مصعب عباس …………… سمكتي المحببة ، لماذا تعبثين بصنارة الفراغ ؟ ، لماذا يقتلك الطموح المنبعث من قصة الجد ؟ ، الجدًّ الذي تسلل شغفاً مع ركب الزواحف ، ودرس في الطبيعة ، وتخرج بمرتبة إنسان . تقاعد عن الحياة ، وتفرّغ لقتل الفراغ ، لنشر الموت بالصيد ، يصطاد العبث والطموح . لماذا أنت مصابة بالمعصية ، والخروج عن النسقية ؟ . آه يا سمكتي المحببة .. قالت أمّك : يا ابنتي ، جدّك يريدك قربه ، يريدك داخله ؛ فلا تحزني أو تغضبي . أمي .. أمي .. مصابة أنت بالتأويل ، فاستمري بالسباحة في بحر واحد ، وأهربي من أسماك القِرْش ، إلتقمي صنارة جدي كي تحظي بالخلود ؛ ففي الموت الخلود يا أمي ، لكن لا أعرف أنك ستخلدين حية أم ميتة . أمي ، سنبكي عليك ونحن بالماء حتى لايرى دمعنا أحد ، إن سألونا عن ملوحة البحر في ذلك اليوم سنقول هو السيل أتى محملاً بجرعته السنوية من دموع الآخرين ، لا نريد أن يبكي لبكائنا أحد ؛ فيفيض النهر ، ويمارس عادته الإنسانية السيئة في احتلال الأرض والإستعمار . أمي ، هل تدورين حول ذاتك حتى تجدينك ؟ ، هل هنالك علاقة بين إصابتك بالتأويل وإصابتك بالدروشة ، هل كل همك توحيد الألوان حتى تَبْيَضّ الحياة في وجهك . يا أمي ، مصابون نحن بالموت .. كل يوم نموت .. كل ساعة ، كل دقيقة يقبضنا الموت .. وعندما جاء وقت الموت الرسمي ، احتار عذرائيل ، هل يقبض أرواحنا ، أم يروح عن قبضتنا ويرحل . أمي : لماذا لا نقتدي بالماء ؟ ، نحرر بعضنا من هذا التكرار ، الماء يبحث عن حياة خارج البحر حتى وإن عمل غاسلاً للأقدام ، مانعاً للإقدام عند السيول ، حتى وإن أحب الصخر مئات القرون ، كي يلدا شجرة تمنح الحياة لهما ، لها ، للطيور القادمين على متن أجنحتهم المعبأة بالرياح . ينجب زهرة ، تملأ أزقتنا ليلاً ، يجففها الهواء ويكنسها نهاراً ، كأنما يمحو خطيئة ما ، هو لا يكنس الزهور ، بل يداري الحب ، الحب الذي يرفض التواجد نهاراً قرب الحرب ، تدخلت بينهما راء الفتنة ، راء الخديعة . زهرة تهدى لتلك التي تفتح جسدها للتو ، فاحت رائحة أنوثتها ، فجذبت النحل . قال النهار : على الأزهار التي تحب قبلات النحل مقابل الرحيق أن تحتمل التكاثر ، وقسمة سيجارة الكلوروفيل الخضراء المشتعلة بنار الشمس المضيئة . أمي ، أتركيني أن أصبح أولى النبيات ، أو إمعانا في الذكورية ، أن أصير أول الأنبياء الإناث ، اتركيني اخرج من هذا البحر واستدرجكم واحداً تلو الآخر ، أوقن أنني سأهزمكم فرادى ، لكنني أخاف ؛ لا أخاف الموت ، اخاف أن يخرج منا بعد ذلك نبي ، ويمارس ما مارسته بالحرب الواحد ، بالحرف الواحد ، فالتكرار يدمن لعبته المفضلة .. التكرار . أعرف أنها ترهات يا أمي ، فلنتحول إلى قرش بكامل الدهون ، لا لكي ننسى ماضينا ، ونصطاد أفراد جنسنا السابق ؛ بل كي نقود قطيعهم إلى وجبة غير الأسماك . أمي الصامتة ، أو التي تتحدث لغة الماء المالح ، أنا جسد ضاقت به شرنقته ، شرنقتي التي أمكث فيها وحيدة .. بصحبة العتمة . جسدي الآن ممتلئ بالوقت ، لماذا كلما حاولت واحدة منا الخروج من شرنقتها وجدت أحدهم ينتظرها ، يغمض عينيها سريعاً ، تسأله لماذا ؟ ، يلطمها على وجهها ، حتى لا تقرصها بعوضة الأسئلة ، وتحك رأسها . ثم يقول : أخاف أن يتحرش بك الضوء جاسوس الحرية . آآآآآه يا أمي ، هل أنتحر ويعلبني التاريخ في علبة سردين ، توضع على رفوف البقالات ، يدرسها الجوعى بأفواههم ؟ ، أم أترك جثتي يشيّعها صائدو الأسماك الفقراء على ظهر صحن صدئ قرب الشاطئ ، يرتلون عليها أغاني البحارة ، لكني لا أحتمل الرائحة النتنة المنبعثة من ذلك الكفن ، تلك الجريدة ، نتانة الأخبار ، صور رئيس التحرير ، الوزراء ، والقرش الأكبر في نسخته البرية . الأفضل لي أن أبحث عن الخلود على متن لوحة رسام مشهور ، يطاردني اللصوص وعلماء والآثار ورجال الأعمال . مصابة أنا بالأسئلة ، ماذا لو فاض النهر قبل موعده وأغرق الصيادين وأنجاني من الغرق ؟ ، ماذا سأكسب أو أخسر إن مت كسردينة أو على صحنٍ صدئ ، أو كتب لي الخلود على تلك اللوحة ؟ ، هل سيفخر بي أهلي ويدعونني شهيدة الفطور ؟ ، أو ملهمة العظماء ؟ ، وأنني الآن بصحبة جدي حية ترزق رغم أنف رائحة الشواء . تباً لك يا جدي ، لماذا أرغمتني على قراءة كتاب الأحياء ؟ ؛ حتى أتعقبك ؟ ، أم أمارس هوايتك عند التقاعد ، واصطاد أحفادي في الغداء ؟ ، لماذا علمتني القراءة ؟، لماذا لم ترحل دون أن تترك رسالتك المعنونة ب : إلى حفيدتي سموكة التي لم اصطادها بعد ، وبعد ، وبعد . بعد حيلة اللغة لنسيان قبل .. يا أمي ، لماذا ومنذ ملايين السنين تطورون أسلحتكم للهرب من صيد الكائنات الأخرى ، لماذا لم تطوروا الوسيلة الأكثر فاعلية .. المواجهة ؟ ، لماذا ليس لدينا جدٌّ ما زال حياً يبقبق في الماء ، حارب أسماك القرش و دحرهم ، حارب الطيور وكسر مناقيرها ، ثم عينوه الجبناء زعيماً عليهم ، من عبودية القرش إلى عبودية الأبطال . هرب .. هرب .. هرب .. نهرب منا إلينا ، نفاجأ بنا ، فنهرب منا إلينا .. حلزونة دائرية نهايتها بدايتها .. أمي .. أمي .. أمممممي .. هل متِّي ؟ ، هل الأموات لا يجيبون على أسئلة الأحياء ؟ ، أم أنهم يغيرون لغتهم وأحساسهم بالوجود .. العدم من حولهم ؟ أمممممي .. أممممي ، لماذا تركتيني ؟ هل أصابك حجر “نقطة الإستفهام” في مقتل؟، أم علق عنقك بخطّاف الإستفهام ، ورسوت على الجانب الآخر ، ربما غفت علامة الإستفهام وسقطت بكرشها الممدود عكس السؤال واستشهدتي . هل المعرفة التي تحيي تميت أيضاً ؟. أتتركينني أغرق في الأسئلة والحزن معاً ؟ ، هاهي جيوش الحزن تركض خلف السراب ، تطارده بملء عطشها ، متى يتحول السّراب إلى دمعٍ ، وينتهي شغف هذه الكائنات وارتاح . ذكية أنت يا أمي ، الآن عرفت منك أعظم الأمراض التي تشترك فيها جميع الكائنات . إنه داء الحياة .. وعلاجه الموت . سأقلّد جدّي وأحاول اصطياد الكائنات التي لم أرَها إلا في كتاب الأحياء ، جهزت أدواتي ، سأرمي صنارتي الآن ، عكس الجاذبية ، عكس المعونات الأكسجينية المذابة في البحر من دولة الطبيعة المتجبرة ، هذا قرش يستلقي بظهره على البحر ، سأصطاده وحتى إن كلفني الهرب تمهيداً للمواجهة … كنت موقناً من حبك للحياة .. حفيدتي التي لم اصطدها بعد ، لتوك اصطدتي ورقة ، الآن فقط بدأت تتزحزحين من السّرب ، ألقمك ورقتي وأنا في طريقي لأكتشف العالم على متن قاربي ، فهل ستلحقين بي ؟ . افترش السماء ، بكامل النجوم ، أنظر إلى الأرض بعيني الوسطى المتبقية لي بعد صراع طال مع الألوان ، قالت الطبيعة : النهر موصدٌ من الداخل ، على كافة الأسماك التي تود اللحاق بركب الزواحف أن تدرس الأحياء ، قفزت إحدى الكائنات أحادية الخلية وصرخت : التطور كذب ، التطور حراااام ، ثم عادت إلى قُمْقُمها ، صرخت من داخله : دراسة الأحياء تحت البحر تصيب الكتب بالبلل والتشبّك ، صاح كائنٌ يتوكأ على أقدامه الثلاثة ، وهو يهم بمغادرة البحيرة : ليست الكتب مصدراً مهما لدراسة الأحياء ، بل الأحياء مصدر مهم لدراسة الكتب . النمل الصغير يسرق السكر ويضعه على ظهره ، حتى يسكبه في الشاي الصباحي لذلك الملاك المصاب بالسكري ، رغم أنف أبنائه الخائفين من الضياع ، والقمر ؟ ، سكر الحاكم ، النمل الكبير . لكنْ لماذا لا تتحرك النجوم طالما أنها سكراً على ظهر النمل ؟ ، الحركة إلى أعلى بوضع متعامد على شغفك ينجب حركة يراها الآخرون ولا تراها أنت ، حتى وإن اقتربت ، أنت فقط عليك أن تقتنع بالمنطق والإفتراضات . النمل يتحرك إلى أعلى تماماً ، يخاف أن تطارده بمراكبك الفضائية عند ارتفاع ثمن السكّر . عذراً ، لم أعرف أنك لم ترين النجوم ، القمر ، والإستفزاز أيضاً . الصباح ككل صباح ، لا اختلاف سوى اقتراب الشمس من إكمال دورتها الكونية ، لتغادر إلى بيضة الرب ، صفاراً يلون الكتاكيت القادمين . قال جارنا حافر الآبار : سبحان التضاد ! ، الأفكار الدائرية ؛ كأفكارنا المتناسلة التي تولد الأسئلة من الأسئلة ، مثل الأرض ، تغريك بالكنوز ؛ حتى تتعمّق أكثر ، وكلما تعمقت أكثر وأكثر تتفاجأ بالسطح من تحت ، كإبرة تثقب برتقالة ، وتفاجأ بالهواء ، يصيبها بالزكام ، لتعطس الإحباط . ألم يقل لك أبوك .. الحديد ، لا تخرجي إلى الهواء بعد الإستحمام ، مصابون بالدوار ، كل مافي الكون يدور ويدور ، لا نعرف عن ماذا يبحث الكل ؟ ، عن ماذا يبحث الجزء ؟ ، أم أنّ الرّب يدور حول نفسه منشغل بذاته ، أو أعطانا الخريطة ؛ يرهقنا بالبحث ؛ حتى يجني الكنز. يا حفيدتي التي لم اصطدها بعد ، خرجت منكم إلى بحر أوسع وأعمق ، حتى من يجيدون السباحة فيه يغرقون ، خرجت لأضيف البهار لقِدْرِ المعاناة ؛ حتى يتطور الجميع . من لا يأتي بجديد يصاب بالموت ، بالتكرار ، وهل الموت سوى تكرار أفعالنا وحياتنا ؟ ، لماذا لا تقنعي الأسماك بأن هنالك وسيلة ثالثة للخروج من البحر ، غير الصنارة والتسمم بالنفط ؟ . تركت جنتي التي تقبعون فيها ؛ حتى أطفئ جحيم الخارج .. للقادمين ، فالجحيم دون عقل جحيم بكل ما يعنيه الصراخ ، أم أنّ العقل هو الجحيم ، كإصبع مُصاب ، يلمس أنحاء جسده ، ويصاب بالألم ، يظنّ أنّ جسده هو المصاب . يا حفيدتي ، الترحال حياتي ، مذ أن كنت وحيد الخلية أحن إلى خلية أخرى ، ألم أخبرك أن النيزك الذي قضى على الديناصورات كان يستهدفني ، الكائنات الفضائية لا تريد لنا التطور ، قضت جميع الديناصورات حتفها ونجوت مع الفئران ، بالقوة هاجموني ، وبالعقل نجوت ، لا نجاة إلا به . انهماكك في قراءة كلامي ؛ يعني أنك ستموتين لتحيا أفكارك ، ويعني أيضاً أنك لم تتلفتي لتري كثيراً من الأسماك حولك ، تقرأ كلامك من على وجهك ، ترميك بنظرات الحسد والغضب والإستغراب ، تأكدي أنهم سيقتلونك ، لكن أحدهم سينفذ كل أفكارك ، أفكاري ، ويصير نبياً ، سيفوت عليك أنسنة النبوة ، انطقها لعلة في لساني ، “أنثنة” النبوة ، الإناث كلهن أنبياء ، والرجال ، فقط ، أنبياءهم ما خرج من بين ظهرانيهم من أنبياء ، فقط ، فقط . ها أنت تكافأين بعد موتك بالخروج إلى السطح ، إلى الشاطئ ، إلى الشمس ، إلى الأكسجين غير المذاب ، إلى الحرية ، يا حفيدتي التي اصطدتها . وبعد .