اعترف بأنني كنت أطلّ على الأدب السوداني من نافذة ضيقة ، لم يتجاوز ذوقي في عبوره سوى على أعمال الطيب صالح ، وحين انتهيت من قراءة كل أعماله ، وذلك مذ سنوات اعتقدت وكم كنت قاصرة المدى باعتقادي ذاك أن الأدب السوداني انتهى عند الطيب صالح .. في قواميس المعنى ومعاجم المصطلح: في العنوان أعلاه، تتبدى ثلاث مفردات لغوية ذات طابع إشكالي، تتضافر جميعها كخيوط شبكة الصياد، لتنسج جملة لغوية واحدة تصطاد معنى يتبدى في بداهة الأمر وكأنه مكتمل بذاته ولا ينقصه التعريف! لكن حين إعادة البصر كرتين نحو مرماه المستتر، يقود المتفكر في بنيته الاصطلاحية إلى مناطق وعرة من التساؤلات الحية، التي لا يستقيم بدون تمييزها أي معنى له! وتتناثر دلالاته علي الكثير من التأويلات المختلفة كأنه حظ شاعرنا إدريس جماع! فما هو »الجنس«؟ و إلى ماذا تقود إضافته إلى مفردة الكتابة؟ ثم ما هي ظاهرة الإبداع بكل تكتلات انتمائها البسيط والمعقدة في آن؟ ثم هل تختلف دلالة العنوان إذا جاءت صياغته مختلفة عن سباقتها كأن نقول مثلاً »أجناس الكتابة الإبداعية الجمالية«؟ نعم تختلف، فمصطلح »الجنس« هكذا معرفاً بالألف واللام، ربما يسلك بنا مسلكاً تتوزع خطواته على مختلف فروع العلوم الإنسانية والإجتماعية الحديثة، كعلم الأناسة والفولكلور، وربما علم البايولوجيا في مظان أخرى. ومصطلح »الكتابة« بالمثل، يشتمل على تاريخ طويل قوامه ظاهرة إنسانية عامة عرفتها مختلف المجتمعات البشرية، القديمة منها والحديثة بلا استثناء! وقد توزعت هذه »الكتابة« على مختلف الحقول المعرفية التي فض مغاليقها جنس الإنسان، ثم هل يختلف الأمر إذا جعلناه أكثر تخصيصاً وقلنا »الكتابة الإبداعية« معرفة بالإضافة بالوصف الذي يليها؟ لا نظنه يختلف أي اختلاف! ففي عصر الجينوم وهندسة الوراثة والتطفل على مجرات الكون البعيدة، وتطبيقات الثورة العلمية التكنولوجية ودراسات النظائر المشعة وهلمجر من فتوحات العصر العلمية، لم يتبق للكتابة الإبداعية من وادٍ للجنَّ تلوذ به، وتحكم غطاء بأسراره منيعة تحجبها عن العقل والتفكر في قمقم ما ورائيات انطلت خديعتها على العقل البشري ردحاً طويلاً من الزمن.. ففي هذا العصر على وجه التحديد، وبناءً على أبسط معطياته، أصبح الإبداع و الكتابة الإبداعية صنوين لمجالات عديدة، تبدأ من علوم الطبيعة والرياضيات، وتنتهي بالعلوم الإنسانية الحديثة التي توجد في طياتها »كتابة« »إبداعية« اعتكف علي تحديد مستوياتها الخمسة »تعبيراً« و»إنتاجاً« و»اختراعاً« و»ابتداعاً« و»بزوغاً«، بحاثة أمضوا سنين عدداً في تمحيص المصطلح داخل مؤتمرات جامعية لدراسة الإبداع نذكر منهم على سبيل المثال »كالفن تايلور« الذي قاد مؤتمرات جامعة »يوتا« لدراسة الإبداع. إذن لا سبيل إلى التساهل في اجترار الصيغة البدهية للمصطلح كما استقرت بنيته في الوعي الجمعي للمجتمع، إلا بتحديده اجرائياً ليشمل اجناساً محددة للكتابة الإبداعية، ربما صار مصطلح الجمالية، لازماً لتفريقها عن جملة مصطلحات أخرى في عصرنا هذا. ونقصد بأجناس الكتابة الإبداعية في هذا المقام ما استقر من وصف لجملة كتابات »جمالية« ترسخت تسميتها على نحوٍ معين كجنس القصة القصيرة، وجنس الرواية، وجنس الشعر، وجنس النثر، وجنس الدراما، بمختلف تمظهراته المسرحية والفلمية والتلفزيونية، وبأنواعها جميعهاً، حسب ما يذهب »ابن منظور« في كتابه لسان العرب، من أن »الجنس أعم من النوع«. ذلك ان النوع الأدبي