تتأهب (شبا) ومنطقة مروي وما جاورها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، لاستقبال حدث له وقعه على الحركة الاجتماعية والتجارية والنهضة العمرانية المرتقبة ألا وهو افتتاح الكوبري الذي يربط شرق النيل بغربه لينهي بذلك فترة من معاناة سكان الريف عبر تاريخ طويل حينما استخدموا وسائل كثيرة ومختلفة لعبور النيل كان آخرها (البنطون). لكن ينبغي ألا يتبادر إلى اذهاننا ان الأمر كان سهلاً أو ان وسائل العبور البدائية كانت متاحة في جميع الاوقات أو أن النيل نفسه كان يرحب بتلك الوسائل فكم من مرة ذهبت اسر باكملها غرقاً في مياهه، وكم من ذهب (البنطون) من الضفة الغربية للنيل الى الضفة الشرقية ولم يعد والمواطنون ينتظرون بل ينظرون الى البعيد وقد قدموا على التو من سفر طويل عبر الصحراء. وكم من مرة استخرجت السلطات المحلية (اورنيك) مرضي للسيد (البنطون) بل كم من مرة اعلنت السلطات على الملأ خبر وفاته ولكنه عاد للحياة وسط دهشة الجميع. هذه المآسي التي عاشتها المنطقة تتحول الآن الى افراح باعتبارها نهاية فترة طويلة وبداية فترة اخرى تزداد وشائج القربى وينمو الثمر ويعود أهل المهجر إلى ديارهم بعد غياب طويل. ليست القضية إذن هي قضية كتل خرسانية تتمدد على النيل لكنها ابعد من ذلك. هي قضية تاريخ قديم ووسيط وحديث لبناء المستقبل. هي قضية اجيال كافحت ونحتت تاريخها في الصخر ورسمت امانيها على وجوه ابنائها. وهي قضية حاضر يؤسس لمستقبل مشرق فيه الزراعة والصناعة والسياحة بل والتواصل الذي كاد ان ينقطع. ولكي نصل الي حقيقة الامر وقبل ان نعبر (الكوبري) إلى (شبا) فلنقرأ صفحات من تاريخها، فالصاعد من الخرطوم أو أم درمان في الجنوب الى (البجراوية) في الشمال على الشاطئ الشرقي من النيل بين الشلال الخامس والشلال السادس اي على بعد اربعة اميال من (كبوشية) يشاهد المنطقة التي تأسست فيها حضارة مروي (195 - 033 ق.م) والى الشمال الغربي نجد (نبته) التي تضم نوري ومروي وتناقسي وكريمة والبركل وشبا والكرو، حيث لا تزال المنطقة تمثل رافداً من روافد الآثار القديمة لأن الدراسات الاثرية التي بدأت على يد الاستاذ (رايزنر) في القرن الماضي لا تزال في حاجة الى جهود علمية حثيثة للكشف عن جوانب كثيرة لحضارة نبته. ومعظم مقابر ملوك اسرة نبته في جبانة الكرو التي تبعد عن جبل البركل بستة اميال تقريباً، وطالما كانت الكرو تقوم بالدور السياسي فقد ظلت البركل تلعب دوراً مهماً في العلاقات الدينية بين مصر والسودان عندما كانت عبادة (آمون رع) هي السائدة. ومن ملوك نبته (شباكو) وقد ورث العرش عن اخيه (بعانخي) في سنة 617 ق.م وسار علي نهجه في تأسيس مملكة وادي النيل فنقل شباكو عاصمته في السودان الى (طيبة) في مصر وآثر البقاء في الشمال لما احس بالفتن الداخلية في الدلتا والاخطار الخارجية التي تهدد مصر من جهة ملوك آشور ثم نقل العاصمة من طيبة الى (تانيس) في غرب دلتا مصر حتى يكون قريباً من الاحداث في آسيا لكن وافته المنية قبل ان يرى مشروعه. وأحسب ان (شبا) التي يتمدد (الجسر) على ارضها تحمل اسم الملك (شباكو) لان الاسم يتكون من مقطعين (شبا) و(كو) ويعني الملك (شبا المحترم) وربما احتفظت بهذا الاسم عبر العصور وإلى الآن لأن موقعها في منتصف المسافة بين الكرو مقر المدافن الملكية لنبته وجبل البركل مقر كهنة (آمنو رع) هذا الموقع يعطي (شبا) المكانة السياسية والدينية واغلب الظن ان اسم (شبا) كان يشمل كل المنطقة التي تقع جنوبها حتى حزيمة لأن النيل كان يتسع عندها وكانت تشبه (الحنك) وربما عرفت بهذا الاسم لهذا السبب ولهذه الظاهرة الجغرافية لم تكن مناسبة للاقامة بل كانت المنطقة الغربية المواجهة لها اكثر نشاطاً وهي (القرير) التي تمثل ركيزة اقتصادية لكل من ابي دوم ونوري التي دفن فيها الملك تهارقا في سنة 466 ق.