عصرا، وتحديدا عند الساعة الثالثة، حينما اشتد دوي الرصاص والمدافع، لم يكن هنالك بد سوى صعود السلالم إلى سطح مبنى الصحيفة لتحري الموقف والدخان يعبق في سماء أم درمان، الهتافات تتعالى والكل يسعى لطمأنة نفسه، وأصوات تقول: (دي أصوات ألعاب نارية)، ومن ينقلون أخبارا أخرى، آخرون تقطعت انفاسهم ركضاَ قبل الصراخ بأن (أم درمان تحترق).. بين هذا وذاك لا أحد يعرف من الذي فعلها وأين هي الحقيقة، ولتتكشف بعدها الفجيعة، بأن ثمة قوات قادمة باتجاه جسر الإنقاذ، الوقائع بدت كمن يؤكد الحقيقة المؤلمة، فدوي مدافع تهز الأرض، والتلفزيون، القصص والروايات والحكايات تتناسل، والحقيقة تظهر، لتضع الجميع امام تحدي، أن الذي يحدث هجوم إنتحاري لقوات خليل إبراهيم على أم درمان. اليوم العاشر من مايو 2008م ? الذي مرت ذكراه الخامسة أمس- والزملاء والزميلات أمسوا في مبنى الصحيفة، خاصة من يقطنون أم درمان، في حالة يرثى لها، حيث لا يمكن ان يصلوا إليها وكل المنافذ مغلقة، لتبرز فكرة استضافتهم عند الزميلة هادية صباح الخير بحلة كوكو، والرجال يبقون مبيتا بالصحيفة، اتذكر الزميل حافظ الخير الذي كان على إتصال بالشرطة والمستشفيات، وتحركات للقوات النظامية بالخرطومالمدينة التي جعلت عيون ساكنيها منظارا صوبته تجاه أم درمان، وأسماع تلتقط الشارد والوارد من أخبار، والتلفزيون القومي يعرض اولى اللقطات لدحر قوات خليل، وتدمير آلياتهم، والهواتف النقالة ترسل متبادلة الاطمئنان على الأسر وأفرادها بين المدن الثلاث. ومشهد الإثنين الأسود، الذي أعقب مقتل د. جون قرنق رئيس الحركة الشعبية في 2005م يعود للذاكرة، والشبكة تزدحم بالرسائل والمكالمات.. و.. قلت للزملاء: سأغادر إلى العيلفون بشرق النيل، وكان ذلك بالنسبة للذي أمامنا كأنما هو الذهاب إلى المجهول.. ولكن بتجارب الحرب في العراق التي عايشت ضراوتها خلال اثنتي عشرة سنة، كنا نتواصل فيها بالعمل وسط الغارات الجوية وصواريخ الكروز والقنابل العنقودية، وووو.. همست للزميل (حافظ الخير): سأذهب معك إلى المستشفى ومن بعدها عليك أن توصلني إلى مدخل كوبري المنشية، لأننا كلما إبتعدنا عن الخرطوم، بإتجاه الشرق كان الهدوء أكثر مع تكاثف الوجود الأمني في مداخل الطرق والتقاطعات. ومضينا إلى مستشفى الخرطوم.. وبعدها إلى أن وصلنا، وكانت العربة التي تقلنا تحمل على جنباتها اسم (الرأي العام) مما سهل قليلا تجاوز بعض الإجراءات، وحين وصلت مدخل جسر المنشية نزلت وسيارة (بوكس) تابعة لأحد الأجهزة الأمنية، يبلغهم أحد الجنود أن يوصلوني معهم إلى الضفة الأخرى بشرق النيل، وهنالك سلموني إلى زملاء لهم ولم يطل الإنتظار فاذا بحافلة ذاهبة الى قرية الشيخ مصطفى عبر طريق العيلفون صعدت إليها فأوصلوني الى سوبا شرق وكانت المفاجأة والساعة تتجاوز منتصف الليل لتشكل يوما جديدا هو الحادي عشر من مايو، اذا بطوف من الشرطة تسير عرباته في الشارع للدخول الى داخل المدينة واحدهم ينادي باسمي فكان اصطحابهم لي في جولة إطمئنان وطمأنينة الى أن وصلنا العيلفون. صباح اليوم التالي، كانت التحذيرات تتوالى، كثيرون رفضوا ذهابي، والشائعات تتناثر هنا وهناك الى بعض يصدقها وآخر يفندها، حزمت أمري وتوكلت ورغم الممنوع بالدخول إلى الخرطوم.. وصلت إليها بين راجل وفي جوف سيارة بينها سيارة طبيب بمستشفى الخرطوم كان واسطة النقل والوصول الى مقر الصحيفة.. وقررنا، مع بعض الزملاء ان نتجول.. الشوارع خالية والمحال مغلقة.. والأخبار تترى عن اصطياد فلول القوات التي غزت أم درمان والسلاح والعربات المدمرة، لا يمكن لحركة متمردة أن تمتلكها.. و.. وجثث وشهداء وملاحقات ومطاردات لهاربين وذهبنا الى سوق ليبيا نرصد الأضرار ونسمع القصص من شهودها، وزيارة لاسرة شهيد في إحدى الحارات المجاورة لسوق ليبيا. الروايات والقصص والمواقف تحكى وجولة في الأسواق ومواقف الحافلات بائع نظارات وهايس وثلاث عربات أمجاد في موقف أم درمان، وقليل من المواطنين والمارة في الشوارع، أما حاملا عصا أو سيخة، وسيارات الشرطة والإحتياطي تجوب الشوارع وبائع النظارات، يقول: (جئت والرزق على الله)، ومجموعة من باعة الفواكه والخضروات ومواقف رافضة لما حدث.. والأوضاع خلال الأيام الثلاثة التي مضت تتشابه رغم أن الحياة بدأت تدب في اوصال الخرطوم رويدا رويدا، وقد طويت صفحة سوداء (الله لا أعاد أيامها).