في الجنس الواحد، يختلف إيما اختلاف عن سابقه، ففي جنس الرواية مثلاً، نجد نوع الرواية الواقعية، والرواية التاريخية، والرواية الجديدة، ورواية الواقعية السحرية، وروايات تيار الوعي.. إلخ.. مثلما نجد في جنس المسرح انواعاً مثل التراجيديا والكوميديا والعبث والواقعية والملحمية والرومانسية.. إلخ.. ولا مناص أيضاً من توضيح ان ما وقع اختيارنا عليه من »أجناس كتابة إبداعية جمالية« ليس هو بالضرورة كل هذه الأجناس، فنحن لسنا في مقام حصر وإنما في مقام تخصيص.ففي التاريخ الأوروبي على سبيل المثال هنالك أجناساً عديدة لكتابة إبداعية جمالية، قل ان تجد لها وروداً في حضن الثقافة العربية كالسوناتة والملاحم البطولية مثلاً، وفي ذات الوقت تذخر الثقافة العربية بأجناس عديدة للكتابة الإبداعية الجمالية كالمقامات وأدب المراسلات والسير.. إلخ، والتي اندثرت وقل توافرها في زماننا الراهن هذا لأسباب عديدة ليس هنا محل ذكرها.. لذلك فقد جاء تخصيصنا لهذه الأجناس هنا، وفق ضرورة أملتها علينا ظروف انتمائنا للحظة الراهنة وجودياً ومعرفياً، بعشم ان تفيد دراستنا هذه عدداص مقدراً من المشتغلين في أجناس اليوم من المكتابة الإبداعية الجمالية، وبغرض حصر مجهودنا في حيز محدد وجب على غيرنا تقويمه وتكملته بما أغفلناه عمداً من أجناس هذه الحديقة الإبداعية.. الراواية والقصة: البناء الشكلي وهجرة تقنيات الكتابة ليس أصعب من التفكير في البداهات مطلقاً، خصوصاً إذا كانت هذه البداهات ذات صلة بحقول الفن و الأدب، فمن منا على سبيل المثال لا يعرف الفرق بين »جنس القصة« و»جنس الرواية«؟ لكن، هل يعرف معظمنا الخصائص التي تميز كل جنس عن الآخر؟ ففي حال القصة القصيرة والرواية، يبدو الأمر أكثر تعقيداً إذا ما نظرنا له من هذه الناحية، فليس ثمة تعريف جامع مانع لفن القصة، لكونها من أكثر الإشكالات الإبداعية السردية تمنعاً على التصنيف القار والثابت او النهائي، وذلك لما تتميز به من تجدد في أساليبها وبنيتها وتقنيات كتابتها. ومن ثم يمكن اعتبارها فناً مفتوحاً لم يستكمل نهايته بعد، فالأدب لا يعرف الكلمة النهائية أو الشكل النهائى! وبالتالي فهو قابل لأن يعرف المزيد من التنوع في شكله وفي طرق التعبير عن موضوعاته. وكذا الأمر بالنسبة للرواية، إلا أنه بنسبة أقل إذا ما اتفقنا مع ما ذهبت إليه الناقدة »ماري لويزبرات« من ان الرواية هي الجنس الأكثر معيارية بجدارة بين صنوف النثر القصصي الأخرى.. شهدت القصة القصيرة منذ نشأتها اطواراً عديدة في نموها المطرد، ابتداء من حقبتها الموبسانية، التي اتسمت فيها بشكل تقليدي البناء يحكمه ثالوث الابداع الأعمى في مراحله الأولى، وهو ثالوث بداية، ووسط، ونهاية! وقد اتسمت هذه المرحلة من مراحل تطور البناء التشكيلي للقصة بالعديد من المظاهر التقليدية، بدءاً من »البناء المختل وسيطرة الراوي الخارجي واللغة الوصفية المحتشدة بالتكرار والثرثرة وافتقادها لعنصر الحوار والسرد المتعددة وتعميق بناء الشخوص وخلافه من أبنية تقليدية أخرى، الشئ الذي تجاوزته بنيتها الشكلية مع تطور تقنيات الكتابة الحديثة التي تنهض على إقامة جماليات الكتابة عبر آليات اللغة وإذابة البنية التقليدية بالإستفادة من خصائص البناء السردي وإدخال تقنيات جديدة على بنيتها كتقنيات المونولوج الداخلي وتقطيع المشاهد واللغة الشعرية العالية وإنعكاس المرايا والفلاش باك وتداخل الأزمنة وتوزع أصوات الراوي على ضمائر