يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    الأمم المتحدة: آلاف اللاجئين السودانيين مازالو يعبرون الحدود يومياً    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القاص الروائي الناقد عيسى الحلو في حوار الثقافة والكتابة
نشر في الرأي العام يوم 24 - 06 - 2012

«عائشة بت سعيد».. والمعلمة «مدينة البدري» ساهمتا في أن أجد الصلة بين ما أراه في واقعي اليومي وما يتجاوزه لا أنتمي لايدلوجيات سياسية منذ الاستقلال وحتى الآن ليس هناك
نقد بالمعنى العلمي حيث غياب المنهج وحيث الانحراف من الموضوعية الى الهوى
الكارثة كلها تأتي من أن الثقافة في السودان ليست صناعة
المبدعون في العالم ليسوا فقراء كمبدعي السودان والمبدع عندنا حينما يتزوج يترك الإبداع!!
لولا الحياء أمام القارئ الكريم لتركنا هذا اللاشيء.. وهذه «شغلة لعنة»..!
استطعت أن أبني بيتاً لأطفالي بعد أن وصل عمري إلى أكثر من سبعين!!
حوار: محمد نجيب محمد علي – عامر أحمد حسين
حوارنا مع الأستاذ عيسى الحلو ليس إلا مجرد محاولة للابحار في عالم مبدع ظل على مدى أكثر من أربعين عاماً يجول في غياهب السحر والجمال بحثاً عن الكنوز العميقة وشواطيء الرؤى البعيدة التي تلوِّن حياته ومضارب الابداع الثقافية ولا يزال..!
بدأ عيسى «بريش الببغاء» أول مجموعة تصدر له في منتصف الستينات والتي كتبها وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره وتبعها بمجموعته الثانية «اختبيء لأبحث عنك» وفي نهاية التسعينات صدرت روايته «صباح الخير أيها الوجه اللا مرئي الجميل».. ثم في عام 2010م اصدرت له دار مدارك روايته «عجوز فوق الارجوحة».. وهو يعمل الآن على رواية جديدة ومجموعة قصصية ومؤلف آخر عن الثقافة السودانية.. ولا شك ان إسهامات الحلو لا تقتصر على اضافاته الابداعية فقط انما تمتد الى دوره الرائد والمميز في الصحافة الثقافية والمجلات التي يعود لها الفضل وله في اكتشاف الكثير من الأصوات المبدعة التي ساهمت ولا تزال في رسم خارطة الثقافة السودانية.. جلسنا الىه ما بين مكتبه – بالرأي العام – ومنزله, وكانت هذه بعض الحصيلة التي ستتواصل لأكثر من حلقة, لعلنا.. وعساكم..!! نبدأ من البدايات الأولى.. متى وكيف وماذا عن الحروف الأولى؟! - البداية لم تكن اختياراً واعياً للكتابة بل هو تواطؤ تفاصيل تجمعت وكونت ما يمكن ان يكون واقعاً للكتابة.. وهنا أحب أن اسجل اعتراض على أن الكتابة يسببها سبب وهمي في رأيي.. وهو ما يسمونه دائماً بالموهبة.. حتى انني كنت استغرب لما كتبه ناشر كتابي الأول «ريش الببغاء» على الغلاف الأخير «لأنه يقوم على موهبة».. أنا اعتقد ان كل الناس موهوبين وقادرين على الكتابة, ولكن الكتابة أو الفن عموماً ليس هو خياراً من بين خياراتهم, فالقول بأن الكاتب موهوب هو محاولة لاعطائه صفة «الانسان الممتاز» ولكنني أرى أن الكاتب أو الانسان عموماً هو انسان عادي عبر الفن يبحث عن أشواق انسانية عميقة ووجودية تعتمر صدور كل البشر.. أما ما يفعله الانسان العادي كما يسمونه فهو يبحث عن ذات الأشياء الميتافيزيقية التي ذكرناها عبر حرف وأفعال واقعية ملموسة.. فما يفعله الفنان بمزاولة الفن هو الكشف عن معنى هذه الحياة وعما بعد الحياة.. وهذا أيضاً ما يفعله الانسان العادي عبر فعله اليومي الواقعي.. نعود للحديث عن ملامح التكوين الأولى؟! - في البداية كنت استمع بشغف الى العجائز الذين يروون لي القصص كحبوبتي «عائشة بنت سعيد» وكالأستاذة «مدينة بدري».. تنقلني هذه الأحاجي أو القصص التي استمع اليها الى عالم مسحور وأحاول عبر دهشتي الطفولية الانسانية أن أجد الصلة ما بين ما أراه في واقعي اليومي وما هو يتجاوز هذا الواقع اليومي في أفكار عديدة تتخلل هذه الحياة «كالموت, والزمن, والمكان, والكراهية, والحب, والقوة, والضعف» وكل هذه الشروط التي تحيط بالانسان.. وفيما بعد التقيت بعمر الدوش ومحمود محمد مدني وكانا يكتبان؛ وكنت معجباً بهما وكما تقول سيمون دي بفوار «إن الاعجاب هو وأد بالتقليد» ومن هنا بدأت بالكتابة تقليداً لهما, لأنهما