الهمة التركية تزيد يوماً بعد يوم وهي تجد في رسم صورة العراق ما بعد انسحاب قوات الاحتلال. وزيارة وزير الخارجية أحمد داؤود أوغلو لكردستان قبل يومين مؤشر جديد على ذلك. ولكن ليست تركيا وحدها هي من يرسم صورة عراق المستقبل. هناك العراقيون أنفسهم بطبيعة الحال، وهناك العرب في مجملهم، وهناك الأمريكيون والصهاينة، وهناك الإيرانيون. الصورة العربية لعراق المستقبل ترسمها بوضوح اجتماعات وزراء الداخلية لدول جوار العراق بشكل منتظم، وآخرها هو اجتماعهم السادس (2009/10/10 - 14م) في شرم الشيخ المصرية. يبدو العراق في هذه الصورة دولة ذات «نظام أمني/بوليسي» قوى. وما عدا ذلك لا نكاد نرى أي ملمح آخر، لا سياسياً، ولا استراتيجياً، في الصورة العربية للعراق. من المُفترض أن يتم انسحاب القوات الأمريكية من جميع الأراضي والمياه والأجواء العراقية في موعد لا يتعدى ( 31/1/2011)، طبقاً لما نصت عليه الاتفاقية الأمنية الموقعة بين حكومة العراق والحكومة الأمريكية في 27/11/2008 .. وكلما اقترب موعد هذا الاستحقاق زادت التناقضات وضوحاً في «صور العراق» المنتظر بعد هذا الانسحاب. ومع زيادة وضوح التناقضات تزيد حدة المواجهات على الساحة العراقية بين الأطراف الدولية التي لديها صور متناقضة وغير متطابقة لعراق ما بعد الانسحاب الأمريكي، وتزيد أيضاً معدلات وقوع الضحايا من أبناء العراق في خضم صراع المتناقضات على أراضيه. ثمة صورة افتراضية لعراق ما بعد الانسحاب، تتشكل ملامحها الأساسية من ستة عناصر، تتمثل في أن يكون العراق: مستقلاً. وموحداً. ومستقراً. ديمقراطياً. وقوة إقليمية فاعلة. وإذا اتخذنا هذه الصورة الافتراضية التي يرسمها المنظور الوطني العراقي، كما يرسمها منظور الشرعية الدولية على الأقل فيما يتعلق بوحدة أراضي الدولة واستقلالها وسيادتها؛ فسنجد أن هناك أربع صور ترسمها أربع قوى إقليمية ودولية،؛ كل بحسب ما تمليه مصالحه، أو بحسب ما تفرضه حالته من القوة والضعف. وسنلحظ أن صورة واحدة فقط من هذه الصور الأربع هي التي تقترب من الصورة الافتراضية. الصورة الأولى للعراق؛ ترسمها الولاياتالمتحدة، وفق ما يحقق مصالحها القومية والإستراتيجية بطبيعة الحال، وهي تتطابق مع مصالح ومطامع الكيان الصهيوني، ويشارك هذا الكيان في رسمها أيضاً، وإن كان بشكل غير مباشر. الملامح الأساسية في هذه الصورة الأمريكية/الصهيونية هي: 1 أن يكون العراق مقسماً من الناحية الجغرافية بين شمال ووسط وجنوب تحت مظلة فيدرالية أو دون هذه المظلة. وذلك كي يسهل استيعاب القوى المتصارعة داخل الجغرافيا الإقليمية التي تتمركز فيها، وهذا الوضع يجعل كل قوة بحاجة إلى الظهير الأمريكي، أكثر من حاجتها إلى المنافس العراقي. 2 أن يكون العراق منقسماً على أساس طائفي ديني وعرقي (سني/ شيعي/ مسيحي/إسلامي/ عربي/كردي/تركماني/...). وهذا الملمح يحقق نفس الغاية التي يحققها ملمح الانقسام الجغرافي، ويعمقها، ويوفر لها مرجعية ذهنية وفلسفية يصعب الفكاك منها. 3 أن يكون العراق مضطرباً على الدوام؛ كي تكون هناك ذريعة للوجود الأجنبي، وللتدخل الأمريكي تحديداً بحجة المساعدة على حفظ الأمن والاستقرار في البلاد. وكلما نجحت السياسة الأمريكية في تعميق الانقسام المذهبي، والتقسيم الجغرافي، زادت وتيرة الاضطراب، وزادت الذرائع للتدخل الأجنبي وهكذا .... 