? الدكتور عبد الله علي ابراهيم من المفكرين السودانيين المعاصرين. ما زال يشتغل بأهم القضايا الثقافية القومية تلك التي تؤثر في مجريات الشأن العام المعاصر، على مستوى الاجتماع والسياسة والآداب والفنون.. وكتاباته تثير الجدل، اذ أن البعض يريد لفكر الرجل الا ينفتح على جدلية حراك العصر. إنهم يريدون (عبد الله القديم)!! ادرنا مع الدكتور عبد الله هذا الحوار لنلقى الضوء على هذا الموقف على المستويين العام والخاص. (المحرر) --------- ? دكتور عبد الله.. كتاباتك تبحث في قضايا كثيرة، متعلقة بفترات ثقافية وسياسية سابقة، فيبدو الأمر، على نحوين، اولهما إنك تعيد قراءة تلك الفترة عندما كنت عضواً بالحزب الشيوعي السوداني. وثانيهما، أنك غيرت مواقفك الفكرية رأساً على عقب؟؟ - هناك جزء غاطس من شغلى الفكري. قد بدأت هذه المراجعة وأنا في طيات الحزب الشيوعي نفسه، بتفويضين، التفويض الأول، أنني تفرغت للعمل الحزبي كمثقف عضوي، وهو مفهوم روج له (انطونيني غرامشي) سكرتير الحزب الشيوعي الايطالي، ومهمة هذا المثقف العضوي ان يشتغل بمسائل التفكير واستراتيجيات للكادحين، وشغله الشاغل هو هدم كلما يقف في طريق التغيير الاجتماعي لصالح الكادحين، أو أية طبقة اجتماعية صاعدة. هذا المفهوم، تعلق به استاذنا عبد الخالق بعد قراءته لغرامشي، بل ربما كان هو هو الذي حفز الاستاذ (الجنيد علي عمر) لترجمة الكتاب الى العربية. وبلغ به الاعجاب بالمفهوم ان اذاعه في حديث صحفي عابر مع الاستاذ عبد الرحمن مختار. فقد وافق هذا المفهوم مأزق عبد الخالق آنذاك.وهو (كيف نحل عقدة الفكر في الحزب الشيوعي؟..) فقد نشأ الحزب على ما نسميه عموميات الماركسية. ولم نتخط هذه العموميات كثيراً. وهناك اتفاق.. في الحزب بأننا نعاني أزمة من جهة الفكر. هذا موضوع اتفاق قديم، ولذلك صح ان نعتني بهذه الجبهة ونجنبها ويلات النشاط العملي وتقحمات هذا النشاط العملي اليومي. يمكن أن نبالغ ونقول ان استاذنا كان يقصد ان نقيم برجاً عاجياً للمثقف في الحزب. وأعني بالبرج العاجي ان تكون هناك جامعة او نواة جامعة مخصصة للبحث عن الحقيقة الاجتماعية والسياسية والانسانية. ولذلك كتب وثيقة «قضايا ما بعد المؤتمر الرابع» يطلب من الحزب ان يستعد لاستقبال مثل هذا الكادر المبتكر. فلا يسأل عن مدد اعتقاله ولا عن كفاحاته.. أي الا يحاسب كالكادر الجماهيري والنقابي والمنبري، وغيرهم مما تعودنا عليه. وهذا يتطلب شروطاً جديدة للكادر المتفرغ، وأنا أذكر من تشديد عبد الخالق على، في وصفه لي (عبد الخالق) لوظيفة المثقف العضوي.. بأنني متفرغ للبحث، ولا أطمع في ان اكون في النور على المنابر ابداً. وقالها بالانجليزية (Lime light) .. هذا هو تعاقدي الاصلي مع الحزب الشيوعي. وهذه هي الشروط التي قبلت العمل بها. ولم أقبل تغييراً بها. وكان بوسعي أن أقبل التحول الى كادر سياسي دارج. واحلقم بعبارات سياسية لرفاق مشدوهين بقداستي ومستسلمين لإشراقاتي. وقد قبل بعض الرفاق ممن جاءوا على العهد الثقافي بالتحول إلى كادر منبري وسياسي. (اذكر جاءنا عبد الخالق في مجلة «جريدة اخبار الاسبوع». وكنا استولينا عليها ونحن جماعة من الشباب الغاضب من الحرس القديم برعاية عبد الخالق نفسه. فكان في حديثه الافتتاحي لنا ان ما نعض عليه بالنواجذ هو تكتيكاتنا الحالية من مراكمة للقوى بعد حل الحزب الشيوعي (6691م) وقوله هذا كان في (8691م)..