تناولنا في حلقات ثلاث مفهوم الطاقة الذرية واستخداماتها السلمية ومخاطر الإشعاع الذري التي إن لم تجد التنظيم الدقيق والرقابة المستمرة من قبل المؤسسة المعنية فستصبح خطراً مُحدقاً في عالم أصبح يتسابق في إيذاء الآخر ولفظ الفضلات في أراضي الدول الأخرى، بل في وقت أصبح فيه الإشعاع سلاحاً خبيثاً لأجهزة المخابرات تستخدمه بلا هوادة في تصفية خصومها من الشخصيات المهمة، ودونكم إغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عر فات والعميل الروسي المنشق لكسندر ليتفينينكو بالسم الإشعاعي باستخدام عنصر (البولونيوم) المشع الذي تكفي بضع جرامات من بدرته تدس في طعام أو شراب الشخص ليموت بالتسمم البطيئ دون أن يعرف معالجوه أُس علته ليجدوا له دواءً، وما هي إلا فترة ما بين شهر إلى أربعة أشهر ليتسمم تماماً ويفارق الحياة، فهيئة الطاقة الذرية السودانية تضطلع بالدور التطويري للاستخدامات السلمية التنظيمي والرقابي تحت عضوية ونظم الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تسند الدول الأعضاء في الكثير من المجالات التدريبية واللوجستية من معامل وأنظمة وتمويل للبحوث، فضلاً عن اللوائح والمراشد التي تمثل خلاصة البحث والتجارب وتراكم الخبرة في مجال السلامة الإشعاعية للإنسان العامل وغير العامل والبيئة بكل مكوناتها، لكن تلك النظم والضوابط ما لم تحوّل إلى قوانين ملزمة ورقابة صارمة، وهو ما يعوذ هيئة الطاقة الذرية السودانية التي هي من أوائل الهيئات القطرية التي تأسّست في العالمين العربي والأفريقي، الهيئة لها جهودٌ كثيرةٌ في مجالات توطين التطبيقات السلمية، لكن الذي يعنينا هنا هو أحد ركائز السلامة، معهد السلامة الإشعاعية المعني بإعمال الضوابط والرقابة على الأنشطة والموانئ بغرض حماية الإنسان والبيئة من المخاطر الوافدة في البضائع والأغذية، والمعهد الذي يقارب عمره خمسة عشر عاماً، جهوده واضحة فيما يتاح له من إمكانات وسلطات ودونكم الخبر الذي تناقلته الصحف عن ضبط حاوية بها محتويات ملوثة بالإشعاع في ميناء بورتسودان وإرجاعها من حيث أتت، لكن الذي يحتاجه هو السلطة الكافية والإمكانات الوافية، فلننظر إلى التطور التشريعي فيما يلي القوانين المنظمة للتداول والتعامل مع المواد المشعة. أول تشريع كان (قانون تنظيم العمل بالإشعاعات المؤينة لسنة1971م) وهو القانون الذي يحمل الرقم (40) ودخل حيز التنفيذ 1974م والذي سبق قيام الهيئة، وبالتالي حصر كل الموضوعات في النطاق الطبي وجعل السلطة العليا في ذلك للسيد وزير الصحة، فيما جعل المرجعية الفنية في المجال الإشعاعي مسندة لكلية العلوم بجامعة الخرطوم، وهو قانون قاصر عن شمول مجالات الإستخدام القائمة وقتها وليس اليوم، يكفي لقصوره ما فيه من قصر حيث احتوت كل فصوله التعريفية والتمهيدية ونماذج إستمارات الترخيص للمعدات والأفراد احتوتها عشر صفحات فقط، ولما تبيّن الخلل لاحقاً، أعيد ابتدار مشروع قانون آخر هو قانون هيئة الطاقة الذرية السودانية لسنة 1996م، وغني عن التعريف أن الهيئة هي جزءٌ من مكونات وزارة العلوم والتكنولوجيا سابقاً ووزارة العلوم والتكنولوجيا والاتصالات حالياً، قانون العام 1996م اهتم بإلغاء قانون لجنة الطاقة الذرية السودانية لسنة 1972م، ولم يلغ قانون تنظيم العمل بالإشعاعات المؤينة لسنة 1971م الذي دخل حيز التنفيذ بعد قانون لجنة الطاقة الذرية في العام 1974م، فأصبح بذلك التضارب واضحاً والتناقض بيّناً، فالأول يمنح سلطة الترخيص والرقابة لوزارة الصحة والثاني يمنحها لهيئة الطاقة الذرية، فاستمرت حالة التوهان هذه ولم توقفها محاولات سابقة لإجازة قانون جديد رغم تكوين لجان عديدة لفترات طويلة بسبب تنازع المهام والإختصاصات التي أشرت إليها. حاشية: أشار السيد وزير العلوم والإتصالات في تصريحات صحفية مطلع الأسبوع إلى أن مشروع قانون التطبيقات السلمية للطاقة الذرية مودع منضدة مجلس الوزراء تمهيداً لإجازته وإحالته إلى البرلمان، وبرغم عدم إطلاعي على ذلكم المشروع، سأبيِّن متطلبات الجسم الرقابي وفقاً للمعايير الدولية في ثقافة السلامة الإشعاعية حيث يجب أن تتوافر في الجهة الرقابية ما يلي: (الإستقلالية، السلطة الكافية لإنفاذ الضوابط دون إستثناء، الإمكانات المادية واللوجستية، التشريع، تلقي التقارير والقيام بالتفتيش من خلال إتاحة كل المؤسسات العامة والخاصة وإخضاعها لسلطتها بما في ذلك الوقف الفوري وسحب التراخيص للمنشآت غير الملتزمة بصورة خارقة أو مستمرة، المساءلة القانونية) وهذه نُوجِّه فيها خطابنا لرئاسة الجمهورية لتوفيرها بالتركيز على إثنتين (فصل الجسم الرقابي عن التنظيمي وتبعيته لمؤسسة سيادية مثل رئاسة الجمهورية أو مجلس الوزراء بعد إجازة القانون المواكب، والثانية للسلطة القضائية بإنشاء نيابة ومحكمة خاصة بالمخالفات الإشعاعية) ولخبراء الوقاية من الإشعاع بقيام منظمة طوعية للتثقيف بمخاطر الإشعاع وسبل الوقاية منها). وبذا نغلق هذا الملف الذي أثقلنا به كاهل قارئنا طوال أيام انعقاد المؤتمر العربي الحادي عشر للتطبيقات السلمية للطاقة الذرية الذي يختتم أعماله اليوم بالخرطوم. آمل أن ينتفعوا بشئ مما كتبت.