة النظر في ذلك الحقل المعرفي الذي تمسكت به الإصلاحية العربية، رغبة منها في الخروج من عصر الانحطاط واللحاق بالمارد الأوربي الحديث؛ إعادة النظر هذه تطمح أولا وقبل كل شيء التحرر من تلك الهموم التي سجنت فيها هذه الإصلاحية نفسها حين صارت تلهث وراء إثبات “الأصالة والمعاصرة” عند كل إعادة لاكتشاف تراثها. في حين أصبح همنا الأكبر محاولة إحكام تلك الأصول الفكرية في الحقل المعرفي الإسلامي، والوقوف على خصوصية إشكاليتها، وتحليل طبيعتها، وتعليل تواجدها وتفاعلها مع المحددات الفكرية والسياسية، سواء عند نشأتها أو حين تطورها النوعي في القرن السابع وطيلة القرن الثامن للهجرة الذي تبلورت فيه بكيفية واضحة، بعض المفاهيم الأساسية كمفهوم المقاصد الشرعية، بجانب نضج واضح للتجربة السياسية، النظرية منها والتطبيقية.
لذا نعتقد أننا قد حددنا نقطة البداية المناسبة حينما حولنا الاهتمام إلى تلك الأرضية الأساس التي يتعامل معها كل قراء التراث ومنظريه، بل وكل الحركات الإصلاحية الإسلامية منذ القرن التاسع عشر، ويصدرون عن دعوى الإحاطة بها والاقتيات من مائدتها، مائدة “أم العلوم” في الإسلام، الفقه والأصول، وما ولدته من مفاهيم ومصطلحات وكذا من مواقف لا تزال إلى اليوم تشكو من غموض ومن مغالات في التوظيف وقلة ضبط وسوء فهم، سواء لطبيعة نشأتها أو لمضمونها… وهذا ما اقتنعت بجدوى البدء بإحكامه وتأسيس البحث فيه وإعادة النظر إلى إشكاليته.
3 –نعم !إننا ندرك مع كانط أن من واجب العالم أن يفرض أسئلته على الطبيعة، موضوع بحثه، يستنطقها ويرغمها على كشف قوانينها… إلا أننا نعتقد من جهتنا أن الأسئلة التي وضعناها على المائدة المراد تناولها في هذا العمل، كان من المفروض أن توضع منذ زمن طويل، بل هي أسئلة قد تم تغييبها رغم ما توحي به سيرورة الفكر والعلم في الإسلام من مشروعية تلك الأسئلة بل ومن ضرورتها.
ولعل أولى تلك الأسئلة تساؤلنا الكبير: كيف يمكن إنجاز تقويم “العلم” في الإسلام، سواء من حيث النشأة أو التطور، أو من حيث الأهداف والمقاصد، دون أن نضع في الاعتبار أهمية دور الأطر الاجتماعية، وخاصة دور السلطة السياسية ومؤسساتها المختلفة، كإطار اجتماعي ومعطى واقعي؟ مع العلم أن العديد من منتجي المعرفة والعلم في الإسلام قد دخلوا في تجارب مباشرة مع حاملي السيف وأرباب السلطان، وأدركوا تلهفهم الدائم لتوظيف وتطوير مجموعة من المفاهيم والمصطلحات المتداولة في الحقل الإسلامي، خاصة بعد أن تم تحديد مهمة رجل السلطة في الإسلام بكونها “خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا” !أو لم يعترف ابن المقفع بأن طموح رجل السلطة في الإسلام، كما في بلاد فارس، ليس له حدود، وأنه لو استطاع أن يستأثر دون الناس حتى بالماء والهواء، فلا يوزعهما عليهم إلا بمقدار ما يضمن طاعتهم له؟ !فكيف إذن لا يكون لمثل هذا الطموح صدى في “العلم” وتأثير عليه؟ وإذا أمكن لرجل السياسة أن يستحوذ أو يؤثر على “جسد المحكومين” فكيف تسلم عقولهم وينجو إنتاجهم المعرفي من ذلك التأثير...؟
في ذلك السؤال الكبير إذا لم يعد بالإمكان غض الطرف أو التقليل من أبعاد التداخل الممكن رصده بين الإنتاج المعرفي والوضع الاجتماعي والسياسي في تاريخ الإسلام، سواء من حيث النشأة والتكوين أومن حيث ما يمكن أن تشحن به هذه المعرفة من حمولات وأهداف ومقاصد قد تصير لدى حامليها والمتعاطفين معها والمتداولين لها أفكار قوى، لابد أن تترك أثرها على التطور الفكري والاجتماعي، بمثل ما كانت تلك الأفكار والنظريات ذاتها نتيجة لذلك التطور…