المتكلم، وتقنيات تيار الوعي المتمثل في كتابات جيمس جويس و فرجينيا وولف وفوكنر، وخلافه من تقنيات أخرى، فالقصة مثلها مثل كل فن أدبي آخر عنصره الرئىس هو اللغة، وبنيته الشكلية تحكمها العديد من المتغيرات. إلا أننا وضمن محاولتنا لتحديد ملامح العناصر التي تشكل بنية الجنس القصصي بالعموم، نجدنا مضطرين لحصر هذه العناصر في أكثرها جوهرية من تلك التي ينشأ على أساسها التفريق بين جنس وآخر مثل: »الزمان«، »المكان«، »اللغة« ، »الشخوص«، »الحدث«، »الحبكة«، و»السرد«. ولكل عنصر من هذه العناصر تمظهرات مختلفة في انواع الكتابة القصصية وبنسب متفاوتة. ففي بعض الأحيان يطغى عنصر السرد واللغة على عنصر الحدث على أهميته، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع العناصر الأخرى.. وعلى الرغم من ان القصة القصيرة كجنس أدبي، تتسم بالعديد من سمات جنس الرواية وجنس الملاحم الاوروبية، إلا أنها تختلف عنهما في بعض عناصرها البنائية وتختلف معهما ايضاً في الحجم. إذ أن اكثر ما يميز القصة عن الرواية تمييزاً واضحاً لا لبس فيه، هو عنصر الحجم هذا بالإضافة إلى عناصر أخري نتجت بسبب عنصر الحجم نفسه، فالناقد الروسي »بوريس ايخنباوم«، سليل اتجاه او مدرسة النقد الشكلاني الروسية أكد على هذه النقطة مراراً عندما قال بأن »القصة والرواية ليستا شكلين مختلفين نوعيا فحسب، لكنهما متناقضان أيضاً، فالرواية شكل توليفي سواء تطورت عبر مجموعة من القصص أو تراكبت بادماج المادة الأخلاقية والسلوكية فيها.. أما الأقصوصة، فهي شكل أساسي وأولي، والخلاف بينهما هو خلاف في المنهجي والأساسي، وهو خلاف مشروط بالتمايز النوعي الأساسي بين الشكلين الكبير والصغير.. مضيفاً إلى ذلك بأن »جوهر القصة القصيرة يتأكد في حشدها لكل ثقلها في اتجاه النهاية. انها كالقنبلة التي تلقى من طائرة يكون هدفها الأساسي إصابة الهدف بكل طاقتها الانفجارية«. كما ان القصة ايضاً وبسبب حجمها وقصر بنيته، فرض عليها هذا ان تكون اكثر اهتماماً بعنصر اللغة بالتآزر مع العناصر الأخرى، لأنها مطالبة بالاستحواذ على وعي وجدان القارئ وعلى الإمساك بخيوط الوقف كله دونما إسهاب.. وبهذا تكون اللغة في القصة القصيرة، متجهة صوب وجهتها الشعرية لا التقريرية، وفي هذا ما يدلنا على تواشج العلاقة بين الأجناس الإبداعية حتى وأن انفصلت حدائق جنسها عن بعض أشجار الجنس الآخر، مع ضرورة التنبيه إلى أن جنس الرواية، هو الجنس الأكثر اتصالاً بالأجناس الأخرى وأكثر فائدة مما تنتجه هذه الأجناس، فالرواية عميقة الصلة بالشعر من حيث تهجيرها لعنصري اللغة الشعرية والرؤيا إلى بنيتها منه، وبذات القدر لها عميق الصلة بمختلف أجناس الكتابة الدرامية مثل المسرح و السينما، فمن المسرح اكتسبت الرواية خاصية »الحوار« المطول واللغة التشخيصية، ومن السينما استفادت من تقنية »الفلاش باك«.. وإذا كان أفضل تعريفات الرواية ينص على أنها: »حديث محكي تحت شكل أدبي، يرتدي أردية لغوية تنهض على جملة من الأشكال والأصول كاللغة والشخصيات والزمان والمكان والحدث، تربط بينها طائفة من التقنيات كالسرد، والوصف، والحبكة، والصراع، إلا أنه أغفل أهم سمة تتميز بهما الرواية عن أجناس أخرى عديدة، وهي سمة (رؤية العالم): كواحدة من البنى المركزية للعمل الروائي متضافرة مع رسم وبناء شخوصها وتحليل بنيتها النفسية والإجتماعية و التاريخية، فهذا مما يؤكد صعوبة تحديد بنية الجنس تحديداً كاملاً ونهائياً..