4 أن يكون ديمقراطيا شكلاً، إقصائياً استبعادياً في جوهره؛ بمعنى وجود تعدد حزبي، وانتخابات دورية، ولا مانع من سترها بمراقبة دولية،مع تداول صوري للسلطة بين القوى التي تنخرط في هذه العملية؛ بينما يتم توجيه الهم الأول لهذه القوى كي تتصدى لقوى المقاومة الوطنية العراقية التي حملت السلاح في وجه الاحتلال الأمريكي، وتستبعدها من «الحقل السياسي الديمقراطي» الذي سيظل تحت وصاية فعلية للهيمنة الأمريكية إلى أجل بعيد فيما بعد إتمام عملية الانسحاب في يناير 2011 . 5 أن يبقى العراق دولة منهكة، وألا تقوم له قائمة بعد الدمار الهائل الذي لحق به منذ الغزو الأمريكي إلى يوم الانسحاب الموعود. وأن يبقى العراق دولة منهكة؛ يعني رغبة الولاياتالمتحدةالأمريكية ألا يكون لعراق ما بعد الانسحاب أي دور إقليمي، ويظل ساحة للتجاذبات بين القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة(إيران تركيا إسرائيل)، وهذه الصورة تصب مباشرة في مصلحة الكيان الصهيوني بشطب العراق من معادلة الصراع الممتد معه. الصورة الثانية للعراق، ترسمها إيران من منظورها الوطني والاستراتيجي في المنطقة المحيطة بها، وفق الملامح التالية: 1 أن يكون العراق موحداً في صيغة فيدرالية من الناحية الجغرافية، تحت سلطة مركزية تهيمن عليها الطائفة الشيعية، وبالأخص الأحزاب الشيعية الموالية لها في العراق. وهذه الوحدة الشكلية تحقق المصلحة الإيرانية لجهة ضمان السيطرة على الأكراد في الشمال، ولجهة احتواء إقليم عربستان في إيران ذاتها؛ حيث إن خيار تقسيم العراق من شأنه أن يغذي الاضطرابات في هذا الإقليم المليء بالمشاكل المزمنة. 2 أن يتحقق قدر من الاستقرار السياسي والاجتماعي وفق الرؤية الإيرانية التي تسمح لها بحرية الدخول إلى الساحة العراقية، والخروج منها، متى شاءت ودون حواجز أو معوقات جدية تمنعها من الإبقاء على النفوذ الذي كسبته منذ انهيار العراق ووقوعه تحت الاحتلال إلى اليوم. 3 أن تتشكل صورة السلطة المركزية/الفيدرالية على نمط قريب من نمط السلطة في إيران؛ لأن الديمقراطية الليبرالية المفتوحة وفق المعايير الغربية لا تضمن إفراز سلطة منسجمة في توجهاتها العامة مع السياسة الإيرانية؛ وخاصة في ظل حديث مستمر عن استحالة الاستمرار في تهميش السنة ضمن موازين القوى الداخلية في العراق. 4 أن يبقى العراق ضعيفاً، ولكن ليس إلى درجة الإنهاك التي تريدها الولاياتالمتحدة؛ وذلك كي يستمر النفوذ الإيراني في العراق بنفس قوته الحالية وربما يزيد. وبقاء هذا النفوذ وزيادة قوته هو قوة مضافة إلى القوة الإيرانية في مواجهاتها، أو في مفاوضاتها المقبلة مع الولاياتالمتحدة فيما يتعلق بالملف النووي على وجه الخصوص. ولا تريد إيران عراقاً منهكاً؛ حتى لا يكون هذا الإنهاك مغرياً أو مبرراً للتدخل الأجنبي الأمريكي. 