في غمرة انشغالي بمرض أمي لم يكن من السهل على أن أنتبه إلى (المقيل) ، و بمقدوري القول أنني لم أدرك إهمالي لها في تلك الأيام الأولى التي رأيتها فيها إلا الآن، وأنا أحاول استحضار تلك التفاصيل بعد سنوات من وقوعها، وبعد أن صرت أكثر صفاء وحياداً إزاء ما حدث، كأنني مؤرخ ينظر بلا كبير مبالاة إلى صفحات مزحومة بالوقائع أمامه، يقلبها بلا مشاعر فياضة أو انفعالات، بصفته شخصاً آخر لم يتورط حتى النخاع فيما جرى، ولم يعش داخل ذلك الخضم لحظة واحدة. إهمالي للمقيل لم يكن بسبب مرض والدتي فحسب، ولكن أيضاً لأنها كانت شخصاً يغريك بنسيانه حتى وأنت تراه بأم عينيك، كما يحدث عندما ننسي عشرات الأشخاص الذين نراهم في حياتنا كل يوم، لأنهم غير مؤثرين بتاتاً في اللعبة العبقرية التي تدعي حياتنا، ولأنهم يبدون للوهلة الأولى غير جديرين بتخصيص حيز منفرد لهم داخل وعينا، فهم ليسوا مفيدين، وليسوا مصدر خطر أيضاً، لذلك يصبحون أشبه بالأشياء منهم بالأشخاص الذين نعرفهم، أشبه بجدار مصمت، أو شيء ما على قارعة الطريق. لكن الأمر مع (المقيل) لم يكن كذلك بالضبط، فمنذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها عينيي عليها سكنت صورتها مكاناً ما في رأسي ولم تفارقه بعد كل تلك السنوات، لا تزال تقيم داخلي بجسدها النحيل، والوشمين على جانبي وجهها، والاصفرار الخفيف في أسنانها العلوية، والابتسامة التي تبدو كما لو كانت جزءاً من الأسلوب الذي نحتت وفقه جمجمتها، توحي إليك أول الأمر بأن المرأة بلهاء وتجعلك تشعر بنوع من الغيظ، إلا أنك تعود وتتآلف معها، وتمسي اللحظات التي رأيتها فيها جزءاً ذا شأن من عمرك في نهاية المطاف. كانت تقيم في السرير الملاصق لسرير أمي داخل حجرة العناية المكثفة الكئيبة بمستشفي (قسومة)، التي يوحي كل شيء فيها بأنها ليست سوى آخر نقطة في العالم، وأول طريق نحو الموت، كانت جارتنا وكنت عندما أقف عند مدخل السيوبر ماركت المواجه للمستشفي لأتناول من داخل ثلاجة العرض الباردة علبة عصير البرتقال الذي كان حب أمي له يشتد كلما زادت حالتها سوءاً وأيقنت بدنو النهاية، كأنها تعتقد أن عصير البرتقال سيحميها من مصيرها المخيف، كنت لا أنسي أبداً أن أحمل معي علبة عصير برتقال إضافية لجارتنا. كان الدواء الذي يتركه نزلاء العناية المكثفة التعساء بعد أن يفارقوا الحياة ويخرج بهم أقاربهم من باب المكان الخشبي القديم على نقالة يستغرق إيجادها نصف ساعة، يوضع في حوض بلاستيكي تحت طاولة الممرضات، وكان ذلك الحوض هو صيدلية (المقيل) الخاصة التي تمدها بدواء مرضي القلب باهظ الثمن، حتى مبلغ الأحد عشر مليون الذي كان ضرورياً لكل من يود أن يجرب حظه بالتمدد على سرير طاولة غرفة العمليات بالمستشفي، ليشق الأطباء أضلاع صدره بالمنشار الكهربائي ليصلوا بسرعة إلى قلبه المريض، حتى ذلك المبلغ الضخم لم تكن معنية به، فقد دخلت ذات صباح إلى حجرة العناية، وسألت والدتي عنها، وعرفت أنهم أخذوها منذ الصباح الباكر إلى ذلك البناء ذو اللون الأحمر، والذي تعلوه لافتة كتب عليها بالإنجليزية (مسرح العمليات). وطيلة السنوات التي