4 –لقد حاول هذا العمل من خلال هذه الرؤية، وبعد تحديده لتلك الأسئلة، حاول أن يتتبع جدلية العلاقة بين رجل العلم ورجل التدبير السياسي في الإسلام، تلك الجدلية التي عكست إشكالية اتخذت في كثير من الأحيان صبغة التوتر بين منطق الواقع ومنطق الواجب، بين الكائن والذي ينبغي أن يكون؛ بين منطق السياسة و”طوبا السياسة”. وهو ما جعلنا نلاحظ، وعبر مختلف الشهادات والوقائع، أن إشكالية “تحويل المعرفة” إلى قوى محركة أو “نفوذ”، قد يجعل منها أحيانا كثيرة أو قليلة “سلطة” مؤثرة؛ إن هذه الإشكالية أثبتت حضورها في تاريخ الإسلام، سيما في الفترات الحرجة المتسمة “بالفتنة” وانحلال السلط !ورغم نجاح الخليفة أو السلطان أو الأمير في إحاطة شخصه بحالة “سحرية”، أفلحت في إقناع رجل العلم بخطورة “السياسي” فإن الهم الأكبر، وهو مشكلة السلطة والشعرية، ظل هاجسا مكبوتا وراء الكتابات الكلامية والأصولية.
وذلك هو الذي شجعنا على إعادة قراءة التراث الأصولي، ومعه التراث الكلامي؛ واضطرنا إلى الوقوف عند العديد من المفاهيم والمصطلحات المتداولة في حقلها المعرفي، خاصة منها تلك المفاهيم التي تسربلت برداء العلم ومحض المعرفة، وهي “تضمر” ولو عن طريق التورية أو “بالقصد الثاني”، تطلعا نحو امتلاك لا أقول لسلطة “سياسية” فعلية بالمدلول المباشر، أبدا !لكنه تطلع نحو نوع من التوجيه والتأثير وكسب “النفوذ”، كان لابد أن تكون له أحيانا عواقب على المستوى الاجتماعي وعلى المستوى السياسي تبعا لذلك؛ نظرا لخصوصية المعرفة في مجتمع الإسلام، واعتبارا لكون تاريخ إنتاج تلك المعرفة وتدوينها في الإسلام هو تاريخ لذلك المجتمع بشكل من الأشكال. وكل هذا وذاك فرض علينا في آخر التحليل ضرورة الالتفات إلى الواقع التاريخي كإطار يتضمن تفسيرا لنشأة المعرفة الأصولية ذاتها، لا اعتبارها تراكما معرفيا ونظريا محضا، بل كمفاهيم أطرها مناخ سياسي واجتماعي متفاعل ساهم في بلورتها بجانب عناصر أخرى بطبيعة الحال...ولذلك يصير من الأهمية بمكان استشراف هذه العلاقة الممكنة بين الظرفية السياسية لدولة الخلافة وبين المواقف العلمية للفقهاء ورجال العلم من جهة، وبين العديد من المفاهيم والتبريرات النظرية الأصولية التي ينتجها الفقيه الأصولي من جهة أخرى. وذلك في نظرنا هو السبيل الأسلم لإعادة تقويم التراث الفقهي والأصولي الذي نعلم مبلغ انتشاره وندرك خطورة التأويلات، سواء منها المقصرة أو المفرطة، في حقه…
5 –هذا وإن كان من المتعذر في هذا المقام أن أقدم خلاصة لنتائج هذا العمل، فلا أقل من أن أشير إلى بعضها ولو في صورة باهتة مختزلة لا تفي بالمطلوب ولا تحيط بكل تلك النتائج:
لقد مكنتنا نقطة الانطلاق المشار إليها آنفا من إعادة النظر أولا في بنية الخطاب السياسي الممارس في دولة الإسلام، تلك البنية التي لمسناها ليس فحسب من استنطاقنا للمصادر التاريخية المباشرة المسجلة للأحداث اليومية المرتبطة برجل السلطة؛ ولكن ذلك تم أيضا بفضل تحليلنا “المفاهيمي” لأبرز المصطلحات المتداولة في الأدبيات السياسية لدولة الخلافة، تلك المصطلحات والمفاهيم التي روجتها هذه الأخيرة والتي لاحظنا كيف تتقاطع كثيرا وتتلاقى مع ذات المصطلحات المتداولة في الإنتاج المعرفي الأصولي، ولكن بدلالات مخالفة بل ومناقضة لها أحيانا كثيرة !مثل مفاهيم: الأمر، الطاعة، الواجب، الحرام، المباح، الفتنة، المصلحة، المفسدة...وغيرها من المفاهيم التي عكست في ظل العباسيين خاصة رغبة “خليفة المسلمين” في امتلاك سلاح السيف والقلم معا، بل وفي الاستئثار أحيانا بفهم “النص” وامتلاك حق تأويله، خاصة وأن الخليفة لم يكن لتعوزه الوسائل لتحقيق ذلك، ما دام هناك أصحاب الأقلام وكتاب الدواوين وفقهاء السلاطين !
