يحكي الدكتور جبريل عبد اللطيف أنه عندما كان وزيراً للزراعة بالولاية الشمالية، استقبل مستثمراً خليجياً وعبر معه النيل بالبنطون ليريه الأراضي الزراعية في السليم ووادي الخوي. أبدى الرجل إعجابه الشديد بالموارد الهائلة من المياه والأرض المنبسطة، وكان يردد: «والله هذا كله زين»، غير أن الرجل استدرك بسرعة قائلاً: «بس إيش بنطون هذا» ؟! يودع المواطنون في الولاية الشمالية معاناتهم مع البنطون العتيد الذي أرجو أن توثقه جامعة دنقلا في عمل علمي يتناول الجوانب التاريخية والاجتماعية والثقافية، كما أنه يصلح مادة لإنتاج تلفزيوني يحصد الجوائز في المهرجانات العالمية. وليت الاحتفال بافتتاح كوبري دنقلا السليم يحتوي فقرة رمزية ولمسة وفاء لتكريم هذه المعدية ممثلة في الريس عثمان محمد صالح وشيخ الدين باشا، وبائع التذاكر فقير علي بوب. وهناك أسماء كثيرة لمتعهدين ورجال شرطة وغيرهم يستحقون الوفاء في مثل هذا اليوم، أولئك النفر الذين صارعوا النيل في صعوده ونزوله يمهّدون المشرع للناس وللعربات والحمير. لا ننسى «بنطون» السبت، وكيف كانت الدواب والناس والعربات تتزاحم في معركة عجيبة. وعندما كان البنطون صغيراً وبالكاد يحمل عربة واحدة، كانت العربات السفرية تنتظر الدور للعبور في صفوف طويلة تقضي الساعات الطويلة. ولما كانت المعدية تتوقف قبل مغرب الشمس، كان على العربات أن تبيت الليل تنتظر دورها في الغد. في الأسبوع المنصرم وأنا أركب معدية دنقلا لآخر مرة، ألقيت نظرة طويلة على صفحة النيل، أحاول أن أعرف المكان الذي كانت تظهر منه البواخر القادمة من كريمة؛ الزهرة وعطارد وكربكان معلنة عن وصولها بصافرة تتردد أصداؤها بين الضفتين شرقاً وغرباً، قبل أن تلقي (البوستة) مراسيها في محطة دنقلا. في مثل هذا الوقت من الدميرة، يفترض أن يأخذ ماء النيل لون الطمي، ولكني أرى الماء صافياً مع كدرة قليلة... أيعقل هذا؟ إنه بعض آثار خزان مروي. وعندما توقفنا في السليم قسم (2) حيث وصل كهرباء السد ليعمل (24) ساعة، سمعت من يشكو أولاده الذين (صاقروا) التلفزيون و(همّلوا) البهائم وصاروا يتأخرون عن تقديم العلف إليها أو أخذها لشرب الماء. عموماً هذه حالة مألوفة، ثم يعتاد الناس على ترتيب أولوياتهم. عندما دخل التلفزيون ومعه الفضائيات إلى الريف المصري، تحدّث الناس عن انقلاب في حياة الفلاحين بالتعوّد على السهر والتأخر عن مواعيد الغيط. لم أصدّق عندما قطعنا المسافة من السليم إلى كرمة النزل في نصف ساعة. هذا وقت كنا نقضيه في (وحلة) واحدة فقط في قيزان (إيماني) و(كدركّة)! الطريق من دنقلا إلى حلفا يكاد يكتمل، لولا أودية وخيران ينتظم العمل فيها لإقامة الجسور والكباري ثم يكتمل العمل في أكتوبر كما قيل لنا. سوف تنشأ مدن جديدة على الطريق، وتندثر قرى ومدن. كأني أرى رأي العين هذه الطرق تضجّ بالمسافرين، ومحطات عامرة بالمطاعم والأسواق والاستراحات... مسافرين يحملون سحنات عربية وإفريقية وأوروبية، ينتقلون بين مصر والسودان وبقية الدول المجاورة. أما هؤلاء الذين ارتبطت حياتهم بالجروف والنخيل (العثريات) التي تروى مباشرة من النيل، فسوف يزرعون غابات نخل أكثر نضرة وإنتاجاً في عمق الصحراء، وسوف تدب الحياة فوق رؤوس الجبال. مع وجود الطاقة وقنوات الري الجديدة، يمكن للروح أن تسري في السهول الجرداء في القولد وكوكا. هذه الأرض البكر موعودة بأقصى إنتاجية في العالم. حدّتني البروفيسور صلاح عبود أن إنتاجية الأرض من بنجر السكر في الولاية الشمالية أعلى من أي إنتاجية في العالم، وقد أثبتت التجارب الزراعية أن الفدان أنتج 140 طناً من البنجر وهو يضاهي ضعف ما ينتجه الفدان في البرازيل. هذه الكباري التي تنشأ على النيل مثل كوبري دنقلا السليم ليست مجرد بناء من الحجر، بل هي الحياة توهب من جديد. منذ سنوات عندما أنشئ جسر الخليج بين البحرين والسعودية أنشأ الشاعر غازي القصيبي قصيدة مطلعها: ضرب من العشق لا درب من الحجر هذا الذي طار بالواحات للجزر فالتهنئة لصناع الحياة في الولاية الشمالية في يوم من أيام التنمية والبناء. غداً تشرق الشمس على حياة أجمل وأفضل وأكمل.