5 ألا يكون للعراق وزن يذكر في بناء ميزان القوى الإقليمي؛ كي تستحوذ إيران على النصيب الأكبر من الفراغ الذي خلفه شطب العراق من معادلة القوة الإقليمية منذ وقوعه تحت الاحتلال الأمريكي. وتأمل إيران أن يظل العراق ساحة نفوذ مفتوحة أمامها، وأن يكون مستقبله مرهوناً بإرادتها أكثر مما هو مرهون بإرادته الوطنية. الصورة الثالثة للعراق، ترسمها تركيا وفق «سياسة العمق الاستراتيجي» التي تنتهجها منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في نوفمبر 2002، والتي تعززت بتولي أحمد داؤود أوغلو منصب وزير الخارجية، وهو واضع الأسس الفلسفية لنظرية العمق الاستراتيجي، وهو الذي حددها في مبادئ ستة تضمن إعادة تركيا كقوة مركزية في السياسة الإقليمية والدولية عامة. وترتسم ملامح صورة «عراق ما بعد الانسحاب الأمريكي» في السياسة التركية على النحو التالي: 1 أن يكون العراق موحداً جغرافياً في إطار التعددية العرقية والمذهبية على أساس العيش المشترك، والتعاون بين مختلف الفرقاء، ونبذ عوامل الفرقة؛ سواء أكانت مذهبية أو عرقية أو جغرافية. وهذا هو الوضع الأمثل لتحقيق المصالح الوطنية التركية، وحماية أمنها القومي لجهة المشكلة الكردية، ومصلحة الأقلية التركمانية في العراق. 2 أن يكون العراق مستقلاً، متمتعاً بكامل سيادته على كامل أراضيه؛ كي لا تكون هناك فرصة لبقاء الهيمنة الأمريكية عليه، وهذا يعزز الحاجة الأمريكية لدور تركي أكثر فاعلية في العراق، وكي لا تكون هناك ذريعة لبقاء النفوذ الإيراني في العراق أيضاً. 3 أن يكون العراق مستقراً سياسياً واجتماعياً وفق مبادئ العيش المشترك؛ كي تتاح له الفرصة في النهوض اقتصادياً، وفي هذه الحالة ستكون تركيا هي أول الرابحين مع العراق نفسه عندما ينعم بدرجة عالية من الاستقرار. 4 أن يترسخ في العراق نظام ديمقراطي حقيقي، ينسجم مع النموذج الديمقراطي التركي من جهة، ويسهم في ضبط ميزان القوى الداخلي في العراق وفق معطياته الديمغرافية والسياسية على نحو يضمن العدالة السياسية، من ثم يضمن قدراً أكبر من الاستقرار. 5 أن يصبح العراق قوة إقليمية، ويسترد مكانته في بناء ميزان القوى الإقليمي؛ حيث ترى السياسة التركية الجديدة أن من مصلحتها الإستراتيجية أن تدخل في شراكات مع أقوياء وليس مع «ضعفاء» كما ترى إيران، ولا منهكين كما ترى الولاياتالمتحدة وحليفها الصهيوني. الصورة الرابعة للعراق، ترسمها القوى السياسية العراقية، وهي صورة سريالية شديدة الغموض، تبدو ملامحها باهتة ومختلطة إلى حد تنعدم معه الرؤية، وتنعكس عليها كل النزعات التي تجنح إليها تلك القوى ما بين التطلع نحو إيران في الشرق، والارتماء في الحضن الأمريكي في الغرب، والنظر البراجماتي للرؤية التركية القادمة من الشمال، والتيه اللا محدود الذي يعبر عنه الموقف العربي على نحو ما يظهر في مقررات الجامعة العربية بشأن المسألة العراقية. من المنطقي أن تكون صورة العراق لدى القوى العراقية الوطنية دون استثناء وأياً كان توجهها السياسي أو انتماؤها المذهبي أو العرقي متطابقة مع صورته المفترضة من المنظور الوطني، ومن منظور الشرعية الدولية كما أوضحنا. ومن المفترض أيضاً أن تكون هذه الصورة شديدة الوضوح على المستوى العربي العام، وخاصة على مستوى «النظام الرسمي العربي» الذي تعبر عنه الجامعة العربية. ولكن معطيات الواقع الراهن تقول خلاف ذلك، وتقول أيضاً إن صورة العراق لدى تركيا هي الأقرب لصورة العراق المفترضة وفق ملامحها الرئيسية: الاستقلال، والوحدة، والاستقرار، والديمقراطية، والفاعلية الإقليمية. ترى أي «عراق» سنراه في المستقبل القريب؟