لازمتني النظارة الطبية للاستعمال الدائم منذ فجر صباي وطيلة نصف قرن من الزمان ولا أقول إنها لازمتني ملازمة الظل، فالظل لا يظهر إلا تحت الضوء ولكن هذه النظارة لازمتني ملازمة الجلد، فهي رفيقتي آناء الليل وأطراف النهار، وفي حلي وترحالي وغدوي ورواحي. وبما أنه لابد من تجديد هذه النظارة من حين الى آخر فقد كنت من بين المترددين الدائمين على مستشفى العيون بالخرطوم الذي تحول اسمه اليوم الى (مستشفى عبد الفضيل الماظ) ذلك الثائر السوداني من أبطال جمعية اللواء الأبيض (1924م) الذي لقي ربه مدافعاً عن حرية بلاده وهو يطلق النار من مدفعه ولم يستطع المستعمر الإنجليزي إسكات نيرانه إلا بعد أن هدَّ عليه سقف المبنى. والماظ شهيد من شهداء الحرية وجدير بأن تخلد ذكراه في هذا الصرح الطبي العظيم. والحق يقال إن هذا المستشفى وبفضل الإدارات المقتدرة المتعاقبة من الأطباء ظلَّ يشهد تطوراً متواصلاً. وبفضل الله تجرى الآن ثورة حقيقية لتأهيل هذا المستشفى ليحتل مكانه اللائق به بين المشافي العصرية الذي يسير سيراً حثيثاً لمزيد من التجويد في مجال توفير العلاج والدواء وإجراء العمليات التي أصبحت تجرى معظمها برسوم رمزية، فعلى سبيل المثال تكلف عملية إزالة المياه البيضاء خمسة جنيهات فقط وهي عبارة عن رسم دخول المستشفى وحققت هذه العمليات قدراً كبيراً من النجاح. وهذا المستشفى يستقبل زهاء المائة وخمسين من المواطنين يومياً وشهدت بيئة العمل تحسناً لا تخطئه العين. ونسأل الله تعالى أن يسدد خطى إدارة هذا المستشفى العريق لتقديم المزيد لخدمة المواطن. وخلال الأسبوع الماضي أشار اليَّ أحد الإخوة بزيارة مجمع مكة لطب العيون التابع لمؤسسة البصر الخيرية العالمية حيث أشاد به أيما إشادة قائلاً: إنه أجرى عملية قبل عام لإزالة المياه البيضاء في أحد أفضل مستشفيات دول الخليج، وذكر أنه ظل فيما بعد يعاني من آثار تلك العملية طيلة ستة أشهر. وعندما قدم الى السودان شعر بالحاجة الى إجراء عملية مماثلة بالعين الأخرى في مجمع مكة وتم إجراؤها له بتقنية الليزر وعملت له عدسة لاصقة وما هي إلا أيام قلائل حتى استردت عينه كامل قوة إبصارها دون أي آثار جانبية للعملية. وبناءً على نصيحة ذلك الأخ توجهت الى مستشفى مكة في الصباح الباكر، وما أن ولجت الى الداخل حتى وقفت مأخوذاً مبهوراً بحداثة المبنى وبهائه ونظافته الفائقة. فقلت لنفسي إن هذا المستشفى حقاً لا يقل روعة وجمالاً عن مستشفيات الخليج العصرية التي شهدتها. وأُعجبت أيما إعجاب ببيئة العمل الراقية وتوفير سبل الراحة للعاملين والمرضى. وشكرت المولى جل وعلا صاحب الجود والكرم كثيراً على ما ساقه من خير لنا -معشر شعب السودان - على أيدي هؤلاء الخيِّرين الكرام البررة وابتهلت الى الله أن يجعل كل ذلك في موازين حسناتهم. وفور وصول المريض الى ذلك المقر الجميل الأخَّاذ يقوم بسداد الرسوم الزهيدة المقررة وسرعان ما يتم إدخال كل المعلومات والبيانات الخاصة به وخلال وقت وجيز في أجهزة