في ذلك الوقت كانا كاتبين مشهورين وفيما بعد عبر استمراري في الكتابة حاولت أن اكتشف الدوافع الأكثر قوة, وحاولت في نفس الوقت أن اكتشف قدراتي في الكتابة فوجدت نفسي أمام مأزق كبير جداً.. هو انني بعد أن باشرت كتابة القصص لم أكن قد قرأت نموذجاً قصصياً ما.. وهذا هو ما لخصه القاص الناقد عثمان الحوري في جريدة الأخبار عام 1967م عندما قرأ مجموعة «ريش الببغاء» التي تعبِّر عن هذا الموقف الذي وصفته لك فقال انها قصص «بلا سلسلة فقرية».. وهو يعني انها مكتوبة دون تمرُّس على كتابة القصة.. هذا لفت نظري الى الاهتمام بالشكل القصصي فأسرفت في الوقوف عند الشكل, وأخذت كتاباتي منحى التجريب المستمر بحثاً عن شكل قصصي مختلف, ومن الغريب جداً أن الذين كتبوا عن مجموعة ريش الببغاء كلهم كانوا يقولون انها تجربة متفردة.. وربما كان هذا القول الايجابي والذي لم أكن اتوقعه قط, كان بسبب أن القصة في الستينات قصة تقليدية وكانت تخشى المغامرات في الشكل هذا من جانب, الى جانب انه في ذاك الوقت كان نفوذ الاتجاه الواقعي الاشتراكي في الكتابة قوياً جداً بسبب ارتباطه بحركة التحرر السياسي التي عمت المنطقة العربية والافريقية, فكانت الأولوية للمضامين وكانت القصة الجيدة هي ذات الموضوع الاجتماعي السياسي النضالي.. واذا عدنا مرة اخرى الى الأسباب الحقيقية بالاشادة ب»ريش الببغاء».. جاء هذا بسبب صراع الاتجاهات الابداعية والسياسية.. فالاشادة كانت مكايدة من جانب ضد الآخر.. وما أثر ذلك عليك أستاذ عيسى؟ - أقول لك هذا سبب نزوعي للتجريب من ذاك الوقت حتى الآن.. الآن يظهر هذا الموقف النقدي السلبي تجاه أعمالي مجدداً في أن ما اكتبه من قصة أو رواية ينحو منحىً فلسفياً مما يجعل النص صعباً ومن ثم ينحرف النص عن الأدبية الى الفكرية وهذا أيضاً ما قاله الناقد عبدالقادر محمد ابراهيم.. اذاً ما هو رأيك؟! - أرى انه من غير الموضوعي أن أتولى الدفاع لأن هذا يجعل الموقف برمته هو ضرب من المحاكمة وعندي أن هذا الذي يدور هو حوار مشروع, فمن حق الكاتب أن يكتب, ومن حق الآخرين أن يقولوا عن هذه النصوص ما يرون انه يستحق القول, ولكنني يمكن أن أجيب على سؤالك من حيث الموقف النقدي المبدئي.. أولاً انا اكتب من منطلق انني اختلف مع السائد والمستقر من النصوص.. أنا لا اكتب مجاوراً لها ولا موازياً.. ولكنني اكتب في تقاطع معها, أنا لا اكتب لانني أريد الشهرة, فالشهرة نتيجة وليست غاية.. على كل من المبدعين أن يبدع نصه وأن يضع نصه هذا في جوار النصوص المنتجة في العصر أو تلك النصوص الكلاسيكية التي تعتبر مرجعيات جمالية, وعلى النص وحده أن يحاور هذه النصوص, قد ينهزم النص الآن, أو قد ينتصر غداً, هذه أشياء لا تعنيني.. يعنيني أن اصنع نصاً قادراً على الحوار سلباً أو ايجاباً ومن الطبيعي أن هذه النتيجة «السلب أو الايجاب» تحددها الثقافة العامة القومية التي يكتب داخلها هذا النص.. المسألة ليست كاتب جيد وكاتب رديء.. هي مسألة نص أهو رديء.. أم جيد؟ وفقاً لأية مرجعيات.. هذا هو السؤال النقدي الكبير المهم.. وهذا يستلزم أخلاقياً وفكرياً أن تكون الاسئلة هذه كلها منطلقة من موقف عقلاني موضوعي ولهذا أقول لك.. أنا اتفق في أن نصوصي «الدرامية» تنطلق من مقولات فكرية كما يفعل الروائي المعاصر التشيكي ميلان كونديرا أو الايطالي المعاصر البرتو مورافيا أو كما كان يفعل الفيلسوفان الوجوديان جان بول سارتر وكامو, فكل هؤلاء يأتون بأفكار ينبني عليها الموقف ثم تتناسل الأفكار مكونة حواراً فكرياً تجريدياً ودرامياً وهذا ما يسميه كونديرا بالتعليب كما يفعل الموسيقيون حينما يأتون بأفكار موسيقية ويربطونها من خلال حوار النغم ما يسمى «الكونتر باص» الذي ينظم كل الأفكار النغمية في اطار الهارموني والنسق.. وبالطبع هي محاولات لا اتوقع انها تنجح من المرة الأولى فحتى وإن أتت الرواية فاشلة فهي في نظري أفضل من رواية ناجحة بقوانين القاريء غير الكفء والعاجز عن محاورة النص.. وهذا سؤال مهم أوجهه للنقاد الآن لمن يكتب الكاتب؟! أعني لأي قاريء؟.. فمصطلح قاريء مصطح عظيم الاتساع وقابل للتشويش.. فليس هنالك قاريء واحد قطعاً, وفي النقد الحديث ذات السؤال عن القاريء الذي يتوجه اليه النص.. أهو القاريء المؤلف؟ أو القاريء المسرود له؟ أو القاريء المفترض أهو القاريء الذي يمثل جمهور الكاتب!! أهو القاريء الايدلوجي؟! كما ذكر هاردلوم في مقالته النقدية الكبرى قلق التأثر حينما حاكم الشعراء الذين أتوا بعد ملتون.. هذا الشعر.. لأنهم أتوا بعد ملتون وحاولوا أن ينحرفوا بقصيدة ملتون عن مسعاها ليحل محلها مسعى قصائدهم هم.. الاسئلة هنا كثيرة لو أثرناها للنقاش لاثرينا هذا الطرح كله ذاتياً وموضوعياً ولرفعنا من الطرح الذاتي الى مستوى الأطروحات الفكرية الجادة وهذا ممكن.. أستاذ عيسى.. نلاحظ انه ليس لديك نشاط وسط الساحة الثقافية من حيث حضورك في الندوات أو تولى مسئوليات داخل الكيانات الثقافية؟ - أنا أعمل وفق تقديري لقدراتي.. قد يكون تقديراً خاطئاً أو سليماً ولكنه يخلو في النهاية من سوء النية.. فأنا لا أحب هذا النوع من العمل العام.. بمعنى انه ليس لديِّ حافز شخصي وفي نفس الوقت هنالك من هو اقدر مني واكثر فائدة لمثل هذا العمل..! فلماذا اشغل مكاناً هنالك من هو أجدر مني واكثر كفاءة في ادارته؟؟, فهذا يضر بالعمل العام ويضر بالعضوية التي انتمي اليها والتي اهتم بأوضاعها المعيشية والابداعية والى آخر حقوقها وواجباتها.. وهل امتناعك هذا يعود لموقف سياسي؟ - ليس لديِّ موقف سياسي بالشكل الشائع والمفهوم للموقف السياسي.. اعني انني لا انتمى لايدلوجيا سياسية منذ الاستقلال حتى الآن.. ولكنني كمواطن تكون لدى رؤية داخل الموقف الذي تحيطه ملابسات سياسية.. تكون رؤيتي أكثر تلقائية ومستمدة من كوني مواطن سوداني ينتمى الى الثقافة السودانية التي أهم ما فيها تقدير الاعتبارات الأساسية أخلاقياً وفكرياً, لهذا الموقف, فأنا مع السلام والتسامح والحوار الديمقراطي دون المواجهات والمصادمات التي تؤدي الى حرب طاحنة.. وأسألك عن الآراء في الكيانات السياسية والكيانات الثقافية؟ - الآراء في الكيانات السياسية والكيانات الثقافية رغم انها تتجاور في فضاء ديمقراطي الا انها تتجاهل المبدأ الأساسي لتجاورها وهو الحوار الديمقراطي.. الحوار الديمقراطي يعني أن تتنازل لي عن بعض من حريتك وأن اتنازل لك بالمثل ولكن المشكلة أن كل منا يريد حريته بالكامل وهذا ما يصنع مواجهات تؤدي للعنف حينما تلغي الأنا الآخر.. واذا نظرت الى تاريخنا العربي المعاصر ترى أن المسألة كلها إلغاءات «يا دنيا ما فيك الا أنا».. وهو فضاء لا يساعد على الابداع الفذ الفكري والسياسي والاجتماعي بل لا يساعد على صناعة انسان المستقبل ناهيك عن كتابة القصص والروايات والأغاني.. هل يعني هذا أن نؤسس منهجاً نقدياً جديداً.. ما رأيك في المناهج الموجودة اصلاً؟! - ليس هنالك نقد بالمعنى العلمي الدقيق – حيث غياب المنهج وحيث الانحراف من الموضوعية الى الهوى وحيث سيرة الايدلوجيا والاخوانية وصراع طبقات الكتاب «كاتب درجة أولى, كاتب درجة ثانية, كاتب درجة ثالثة».. فكما ترى اننا في ثقافتنا اننا لا نحب النقد.. لكل منا صورة عن نفسه لا يتنازل عنها اذا كانت صورة حقيقية أو متوهمة.. هذه الاشكالات تعوق النقد لا سيما أن المجتمع نفسه يمر بفترات من الانتماء من القبيلة الى الطبقة الى الفئة.. فمثل هذه الانتماءات حينما تسيطر على الوجدان المبدع فهي «تحزِّبه» وتبعده عن الموضوعية والحيادية.. وهذه مشكلة.. ويبدو أن الانسان مطلقاً بما انه يرى ذاته في عمله فهو يريد لذاته هذا التفوق الذي يشرع للآخرين ويجبرهم على أن يذهبوا ذات المذهب.. كما ترى انها مجموعة من الأسباب التي تعوق النقد ولكن الفكر اذا ما وجد فضاء الحرية يستطيع أن يتجاوز هذه الصعوبات كما يفعل الفكر في كل انحاء العالم.. وانا اسألك لماذا تخلو ساحتنا الثقافية والفكرية من المفكرين أصحاب النظريات والأطروحات الكبيرة والنصوص الضخمة التي تصنع حضارات وتصنع أمماً.. لماذا؟ لكل هذه الأسباب.. الى جانب السبب الأهم هو غياب الحرية؛ عندنا مشاريع كبيرة للمفكرين ولكن علينا أن نعطيهم هذا الفضاء ولعل هذا ما يجعلنا دائماً في مقاعد الدرس تلاميذ على الأدب والفن والفكر خارج الحدود.. ولك أن تتأمل معي ما اطلقناه على المطربة السودانية الكبرى «عائشة الفلاتية» عندما ندعوها أم كلثوم السودان وقد علمنا الطيب صالح في هذا الصدد درساً هو الطيب صالح السودان.. ما الحل إذن.. أو كيف تراه؟! - ينبغي أن نترك مقاعد الدرس فالسودان له مبدعين كبار المجذوب في قامة الجواهري, محمد المكي ابراهيم وعبدالحي في قامة حجازي وعبدالصبور, عثمان حسين ووردي في قامة عبدالوهاب وفريد الأطرش, ابراهيم عوض وزيدان في قامة عبدالحليم حافظ, ابوداؤود في قامة وديع الصافي.. والقائمة تطول.. يا أخي هنالك خدعة كبرى في ان المراكز الثقافية العربية الكبرى دمشق, القاهرة, بيروت, بغداد تصنع الثقافة والسودان وموريتانيا والصومال وتشاد تقرأ.. هم ينتجون ونحن نستهلك.. ولكن ثقافة الهامش العربي اكتشفت هذا «التسفيل» أن تكون تلك العواصم هي الأعلى وأن تكون العواصم الأخرى هي الأسفل طبعاً لأننا في الهامش الثقافي العربي الدولة الأكثر فقراً والذي تتغذي من «الشفاهة».. وليس من الكتابة.. والدول التي لم تبدأ بعد صناعة الثقافة والسيطرة على هذه الأسواق فنفوذ الكاتب العربي الذي
يأتي من هذه العواصم هو اكثر سطوة.. ما رأيك لو قلت لك إن أدنى الكتب مبيعاً في مكتبات الخرطوم هي الكتب السودانية وأن أعلاها للكتاب العرب الذين تتمتع عواصمهم بوجود سياسي كثيف ما بين الخليج والمحيط؟!.. اذاً علينا أن نصنع فضاءات ابداعية سودانية في الرواية والقصة والشعر والموسيقى وصناعة المجلة والكتاب والمسلسل والكاسيت وأن نبني فضائية ذات تأثير كوني وأن ننهض بكل الأجناس الثقافية لأنه لا يمكن أن ينمو أي جنس دون نمو الأجناس الاخرى.. ولا يمكن لهذه الأدوار التي ذكرناها أن تتعالج إلا عبر هذه الخطط والأدوار السياسية أن تؤسس نقداً جيداً.. فضاء للحرية حتى تحصل على المفكر الجيد ونحصل على هذه الصناعة الثقافية.. الخطوط القاص الروائي الناقد عيسى الحلو في حوار الثقافة والكتابة
على جائزة زين للطيب صالح أن تؤسس نفسها وفق استراتيجية متكاملة حتى تلعب دورها عالميا
أستاذ عيسى.. حدثتنا ذات مرة عن الفاقد الابداعي ماذ ا تعني؟! - من المدهشات عندي ظواهر الآن في الساحة الثقافية.. مثلاً يدهشني ان مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي مثلاً يقدم لنا في كل عام تحت مظلة جائزة الطيب صالح قاصاً جديداً وروائياً جديداً وتطبع لكل منهما كتاباً ولكنا بعد هذا لا نرى لهذه الموهبة أي أثر على الساحة الثقافية لأن الجائزة أصلاً وضعت لاكتشاف أصوات مبدعة تنضاف الى التيار العام.. أما جائزة الطيب صالح عند مؤسسة زين للاتصالات فقد اقتصرت الأمر في دورتها الأولى على النقد والرواية والقصة ثم حاولت أن تستدرك الأمور فقدمت الترجمة, وكان ينبغي ان تكون هناك استراتيجية كاملة منذ ضربتها الأولى تؤسس لجائزة كبرى تستطيع ان تنافس الجوائز العربية والعالمية «آل عويس» «نجيب محفوظ» و»نوبل» و»البوكر» و»البولتذر».. الخ وهذا لن يكون إلا اذا طبقت هذه الجائزة بالمقر الأم الخرطوم.. هل تفسر لنا أكثر؟! - الخرطوم لها ميزة انها عاصمة ثقافية عربية افريقية هذه واحدة, والثانية ان نصنع من هذه الجائزة فضاءا لتطوير الرواية السودانية التي هي «عربية افريقية كونية» لا أن نضع في الحسبان اننا مشغولين حقاً بالاهتمام بالدول العربية, فهذه لها منابرها, ولها جوائزها, ولها نقادها فهي لا تحتاج الينا.. وارجو ان اركز على ان الرواية السودانية فضاؤها هو فضاء ثقافتنا السودانية والكونية اذاً على هذه الجائزة ان تؤسس نفسها وفق استراتيجية متكاملة حتى تلعب دورها في المنطقة دولياً وعالمياً.. الأستاذة بثينة خضر قالت انك كنت من ضمن من قيموا رواية «الجنقو مسامير الأرض»؟! - أنا لم اقرأ رواية للنشر عبر المصنفات الفنية إلا رواية عثمان الحوري «جبل الحسانية» وأجزتها.. لأنها رواية بديعة مضموناً وشكلاً.. ثم رواية لكاتب مبتديء طلبت ان تعاد صياغتها.. وأنا مندهش لما أثارته الأستاذة بثينة خضر مكي رغم انه ضار جداً ان تفضح الذين يتعاونون مع مؤسساتها بوصفها عضواً سياسياً ملتزماً, فهذا مثير للدهشة.. وهذا يربك الساحة.. ويضعف من حركتها في تقدمها نحو التطوير اللازم.. كما سبق وان ذكرت لك.. وبالتالي لا أرى ان هذه المسألة يمكن ان تعالج بالغضب والشتائم او ما شابه ذلك.. نحن يلزمنا التعقل فالحق حق والباطل باطل.. وأنت وفق علمي لم تلجأ للقانون في مواجهتها؟ - أنا ضد أن يقف كاتبان أمام المحاكم فهذا شيء ضد الحرية في التعبير, فيمكن إدانة الخطأ كتابة وذلك يؤكد حرية التعبير ان كان النص موضوعياً ولا يتعرض لاهانات شخصية فينبغي كما سبق وقلت لك ان نخرج من دائرة الذاتية والشخصانية والأهواء وإلا فإننالن نخرج من هذا المستنقع أبداً.. علينا ان نضبط أنفسنا.. أستاذ عيسى.. ذكرت انك لا منتمي سياسياً.. فهل انت وجودياً ايضاً لست منتمياً؟! - من الصعب جداً كما سبق وان أثرت أن يرى الانسان صورته على مرآته الذاتية.. فهو يبالغ اما ان يتواضع جداً وهذه صورة غير موضوعية وإما ان يتكبر ويغتر وهذه أيضاً صورة غير موضوعية.. اذاً ماهو المنهج الذي نتبعه حتى يستطيع أن يرى الانسان نفسه بشكل موضوعي؟! - هنالك مدرسة نقدية تبحث عن المعادل الحقيقي للنص هل هو قصد الكاتب أم قصد القاريء, بمعنى هل النص موضوعيته ترجع لمصداقية الكاتب أم مصداقية الواقع الذي يصدره النص.. هي ذات الاشكالية التي تجعل الوعي مشوشاً في ادراك الذات لصورتها.. فالوعي لا يعي نفسه كشيء ولكنه يعي نفسه عبر انخراطه في فعل.. أي يرى نفسه عبر انخراطه في الواقع.. اذاً أنا استطيع ان أرى صورتي عبر الأفعال التي أقوم بها ومن هنا بالنسبة للكاتب فإنه يستطيع أن يجد هذا التلاحم بين حياته الوجودية وبين كتاباته.. هل تعني أن ما يكتبه الكاتب هو سيرة حياته؟! - لا بمعنى أنه يدون مذكراته, لكن الكثير من وقائع حياته تكون هي المادة الخام التي يبنى عليها ابداعاته, ولعلك اذا نظرت في كتاب ماركيز «عشت لأروي» تجد ان ماركيز اعطانا المادة الخام التي صنع منها رواياته العظيمة.. ولكن رواياته العظيمة تلك ليست هي كتاب «عشت لأروي» فالاختلاف يأتي لأن هذه سيرة ذاتية وهذه سيرة عامة وبمعنى آخر يمكن أن نقول هي «تغريد العام» بمعنى يجعله «فردياً».. اسألك عن الموقف الوجودي.. عن اللحظة؟! - اعتقد أن أي انسان يعيش ثم يعقلن ماعاشه وليس العكس وان نفكر قبل ان نعيش اللحظة هذا لا يحدث إلا أحياناً, فما يقصد بالوجودية هي هذه الحالة.. هذا هو الموقف الوجودي الذي يمكن أن أكون قد انطلقت منه.. أستاذ عيسى يعتبر من ضمن الكتاب الوجوديين ماقولك؟! - الوجودية كفكر وفلسفة احاطتي بها ضعيفة جداً, يمكن ان تكون هي قراءة ملخصات, فحتى كتب سارتر الكبيرة لم تطبع على مستوى جماهيري ولكن طبعت اعماله الأدبية «روايات, قصص, نقد أدبي» ووزعت جماهيرياً لأنها تبسيط لهذه الفكرة السؤال هل هناك قصة وجودية كما كتب الناقد الكبير مختار عجوبة, مختار عجوبة وجد هذه الوضعية ان كتاب كثيرون يقولون انهم يكتبون قصة وجودية فصنفهم على هذا الأساس. والسؤال المهم جداً.. الاتجاهات الابداعية القصصية نقدياً صنفت القصة وفق شكلها وليس وفق مضمونها وبناء على ذلك في رأيي الخاص ان كل قصة تكتب هي قصة وجودية من حيث المضمون «فدروب الحرية الثلاثية الروائية» وهي لسارتر استلف كما قال هو بعضاً من شكل الرواية عند الأمريكي «دوث باسوس» الولايات الأمريكية المتحدة ومن الزنجي الامريكيي بولدوين ليس هناك شكل قصصي أو روائي وجودي ولكن هناك مقولات وأفكار وجودية ربما تعرف عليها الكتاب الذين ينحون هذا المنحى من حياة المدينة.. وأنت يا أستاذ تميز مابين قصة المدينة وقصة القرية؟ - القصة التي تدور في المدينة ليست هي القصة التي تدور في القرية, بالنسبة لي كانت مجموعة «ريش الببغاء» تدور في القرية ووجدت ان هذا المكان «القرية» لا يساعدني على التجريب بمعنى ابداع شخصيات مختلفة وعقد وحركات مختلفة وحركة درامية مختلفة.. والقصة أساساً تحكمها الفكرة والموضوع.. فالفكرة والموضوع هما اللذان يكونان المنظور السردي فاذا كانت الأفكار والموضوعات المدنية الحديثة فلابد ان تدور القصة في مثل هذا المكان ولهذا اخترت المدينة بتعقيداتها في الموضوع وفي الفكرة لأن التعقيدات هي التي تأتي بالتقنيات الجديدة فتساعد على عملية التجريب.. ورغم أن الأستاذ عيسى عاش فترة من حياته في مصر الا اننا لا نجد في كتاباته أثراً لذلك المكان؟! - المكان عندي في القصة القصيرة بالذات أهميته تأتي من انه يظهر كإطار موضوعي أو فكري ولكنه لا يظهر جغرافياً لأنني لا اتكلم عن تفاصيل المكان انما عن جوهر فكرة المكان واذكر ان بشرى قال لي انه لا يهتم بالمكان في القصة ولا أدرى ان كان قد كتب هذا أو لم يكتبه ولكنني سمعته منه.. لأن المكان في الحضارة السودانية قابل للزوال في اية لحظة فهو مكان غير مؤسس فمثلاً كما قال بشرى انه لا يكتب عن محطة سكة حديد الخرطوم كمكان لأنها الآن هدمت وحلت محلها محطة جاكسون للحافلات.. فإذن المكان كمرجعية قصصية لا يمكن الاعتماد عليه في داخل حضارة متحولة ومتغيرة ولكن نجيب محفوظ يمكن ان يكتب عن حب فوق الهرم وفكتور هوجو يكتب عن كنيسة نوتردام وكولن ولسون يكتب عن الهيبز في الهايدبارك وجيمس كونرن يخرج فيلم عن تايتانك التي غرقت قبل 100 سنة.. الأفكار مؤسسة ولها مرجعيات.. أستاذ عيسى القاص والروائي لم ينل المكانة التي يستحقها ولا يزال يواجه الهجوم عليه؟! - نصوصي كتبتها في موقف ابداعي مختلف – سبق وان أشرت بأنني لا أكتب عن السائد والمستقر.. أنا ابحث عن اشكال مختلفة.. سمات مختلفة.. عن أسباب للعلل الموجودة بدقة أكثر وتشريح أعمق.. أما مسألة أن أنجح أو أفشل.. أن أجد قبولاً أو رفضاً هذه المسألة ليست بيدي.. ومهمتي أن أكتب وفق قناعتي وعلى الآخرين أن يروني بالشكل الذي يروون.. مسئوليتي تتحدد في نظرتي لما أكتب.. حتى استطعت أن أكون صوتاً نقدياً داخلياً يمكن أن تسميه «أنا الآخر».. حيث استطيع أن أرى نصوصي الى جوار النصوص الأخرى في عصري وفي زماني وأن لا أطالبها بأن تكون مثلما أكتب وأدرك أن هؤلاء الكتاب المعاصرين لي لكل واحد منهم تفرده وخصوصيته كما أنا لي خصوصيتي وتفردي وان كنت مختلفا تماماً.. أنا سعيد جداً باختلافي وسعيد جداً بالهجوم الذي اتعرض اليه لا لأنني أهوى أو استعذب تعذيب الذات.. ولكن هذا النقد يؤكد لي انني اسير في الطريق الابداعي الذي اريد لانه يعبر عني ويؤكد لي انني استطيع أن اسير في الطريق الذي اخترته وعن الكثيرين الذين قد يفتقدون الجرأة والشجاعة على رسم صورهم كما هي في الحقيقة واعتقد ان هذه واحدة من مهمات الابداع الأدبية.. اذاً كيف تفهم الهجوم الذي يواجه أعمالك؟! - يبدو ان ما اتعرض له من هجوم يأتي بسبب ضيق الزائقة النقدية فكلما اتسعت رؤية الزائقة النقدية استطاعت أن ترى الجمال والابداع في نصوصي شديدة الاختلاف.. فضيق الزائقة النقدية بسبب تحيز الذات الضيق إما لحزب سياسي أو لجماعة عاطفية أو جماعة اجتماعية أو جماعة سياسية أو ثقافية ا و لتيارها.. ولهذا فأنا اقرأ لعدد كبير جداً من زملائي وتعجبني عدد كبير من القصص والروايات ذات منطلقات مختلفة والآن أنا بصدد وضع مجموعة من المختارات للقصة القصيرة مع مقدمة لدار مدارك, اخترت لها اكثر من خمسين قصة من ابدع ما كتب كتاب السودان وسيترجم هذا الكتاب للانجليزية والفرنسية ويوزع في الخارج.. ولهذا أنا أقول بكل فخر أنا اتمتع بزائقة نقدية واسعة شاملة النظر, لا يمكن أن أكتب كتابات جيدة إلا اذا تجاوزت كل هذه النصوص المبدعة الجميلة وليس هناك كاتب واحد ولا حتى عشرة يستطيعون ان يحملوا على أكتافهم هذه المسئولية.. اذاً على مبدعي السودان أن يتحدوا وان يتجاوزوا الصغائر لأن ساحة الابداع هي أصلها لا تنهض معاييرها النقدية بشكل واضح الا اذا توفر جميع الكتاب من كافة طبقاتهم الابداعية التي تحددها كفاءتهم وقدراتهم من كتاب الطبقة الأولى والثانية والثالثة..
ملف الأيام الثقافي الذي كان يشرف عليه الأستاذ عيسى الحلو في السبعينات يعتبر من الملفات الرائدة في مجال العمل الثقافي الصحفي.. هلا تحدثنا عن تلك التجربة؟!