م. لكن الاهمية السياسية والدينية انتقلت عموماً في العصر المسيحي من هذه المنطقة الى مملكة مقرة التي امتدت من الشلال الثالث الى كبوشية وجعلت من دنقلا العجوز عاصمة لها وصار الاتصال بين مقرة ونوباتيا إلى الشمال منها يأخذ منحى جديد حتى جاء الاسلام الى مصر فاصطدم بالأمر الواقع في الجنوب ولم يوفق القائد الاسلامي عقبة بن نافع في تغيير هذا الواقع من خلال الحملة التي قادها في سنة 146م إلى نوباتيا وكانت الاحداث تسير بسرعة في الدولة الاسلامية ولذلك كان لا بد للمسلمين من القضاء على الفوضي القبلية في جنوبالوادي وتأمين انسياب التجارة فضلاً عن الدعوة الى الاسلام وقد نجح عبد الله بن ابي السرح في الوصول إلى دنقلا عاصمة نوباتيا دون مقاومة لأن البلاد كانت تعاني من ضعف وشظف في العيش نتيجة للحروب القبلية. وانتهت احتكاكات القبائل بين ما هو مقيم ووافد إلى افرازات كونت النسيج الاجتماعي الجديد في شكل مشيخات ممتلكات عربية ومن بينها مملكة العدلناب التي اتخذت من مروي الشرقية مقراً لها وضمت إليها شبا وعسوم والبركل حتى الكاسنجر الحالية وكان لها ظلال في نوري ومروي وابو دوم حتى ابو رنات وكان نفوذ مملكة العدلناب يعتمد على التحالفات التي تربطها مع بنات عماتها من الممالك الصغيرة الاخرى المجاورة لها مثل مملكة حنك التي ظهرت بعد ان انحسر النيل تاركاً وراءه مساحة واسعة من الاراضي الخصبة ومملكة كجبي ومملكة المعراب. وظل هذا الوضع إلى ان جاء الحكم التركي (0281 - 5881م) فلم يعد لهذه الممالك أهمية سياسية سوى بعض الخدمات التي كانت تقدمها للنظام الجديد. اما في المهدية (5881م - 8981م) فانها اخذت موقف المدافع عن نفهسا كلما تسرب إليها الانصار لبسط هيمنة السلطة بالقوة. وانكفأ ابناء (شبا) في عهد الحكم الثنائي على الزراعة والتجارة حتى اذا انتهت الحرب العالمية الثانية اتجه القادرون من الشباب للانخراط في الجندية بمصر وذلك عندما ضاقت عليهم الرقعة الزراعية وخرج آخرون لاعمار الزراعة في كسلا والقضارف والمزموم وأقدي والقرابين وسمسم وبورتسودان وغيرها. ثم بدأت (شبا) تزدهر من جديد بعد انشاء مصنع تعليب الخضر والفاكهة بكريمة وكذلك مصنع تعليب التمور واتساع العمل بالسكة الحديد والنقل النهري مع ما صاحب ذلك من انتعاش تجاري في التعليم العام. لكن التقلبات السياسية التي شهدها السودان في عهد حكومة مايو انعكست سلبا على القطاعات الخدمية والصناعية ومن بينها السكة الحديد والنقل النهري والمصانع وتأثرت الزراعة التي يعتمد عليها ابناء شبا بهذه التقلبات فأهملت وبدأ سيل من هجرة ابنائها إلى خارجها مما كان له اثر سيئ على الحياة فيها. ونحسب ان الخطوة الايجابية في بناء المستقبل تتمثل في بناء خزان مروي ثم ما يتبعه من انشاءات اخرى مثل مطار مروي والمستشفى. اما الجسر (الكوبري) الذي يتمدد قبالة (شبا) فإنه يحكي تاريخ المنطقة ماضيها وحاضرها ومستقبلها.