الحاسوب وتعطى نسخة منها للمريض ليدون عليها فنيو البصريات وإختصاصيو العيون الذين يقابلهم المريض كل نتائج فحصهم وتشخيصهم الى جانب العلاج الذي يقرره الطبيب. وفي نهاية المطاف تعاد استمارة بيانات المريض الى قسم الأرشيف، حيث تحفظ بنظام تام وحرز أمين وفق أحدث ما توصلت إليه الأرشفة العالمية ويعطى المريض بطاقة للمراجعة في المرات القادمة تحمل رقم ملفه ليستخرج خلال دقائق معدودة. كم كانت سعادتي غامرة حين ألفيت شبابنا وشاباتنا من الفنيين والأطباء يؤدون واجبهم الإنساني جنباً إلى جنب مع علمائنا من كبار الأطباء بصبر وأناة ويستخدمون تلك الأجهزة الحديثة في براعة ومهارة ودقة. وأسعدني أن الأجهزة المستخدمة في قسم البصريات غدت أجهزة رقمية مزودة بجهاز التحكم عن بعد - ولم يكن لي عهد بذلك من قبل - لا في المشافي العامة أو الخاصة بالسودان. والمعروف أن أداء هذه الأجهزة العصرية أكثر دقة في تحديد الأمر المطلوب. وفور الفراغ من كشف البصريات تحولت الى مقابلة الطبيب وسعدت أيما سعادة عندما وقفت على تلاقح خبرات كبار العلماء من أطبائنا بخبرات الشباب. وفي غرفة الطبيب تجري الطبيبة المساعدة الكشف بالأجهزة الرقمية الدقيقة وتدوِّن نتيجة فحصها ثم يجلس الطبيب العالم بنفسه للوقوف على العلة وتشخيصها ووصف الدواء. ولمزيد من التدقيق أمر الطبيب بعد فحص حالتي بإجراء فحص بالأمواج الصوتية للعين فوجدت جهازاً رقمياً يكشف للطبيب المداوي كل كبيرة وصغيرة عن العلة. وعند فراغ الطبيب من تشخيص حالتي بعد فحوصات مستفيضة وعقب وصفه الدواء غمرتني حالة من الطمأنينة والسعادة. وقلت لنفسي (لم أكن أتصور وجود مثل هذه المؤسسة الطبية الخيرية الرفيعة المستوى في بلادنا أو في أي بلد من بلدان العالم الثالث وكنت أحسب أن الثراة والمقتدرين فقط هم الذين يطيرون الى دول العالم الأول للحصول على مثل هذه الخدمات الطبية المتفردة). وبحمد الله وجوده وكرمه أصبح بوسع الغني والفقير على حد سواء أن يتمتعا بالرعاية الفائقة التي غدت في المتناول على أيدي أناس ملأ نفوسهم التواضع الجم والسماحة والبشاشة وسعة الصدر. وقبل أن أغادر المبنى وأنا في خضم تلك المشاعر الجياشة وبعد إعادة ملف النتائج والكشف الطبي الى قسم الأرشيف، استوقفتني الحاسة الصحافية فتساءلت: (لماذا لم ينقل لنا المسؤولون في هذا الصرح الطبي العظيم هذا الواقع المذهل والإنجازات الهائلة؟ ألا يوجد قسم للعلاقات العامة بهذا المستشفى؟) وعدت أدراجي وسألت موظف الاستقبال عن ذلك فدلَّني على أن قسم العلاقات العامة موجود بالطابق الأول. وما أن دلفت الى تلك المكاتب الأنيقة حتى ألفيت شباباً تعرفهم بسيماهم. ولم يخنِ حدسي فما أن علموا أني زميلهم من قبيلة الإعلام حتى قابلوني بالبشاشة والبشر والترحاب وحدثوني حديث الإختصاصيين عن كل كبيرة وصغيرة في هذه المؤسسة العلاجية الباسقة، وأدركت على الفور أني في حضرة رجال في قامة هذا الصرح الخيري الكبير، وعندما بادرتهم بالسؤال عن أسباب عدم إصدارهم