يوم الخميس الماضي بدأت يوما «كبيسا» من سوق أم درمان، ومنه إلى سوق الخرطوم: عربي وافرنجي وجاكسون، لقضاء اغراض اسرية منزلية «مجمدة» لوقت طويل، بسبب دورة مهنة المتاعب اليومية: الصحافة، حيث تسوقنا رياحها، وقتما تهب، واينما تهب، وبأية قوة او درجة تهب. أو هي شيمة تشكل يومنا بمزاجها. ومن اطلق عليها مهنة المتاعب صدق فعلا. وهذه قصة اخرى! ويشغلني ملف النظافة في العاصمة، لذلك تراني ألحظ دائما، في الحل والترحال، ماذا يفعل «هؤلاء»، الذين اوكلنا لهم مهمة تنظيف مدينتنا، وقد لحظت ان شوارع ام درمان في ذلك الصباح «السابعة صباحا» على طول المسافة بين حينا «الفتيحاب» وسوق ام درمان، علامته الكبرى هي «الاوساخ». شارع تاريخي ورئيسي مثل شارع الاربعين، جله مدفون تحت الارض، وجناته الباقية غير المدفونة، عبارة عن سلسلة «كوش»، باحجام مختلفة. كل ما يخطر على بالك من «الاوساخ» كان حاضرا في شارع الاربعين. تسأل نفسك: متى آخر مرة حصل هذا الشارع الرئيسي والعريق على نصيبه من النظافة؟ ويجيبك عامل النظافة، قبل ساعات، ولا تصدقه على الاطلاق. وانزل سوق ام درمان في ذلك الصباح الباكر، لتجده مسربلاً بالاوساخ من أوله الى آخره: الاوساخ على الشوارع الرئيسية،وامام المحلات التجارية، اما الشوارع الجانبية، فكأنها لم تنظف منذ الازل. الغريب في الامر ان الاوساخ موجودة في كل مكان، وفي كل هذه الامكنة ترى عمال النظافة، ولو سألتهم يقولون لك انهم يعملون، وتسأل نفسك ماذا يعملون اذا كانت الاوساخ تحمل السوق على اكتافها؟ وتكاد ترحل به الى عالم تخيله، وسمه عالم الاوساخ. وتسلك في ذلك الصباح طرقا مليئة بالاوساخ، وانت في مسيرتك الى الخرطوم، لا تقل لي شارع الموردة او شارع النيل او حوالي المقرن، قل كل الطرق مليئة بالاوساخ ، وتؤدي الى الاوساخ في قلب الخرطوم، وفي ذلك الصباح الباكر. السوق الافرنجي يغرق في الاوساخ، والعربي «طين على طين»، والخرطوم شرق، التي كانت على ايام الانجليز، (مضرب مثل في النظافة)، تراها مملكة مستباحة للاوراق والعلب الفارغة، ومخلفات السابلة. والمنطقة حول ميدان جاكسون والموقف الجديد، جوار السكة الحديد ، الذي منونا بأنه سيكون الجنة، تمثل افضل نموذج لفوضى عمليات النظافة في العاصمة. عندما قال النائب «عوض دعوب»، رئيس لجنة التعليم والصحة بمجلس تشريعي ولاية الخرطوم يوم الخميس الماضي ان ولاية الخرطوم فشلت في ايجاد حل جذري لمشكلة النفايات في العاصمة، فقط ، بذلك سجل تقريرا حيا للاوضاع الماثلة في كل مكان في العاصمة، وصف المشكلة بأنها «خطرة»، وقال ان «معظمها يتم حرقه بصورة مخلة بمناطق مكتظة بالسكان وتخوف من حدوث أمراض خطيرة». هذا، فقط، مشهد من فضاء الفوضى في مضمار لمّ النفايات. الحقيقة ان جل الاوساخ باقية بيننا. لان المشروع كله عبارة عن تمويه. هناك من يعطيك الاحساس بأنه يعمل لجمع القمامة ونقلها الى مكان ما، ولكن في ذات الوقت تجد ان القمامة تحاصرك حصار السوار للمعصم. واضح جدا ان حكومة الولاية، أما انها لا ترى كيف تتحول العاصمة الى «كوشة» كبيرة، او انها تدري وتعرف، وتملأ الفوضى الماثلة اذنيها، ولكنها لا تحاسب احداً من «هؤلاء». تسير في كرنفال الاوساخ، طولاً وعرضاً، ولا تحرك ساكناً. وترقص المحليات في كرنفال الاوساخ. هذا المشروع بوضعه الحالي، لا يعني سوى انه مسلسل من الغش، سيارات تجيئ وتذهب، وجيش من العمال تراهم في الشوارع، ولافتات وشركات، وعطاءات، وتحصيل رسوم من المنازل كل شهر، والكل يموه بأنه يعمل، وفي الحقيقة انه لا يعمل، انه يغش، والنتيجة «صفر كبير» و«جريمة كبرى» في حق الناس، وفكرة سيئة للغاية تسود بيننا. بربكم كم تصرف الدولة على هذه الفوضى المتعاظمة..؟