لهذا نظن أن الفكر الأصولي وجد نفسه وجها لوجه مع تعقيدات الحياة الاجتماعية والسياسية، خاصة منذ أصبحت أهم المفاهيم والمصطلحات الموظفة على هذا المستوى الأخير متداولة بين فقهاء الإسلام، ومنذ أن اضطر الشافعي، بعد أن كادت رأسه تطير بسيف الخليفة –أن يصحح تلك المفاهيم والمصطلحات ويضبط دلالاتها ومقاصدها العلمية خاصة… مصطلحات من قبيل البيان والعلم والحكمة؛ الحق والصحة والحجة؛ الإجماع والاختلاف؛ النهي والأمر؛ الواجب والفرض والطاعة؛ الإمام والأمير وأولي الأمر والولاة والحكام والقضاة...وهي مصطلحات طفحت بها “رسالته”، ولكنه صارت في عصره محملة بدلالات “سياسية” بسبب الصراع الكلامي والسياسي في ذلك العصر؛ كما صارت في خضم ذلك المعاني “المشتركة” يتداولها رجل العلم ورجل السياسة في آن معا وبمقاصد مختلفة بل متناقضة !
لأجل هذا كان من الأفيد أن نفهم اعتناء الشافعي بتحديد المصلح الأصولي وتقنيته لضوابط التأويل وقواعد الاستنباط في ضوء تلك المحاولة التصحيحية كذلك التوظيف أو الاستغلال للنص الشرعي الذي شاع قبل وعلى عهد الشافعي بين الخلفاء والأمراء وأغراهم بالاستحواذ على “النص” والتفرد بتأويله والتظاهر بتنظيم “الاجتهاد” العلمي… وإذا كان مثل ذلك الاستغلال يدفع رجل السلطة و”فقهاء السلاطين” إلى تكسير النص وتفتيته، فقد ظل همّ علماء الأصول بعكس ذلك، منذ الشافعي حتى الشاطبي، منصبا على البحث المستمر عن “منطق” للنص واكتشافا دائما لوحدته وتصورا ممكنا لعموم سلطته… وفي هذا ما جعل الممارسة الأصولية تعكس رغبة واضحة في تفويت الفرصة على كل من يدعي قراءة النص بعيدا عن “قوانين التأويل”؛ مما يعني أن اهتمام الأصولي بتعليل الأحكام ليس أكثر من البحث عن منطق موحد للخطاب الشرعي وسعيا حثيثا لتحقيق مقاصده الكلية في الواقع المعيش.
6 –في ضوء هذا قمنا بتحليل أهم الإنتاجات الفكرية الأصولية، كما قمنا بموازاة مع ذلك بتتبع أشهر مواقف الأصوليين مع السلطة والمتسمة إما بطابع العنف والمحن والمتابعة وشد الحبل بين الطرفين أحيانا، والمتسمة أحيانا أخرى بشيء غير قليل من القدرة على التكيف وتطويع الواقع والاعتراف بمزيجه… دون أن يفوتنا بعد هذا إدراك عامل الزمن وتتابع الحقب في تطويع وتشويه كثير من النظريات الأصولية أوفي إبرازها، بخلاف ذلك، كعامل إنقاذ اجتماعي وسياسي عند انحلال السلط، كما لمسنا ذلك مع كل من الشاطبي والجويني قبله. هذا الأخير الذي استطعنا أن نبرز قيمة مراجعته النقدية سواء للقول السياسي أو للقول الأصولي ومحاولته توظيف ما سماه بالمقاصد الضرورية توظيفا يهدف إلى تذليل مختلف الصعاب أمام مشروعية التكيف و”التقلب في العيش”.