لدورية تنقل الى المواطن السوداني والمهتمين بطب العيون هذا الواقع الجميل والتطورات التي يشهدها بانتظام. وسرعان ما شفى ردهم غليلي حين قدموا لي مجلة أنيقة تحمل اسم (البصر) صدرت حديثاً حافلة بالموضوعات العلمية وتوضح الجهود المبذولة لمكافحة أمراض العيون والعمى بالسودان وتضمنت استعراضاً للتحديات التي يواجهها القائمون بالأمر. ولا شك أن مجلة (البصر) خطوة جيدة تسهم في نشر البحوث والدراسات الطبية ونشر ثقافة طب وجراحة العيون الى جانب التوثيق للأعمال الرائدة والتجارب الثرة في هذا المضمار لتشكل إضافة حقيقية الى المكتبة الطبية السودانية ويرأس العاص أحمد كامل مجلس الإدارة أما نائبه فهو أمير يوسف أبوقرون ومدير العلاقات العامة هو أبوعبيدة مختار ورئيس التحرير لؤي أمين السيد ويتولى عبد الحليم أحمد عمر إدارة التحرير. وعلمت أيضاً أن مؤسسة البصر الخيرية حرصت على إنشاء مكتبة متخصصة وحديثة تهدف الى مواكبة التطورات العلمية وما يقدمه المختصون في هذا المجال عبر المراجع الحديثة (الورقية والإلكترونية) بالإضافة الى موقع إلكتروني على الانترنت albasar-Sudan.net الى جانب الأسطوانات العلمية بالحاسوب مواكبة للنقلة النوعية التي يشهدها العالم. كما ظل مجمع مكة يشهد تطوراً مضطرداً في مجال التخصصات الدقيقة لطب العيون، حيث تمت إضافة قسم محجر العين وعيادة الشبكية وتوسيع عيادة الجلكوما. وتم تزويد المجمع بأجهزة طبية حديثة في غرف العمليات والعيادات. وأحاطني الإخوة في قسم العلاقات العامة علماً بشأن نشأة هذه المنظمة فقالوا إنها إحدى المنظمات غير الحكومية التي تأسست بالمملكة العربية السعودية، التي أُنشئت بغرض تقديم خدمات الرعاية الطبية لمرضى العيون بالدول الفقيرة والنامية في كل من إفريقيا وآسيا وذلك في العام 1989م. وابتدرت المنظمة أنشطتها بمخيمات مجانية بدولة باكستان العام 1989م ومن ثم توسعت أنشطتها لتشمل دولاً آسيوية أخرى ومعظم دول شمال ووسط وغرب إفريقيا تقريباً وأقامت حوالى (673) مخيماً مجانياً تم خلالها إجراء الفحص على حوالى (2.32) مليون شخص وشارك فيها زهاء (201554) من الأطباء المتخصصين والكوادر الفنية والإدارية المختلفة واستطاعت المنظمة أن توسع من خدماتها الخيرية وكللت جهودها بافتتاح (14) مستشفىً على مستوى العالم، (8) منها بإفريقيا وفي السودان وحده (6) مستشفيات ومستشفى بكل من النيجر ونيجيريا. وإني على يقين بأن هذه المؤسسة الطبية الخيرية إذا ما رأت توسيع نطاق خدماتها في أرجاء السودان وناشدت الولايات بدعم جهودها فإن كل ولاية سوف تبادر بتشييد مستشفى للعيون بأحدث المواصفات على أن تمدها المنظمة بالكوادر الطبية والأجهزة والإداريين. وبالرغم من أن الحلف بغير الله لا يجوز إلا أن جيل الأمهات والحبوبات كان كثيراً ما يحلف بالعيون والنظر، ومضى شاعرنا الغنائي أبعد من ذلك حين قال (بعيونه حلفوه ولما يحلف صدقوه) إشارة الى أن البصر نعمة ثمينة بل هي أم النعم. أدامها الله على الجميع.