- فنان الكاريكاتير السوداني الكبير الراحل عزالدين عثمان كان من قيادات جريدة الأيام في السبعينات فاستدعاني ليقدم صفحة ثقافية بعد ذهاب عبدالقدوس الخاتم إلى أنجلترا.. وذهاب حسن موسى وعبدالله بولا إلى باريس وكانا يشرفان على صفحة «ألوان الفن».. فقدمت تصوراً لملحق من أربعة صفحات يعالج الأجناس الإبداعية جميعها أسبوعياً ما أمكن ذلك.. وكان النجاح الأساسي يعتمد على أن الكتاب الأساسيين في الملف «الآداب والفنون» هم كبار كتاب السودان وذلك في فترة الاتحاد الاشتراكي منهم محمد عبدالحي ومحمد المكي إبراهيم وعبدالقدوس الخاتم والنور عثمان أبكر وعثمان الحوري ومحمود محمد مدني وخالد المبارك ومصطفى المبارك والزبير على وابن خلدون وسيد حامد وأحمد الطيب زين العابدين وابراهيم الصلحي وشبرين إلى جانب رابطة سنار الأدبية ورابطة الجزيرة ورابطة أولوس ورابطة جنوب كردفان وتعبان ليولونق وعلي المك.. عموماً كل كتاب الطبقة الأولى والكتاب الشباب ونشرت فيه أجمل النصوص القصصية وقامت فيه أعمق المعارك النقدية.. هذا جزء أساسي من نجاحه.. الجزء الثاني لم نكن لننشر فيه أي مادة إلا إذا كانت مادة نموذجية.. الجزء الثالث كان ينشر لكل الاتجاهات السياسية «الفكرية والفنية» رغم أننا في فترة مايو والتوجه السياسي الواحد.. وأغلب كتاب الملف كانوا من المعارضة السياسية.. كل هذه كانت معجزات ما كان يمكن أن تجتمع.. ولكن بحساب اليوم المعجزة الأكبر كان المسؤول عن الملف الثقافي يضبط نفسه ويؤدبها بشدة فينشر الملف مقالات نقدية كانت تشتم أعماله كمقالة عثمان الحوري الشهيرة – وكانت كل الاتجاهات تجد نصيبها.. وهذه الموضوعية هي التي جعلت منه منبراً استطاع أن يرسي تجربة كتابة لفترة 16 عاماً..
هل لك أن تقارن لنا بين ذاك الملف.. والملفات الثقافية التي تصدر الآن؟!
- الاختلاف في تقديري هو اختلاف في ضوابط النشر وضوابط القيادة التي توجه الحركة الثقافية بأكملها وهي مبنية على النزاهة والمهنية والموضوعية.. وعلى أن هذا الملف يحكي حكاية وطن واحد وشعب واحد.. المنظار كان كبيراً لم يكن بهذا الضيق الذي نشاهده اليوم.. صحيح أن الحياة الصحفية والفكرية تطورت لكن الأساسيات والضوابط التي تضبط الفكر ما تزال هي نفسها – لأنها هي الحد الفاصل بين الجد واللعب.. ورغم أن الملف كان يعمل في ظل كبت حريات إلا أن كل الكتاب والمبدعين في البلد كانوا حريصين أن لا تغلق دفتي هذه النافذة فكانت البطولة هي بطولة الصمود وان يموت الشهيد وهو واقف وفي يده القلم.. يا أخي كان المشهد كبيراً جداً وعميقاً جداً وعظيماً جداً.. أما الآن فماذا أقول لك؟ الجريدة التي تسعى للكسب والترويج فرأينا ما رأينا من الهزر والعبث.. وحتى في أوائل تلك الأيام كانت المعركة بين صلاح أحمد إبراهيم وعمر مكي رغم ما بها من «سفاهات» ورغم أنها كانت تعبر عن عقل غاضب إلا أنها بريئة من سفاهات اليوم.. وذاك زمن وهذا زمن..
والقاص الأستاذ أحمد الفضل يذهب في إحدى مقالاته إلى القول إن عيسى الحلو تجاهل رابطة الجزيرة للآداب والفنون؟!
- أنا لا أتجاهل أحد خاصة لو كان في عطاء وجهد وصبر وموهبة أحمد الفضل, ولكني لست مؤرخاً.. لي اصدقاء كثيرون من كبار المبدعين لو كتبت عنهم لظلمتهم.. كنت أتعامل معهم كما أتعامل الآن مع أحمد الفضل وهو صديق وأخ وأحبه كثيراً جداً ومن الصعب على أن أنظر له بعين المؤرخ الصادقة.. كما إنني أحياناً حتى وإن كنت أكتب في مناخات كمثل هذا.. أن أحاول مهمة المؤرخ أو أن أحاول مهمة الناقد فما ذاك الا مزاج عابر يقصد التعبير عن نفسه أكثر من مسؤولية التعبير عن الزمان والرجال.. ولعل كبت شهوتي في الكتابة عن أحبائي هي حباً واحتراماً لما قدموه خلال زمانهم وعصرهم الذي أنا فخور بأنني كنت أحد معاصريه..
أستاذ عيسى.. هناك وزارة ثقافة.. وصندوق لرعاية المبدعين وكيانات ثقافية وأحوال المبدعين لا تسر القلب.. فأين المشكلة؟!