مضت، كنت أسأل نفسي عن ما تراه يكون السر وراء كتابة هذه العبارة بلغة لا يفهمها معظم المرضي ومعظم ذويهم بالطبع، وأخيراُ اهتديت إلى فكرة مفادها أنه ربما كان من الخير لهم أن لا يفهموا ما يحدث. قال لي ذات مرة شخص يدرس الطب أظنه أحد الأصدقاء، أن الجراح هو ممثل كبير في واقع الأمر، تقوم مسرحيته الكبرى على إقناع نفسه بأنه كفء للعب دور البطولة في عمل درامي موضوعه الوحيد هو حياة شخص آخر، ليوقف الجراح ارتجاف أصابعه وروحه، ويتحكم في كل شيء على خشبة المسرح، بما في ذلك جميع مساعديه، وهو نفسه بالطبع. لم يكن لدى (المقيل) نقود ولا أقارب سوي شاب أتي يوم أجريت لها جراحة القلب المفتوح، وكان جلياً من مظهره أنه ليس من ذلك النوع من الأشخاص الذين يملكون القدرة على التأثير في مصيرهم الخاص، ناهيك عن مصير شخص آخر، وقيل لي أن (المقيل) كان لها زوج وأنه كان معها حتى قال له الطبيب أن قلبها معطوب، عندها مضي لحال سبيله، تاركاً زوجته بين يدي الأقدار. تلك الأقدار التي جعلت المرأة تخرج من غرفة إنعاش العمليات محمولة على سرير ذي عجلات، دحرجه العجوز الذي يشرف على مخزن اسطوانات الأكسجين حتى أوصله إلى داخل حجرة العناية، لتعود المرأة من جديد، بذات جسدها النحيل، وابتسامتها، وأسنانها الصفراء. كانت (المقيل) تحبني وكنت أحبها، وتعلمت مني أثناء إقامتها في حجرة العناية كيف تغلق صنبور اسطوانة الأكسجين الخاصة بها وكيف تفتحه، وتعلمت منها طريقتها شبه الصوفية التي تعرض كيف يمكن للمرء أن يتقبل مصيره الخاص، ولو كان الموت. لم تكن معجزة تلك المرأة أنها أقامت في أحد مستشفيات العاصمة لأشهر بلا أقارب وبلا نقود، ولا دخولها إلى مسرح العمليات وخروجها منه ومن المستشفي والعاصمة كلها فيما بعد دون أن تدفع مبلغ الأحد عشر مليون الذي يساوي حياة بأكملها في ذلك المكان، ولا حب المرضي والناس لها، ولا حب الأطباء وموظفي المستشفي الذين لم أرهم يحبون شخصاً من أمثالها أو يمنحوه عطفهم. معجزة (المقيل) الحقيقة هي موتها بصورة فريدة وعيشها بأسلوبها الخاص، وعندما ماتت كنت أبحث عن نقالة مع شخص تعرفت عليه في المستشفي لنحمل عليها جثة أخيه الذي فارق الحياة قبلها بساعة على الأكثر، ولم يكن موتها في حد ذاته مفاجئة بالنسبة لي إذ كنت أتوقعه منذ أن عادت بعد شهر من سفرها شرقاً إلى موطنها، فعقب شهور عديدة من البقاء في ذلك المكان، كنت اعرف جيداً مصير من يعود إليه ثانية. ما فاجئني وأخذ بأنفاسي منذ ذلك الوقت وحتى الآن، ولم أتمكن من تصديقه أبداً ودفعني لأن أتذكر هذه الحكاية، كان قدرة هذه المرأة التي لا تنتمي إلى هذا العالم إلا بقدر ما تنتمي إليه حبة الحصى أو الرمل، على قلب كل ما هو معتاد رأساً على عقب، لقد ساهمت في جعلي شخصاً آخر لا يكترث كثيراً لأشياء أعتدنا أن نحسبها مرعبة وكئيبة، أن لا نولي أنفسنا ومصيرنا الخاص ذلك القدر من الاهتمام الذي نوليه لابتسامة ولو كانت لا تخلو من البلاهة للوهلة الأولى، كتلك التي لمحتها على وجهها الأسمراني، وهي تتمدد على سرير بحجرة العناية المكثفة في مستشفي كئيب، بعد أن فارقت الروح جسدها.