ما عدا ذلك،كل شيء خاضع للاجتهاد. وبذا فتح باب الاجتهاد. لقد التزمت بهذا التفويض جداً. فقد خرجت من الحزب ولم أحضر اجتماع لجنته المركزية مرة واحدة، فلست عضوا بها. ولم يؤرقني ذلك. أقصى درجات ترفيعي أنني كنت مكاتب للجنة المركزية مثلاً التعليم الحزبي، جريدة الميدان، مكتب الأدباء والفنانين.. وكنت مطمئناً جداً لصلاحياتي والوصف الوظيفي لشغلي. وظل شاغلي ان اكتب في مجلة الشيوعي، والتي هي منبر التفكير والنظر والاعتبار للحزب الشيوعي وبدأت فيها مراجعاتي. وأحصر لك ما كتبت ليكون الأمر على «البلاطة».. كتبت أعيد النظر في أسلوب التعليم الحزبي، وكتبت أعيد النظر في مسائل الاعلام الحزبي ومنابره. وكتبت أجدد التفكير في تنظيم حركة الشباب والمرأة، وأصدرت سلسلة اسمها (كاتب الشونة) لتكون اداة التفكير النقدي لواقع الحزب والمجتمع. فكان الكتاب الاول هو «الماركسية ومسألة اللغة في السودان»، الذي نظر في مسائل الاستعلاء العرقي من جهة اللغة والرطانة، ورد الاعتبار للغات غير العربية كلغات ثقافية تامة التأهيل للنهوض بشعوبها المختلفة. كما نقدت فكرة ان تكون هناك لغة رسمية للدولة، خشية ان تصبح مصدراً للمزاج الاستعلائي. والكتاب منشور الآن في الاسواق. والكتاب الثاني كان لإزالة التصحيف في ديوان التيجاني يوسف بشير (أشراقة). ونبهت الى أن هذه الثروة القومية قد تكنفها الخطأ الطباعي والتحريري حتى غاب عنا شعر التيجاني وظهر منه الغثاء من أوهام الطباعة. وقيل لي لماذا تنشر مقالاً عمومياً كهذا في إصدارة سرية. فقلت لهم ولأنني أريد لحزبنا لا أن يعتني بالثقافة الرفيعة في السودان بصورة برنامجية بل أريده أن يراه الناس يعتني بذلك فعلياً. وأقول لك لم أر في حياتي شعر التيجاني يصح ويستقيم كما في إصدارتنا الشيوعية. ومعظم أدائي إتجه نحو التفكير السابق للنشاط الفعلي.. اذكر في يوم كنت أقرأ ماركس.. فوجدت عبارة (الاستبداد الشرقي) ويعني بها النظم المتسلطة في بلادنا، وفي آسيا الموصوفة بالشرق. فقلت في نفسي لماذا هذا التمييز؟ وما قيمته؟ ولم أتردد في وضع أصبعي على ما اعتقدت أنه مصطلح ماركسي غير سديد، وفي زمان لاحق وجدت البروفسير الراحل ادوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» قد غطى على هذه المسألة وغيرها عن ماركس كمستشرق.و السؤال هو: لماذا توقفت عند كلمة ماركس بينما كثيرون غيري مروا بها بدون التفات؟ السبب هو أنها تقع في نطاق وصفي الوظيفي.. وهو أن آخذ الماركسية بنظر ونقد وابداع. واذا نظرنا الى ما يدور في ساحة الشيوعيين الآن عن جدوى الماركسية، ستجد اتجاهاً لقبول تعديل الماركسية. ولكن بشكل عمومي. بينما ملحوظتي عن (الاستبداد الشرقي) ومثلها عن تجييز ماركس للإستعمار الاوروبي. بوصفه اداة لتغيير المجتمعات غير الأوروبية الجامدة. هذه الافكار تحتاج لكي تلتقط ثم تدور في الألسن وتنمي منهجاً لنقدها حتى ننتهي الى قول فصل حول ما نحتفظ به من الماركسية، وما نسقطه، ويكون الأمر على بينة بالدليل لا تعميماً كما نجد في جدل المجادلين. أريد أن أقول لم اتغير بعد خروجي من الحزب الشيوعي. ومتى وقف الناس على كتاباتي في هذه الفترة الغاطسة، سيجدونني ساعياً للتغيير، ممسكاً بأجندة ساخنة لترقية العمل الاستراتيجي الفكري للحزب. وقد انتهت هذه الفترة، من حياتي الحزبية حينما لم أعد أشعر بأن أفكاري هذه مرحبا بها. فأختصرت الأمر وخرجت من الحزب، محتفظاً بكل ما أعتقدت في صوابه، واستذودت فيما جد في حياتي من شغل الأكاديمية والصحافة والاحتكاك بثقافات غربية. الذين يقسمون حياتي الى فترة حسنة (عبد الله القديم) كعضو الحزب. وفترة غير حسنة (عبد الله الجديد) غابت عنهم هذه الفترة الغاطسة التي حاولت جهدي تغيير ما بأنفسنا في الحزب حتى سئمت وخرجت. ومتى عاد العائبون الى هذه الأوراق القديمة سيقفون على طبعة واحدة لشخصي الضعيف، وهي ان فكرتي في التغيير قديمة الجذور، بل هي الأصل في التكليف على يد استاذنا عبد الخالق محجوب. فأنا لست حسناً ولا قبيحاً ولكني أنا ذاتو بالذات.