- المشكلة تأتي من الاستراتيجيات الثقافية التي نضعها بغرض النهوض بالعمل الثقافي.. هي استراتيجيات مفككة وعاجزة لا تحل المشكلة الثقافية في ترابط تفاصيلها وأجزائها.. وصندوق رعاية ودعم المبدعين عرض علينا في الهيئة القومية للثقافة والفنون قبل 12 سنة وكنت عضواً في هذا المجلس وقلت لهم بالحرف إن المسائل لا تحل بالإشفاق العاطفي فعلينا أن نكون مجلس نسميه – مجلس المبدعين – هذا المجلس يقدم مشاريع ثقافية ويساهم فيه القادرون من المبدعين أنفسهم بأسهم مالية وأن تتبرع إلى هذا المجلس الدولة بإعانة ما وبيوتات المال والفكر السودانية ثم تقوم صناعة ثقافية يخصص ريعها للانتاج, كأن يكون رأس المال وديعة لأحد البنوك يدير هذا الأمر وأن يساعد ما يحتاج للمساعدة من المبدعين من خلال هذه المؤسسة التي يؤسسها المبدعون, لكن الصندوق بهذه الصورة التي نعرفها الآن لم يفعل شيئاً ولا يملك مالاً ولا خطة.. ولا رؤيا..
إذاً هذه هي المشكلة؟!
- يا أخي الكارثة كلها تأتي من أن الثقافة ليست صناعة في السودان فبدون أن تتحول الثقافة إلى صناعة لن يتحول المبدع من الهواية إلى الاحتراف.. المبدعون في كل العالم محترفون وليسوا هواة.. ولك أن ترى هوليوود كمثال للصناعة الثقافية حيث تتجاور كل الفنون كتابة السيناريو, والأداء التمثيلي, والتأليف الموسيقي, والتأليف الدرامي, وصناعة الأزياء, والتصوير, والتلوين.. الخ.. مئات الصناعات.. السينما في امريكا هي الصناعة القومية الأولى لأنها تأخذ معها كل الأجناس الابداعية وتكون صناعة وتصدر بالدولار وتدخل لخزينة الدولة.. السينمائي الأمريكي هو الآن «بولينيير» ولك أن تنظر في الدول النامية مصر مثلاً الكاتب مكتوب في جواز سفره كاتب.. لأنها صناعة لأن أعماله توزع على العالم العربي.. كتب مقروءة, مسلسل تلفزيوني, فيلم أو كاسيت أو فيديو.. في روسيا الشيوعية كان الشاعر اف. جيمي افتشنكو يمتلك طائرة إلى جانب الفيلا إلى جانب حياة من البرجوازية الناعمة.. المبدعون في العالم ليسوا فقراء كمبدعي السودان.. المبدع في السودان عمره افتراضي وعندما يتزوج وتكبر مسئولياته يترك هذا الإبداع.. هادية طلسم هاجرت بسبب الزواج, الزبير على ترك الكتابة بعد الزواج, النور عثمان ابكر اكبر الشعراء ذهب مترجماً في الخليج ومات في الخليج مترجماً, محمد المكي إبراهيم مغترب الآن بأمريكا.. عثمان الحوري مريضاً الآن في بربر.. أنا استطعت أن أبني بيتاً لأطفالي بعد أن وصل عمري إلى أكثر من سبعين.. يا أخي هذه «شغلة لعنة».. وبعد ذلك تجد الشتائم والمهاترات كما لو كان الواحد منا يقبض ملايين الدولارات.. اللهم أرحم إخواني وأصدقائي مبدعي السودان وأعطهم السترة في الدنيا والرحمة والمغفرة في الآخرة».. والله لولا الحياء أمام القارئ الكريم الذي نحبه ونحترمه لتركنا هذا اللاشيء..!!
أستاذ عيسى.. الأجناس الإبداعية المختلفة في الساحة الآن كيف تراها؟!
- أرى أن التشكيل أفضل الأجناس من حيث الحركة التي تسعى لتطويره.. ولكن أرى أن هنالك مشكلة هي انه يقع في كثير من الأحيان في مناهج الأدب إذ يحاول أن يعطي اللوحة عنواناً وأن اللوحة تخرج مدرسة هي أقرب للأدب كمدرسة الواحد مثلاً أو مدرسة الخرطوم أو المدرسة الحروفية فلابد من تدارك هذا الخلل وذلك للاختلاف ما بين الرؤية التشكيلية والأدبية.. الرؤية الأدبية ذا مضمون والرؤية التشكيلية ليست ذات مضمون.. والنقد الأدبي في السودان أيضاً يقع في مشكلة أنه مستلب بالمضمون وبالمعادل الموضوعي الغناء في نماذجه السودانية العليا هو توجه أدبي.. يهتم بالشعر اكثر من التأليف الموسيقى واللحني والأدائي.. التمثيل يقع في مشكلة المحاكاة, محاكاة نماذج واقعية وليست إبداع نماذج.. أبدعها من قبل «الورق المسرحي»..
والساحة الثقافية تزخر بالمسابقات.. ماذا تقول عن ذلك؟!
- من عيوب المسابقات في السودان إنها تعطينا فاقداً إبداعياً على وزن «فاقد تربوي» لأن الذي يفوز يكتفي بهذا الفوز ولا يشارك في الحركة الإبداعية بإنتاج مستمر.. النشر من عيوبه وذلك لعدم وجود صناعة ثقافية ولعدم تحول الكتابة كهواية إلى الكتابة المحترفة.. نجد أن أكبر كتاب السودان ليس لديه أكثر من كتاب واحد أو كتابين على الأكثر وأن شاعراً ضخماً كالمجذوب له «4» دواوين شعر فقط.. وأن هناك كتاباً كبار جداً ليس لديهم أي كتاب وأننا نجد بين الروائيين والقاصين أكثر من ألف كاتب والمنشور لهؤلاء لا يتعدى المائة كتاب؛ إذن المنتج الروائي والقصصي والشعري والنقدي عندنا يتقدم ويتطور من حيث الكم المنشور أفقياً وليس رأسياً..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.