ولعل من بين ما أمكننا التوصل إليه في هذا العمل، تلك الشهادات الدامغة على مدى التواصل الفكري بين أرقى صور الفكر الأصولي في المغرب والمشرق، ويقدم الشاطبي نفسه شاهدا على ذلك التواصل والتلاقح بينه وبين الفكر الأصولي لكل من الغزالي والجويني خاصة…
أما رحلتي مع الشاطبي فإذا كنت في هذا التقديم لا أستطيع أن أصف مفاوزها وأعدد دروبها ومسالكها، فلا أقل من أن أشير إلى أن أهم ما تم إبرازه في هذه الدراسة، ذلك الجانب المنهجي من فكر هذا الرجل الذي لم يُخْف رغبته في توظيف رؤيته التجديدية لعلم الأصول في سبيل إنقاذ الأوضاع المتدرية بالأندلس، وذلك عبر اعتنائه الشديد بشروط “تنزيل العلم” على الواقع بدل تركه حبيس الكتب والمصنفات أوحبيس القراءات القديمة. لهذا فصلنا كيف يحرص هذا الأصولي الأندلسي الكبير أن يزيل عن التكاليف الشرعية ما علق بها في ظروف الانحطاط من إسقاطات تأويلية تجعل منها تكاليف قرينة لمعنى التشدد والمشقة، المنهى عنهما بالأصل، كما تجعل منها “بدعا” متسلطة على رقاب الناس…
7 –هذا، ولعل مما يزيد من إبراز مساهمتنا هذه ما يحظى به البعد “الديني” من حضور داخل مختلف الأوساط المجتمعية في أرجاء العالم الإسلامي؛ وهو حضور كان ولا يزال يغري رجال السياسة ورجال الفكر على السواء، تحت ضغط الظروف باللجوء إلى الاستغلال والتوظيف الذي قد يصل إلى حد التخمة، سواء من طرف رجل السلطة أو بعض رجال الفكر وفقهاء العصر، بدلالات اجتماعية أو مقاصد سياسية خاصة، محدودة الأهداف، الأمر الذي قد يحمل هؤلاء جميعا،كل من موقعه، على التلاعب بالدلالات الأصلية لتلك النصوص والمفاهيم، ويزين لهم إسقاط ضوابطها ويشجعهم على خرق شروطها.
ومن جهة أخرى لا يسع المتتبع لتطور الفكر في العالم الإسلامي اليوم إلا أن يلاحظ أن الفكر الأصولي والاجتهاد الفقهي، منذ بداية الإصلاحية العربية إلى اليوم، لا يزال يعاني من أزمة التراجع القديم مفتقرا إلى ذلك المستوى الرفيع من الفهم الذي لمسناه عند الشاطبي لمقاصد الشريعة. ولاشك أن البون شاسع بين المشتغلين بالدراسات الفقهية والأصولية والمحسوبين على ممارسي “الاجتهاد” اليوم والمتداولين لمعاني ومسائله، وبين تلك النماذج الأصولية التي حاولنا الوقوف عليها، منذ الإمام الشافعي العالم بالفتن وبالاختلاف، والمؤسس لمذهبه المصري، بعد مذهبه العراقي؛ إلى أبي إسحاق الشاطبي الذي أولى مشكلة تنزيل العلم وتطبيق الفكر على الواقع عناية فائقة؛ مما لا نجد له نظيرا في حياتنا المعاصرة !
من هنا كان الوقوف من جديد على بنية الخطاب الأصولي، خاصة على طبيعة المقاصد الشرعية الكلية، من شأنه تجنيب الفكر الإسلامي المعاصر مزالق الوقوع في الغلو والتقصير معا. وذلك بفضل ما يتضمنه منطق تلك المقاصد من مراعاة طبيعة الواقع والعمل بالتدريج على إصلاحه وتنزيل العلم على مجاري العادات ومراعاة المآل في كل الأحكام وضمان حق وحسن التقلب في العيش…
*****
* ) هذا المقال تقديم قام به الكاتب لكتابه الذي يحمل نفس العنوان، وذلك خلال اللقاء الذي نظمته الجمعية لقراءة هذا الكتاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.