المراجع المعروفة في تاريخ الأندلس وآدابها وسائر ألوان حضارتها وجوانب ثقافتها قليلة نادرة ولا خلاف فيما أرجح أن من أقوى أسباب ذلك فقدان الكثير من الكتب الأندلسية القديمة والمؤلفات النفيسة خلال النكبات المترادفة التي أصابت المسلمين حين إجلائهم عن تلك البلاد، وقد جهد المتعصبون من الأسبانيين في التعفية على آثارالاسلام في بلادهم وإزالة معالم حضارته، وكان إحراق الكتب أو إغراقها في الأنهر وفي مقدمة تلك الأعمال المؤذية المخربة الضارة بالعلم وحياة الفكر. ومن دواعي الأسف أن الطغاة المستبدين والحمقى المتعصبين كثيراً ما يتورطون في هذه الخطة ويجترحون هذا الإثم حتى في أوقات الاستنارة وفي ظلال الحضارة. ومن أوفى تلك المراجع المعروفة في تاريخ الأندلس ومختلف أخبارها وأحوالها - إن لم يكن أوفاها قاطبة- كتاب العلامة المغربي العباس احمد بن محمد المقري «نفح الطيب» فهو أحفلها بتاريخ الأندلس وأجمعها لأحوالها الأدبية والسياسية والاقتصادية وأخبار رجالها الأعلام وشعرائها الفحول وكتابها المبرزين وأشعارهم الرائقة الرائعة ورسائلهم البليغة الممتعة ونوادرهم الطريفة وأجوبتهم المسكتة وسائر براعائهم وعبقرياتهم. لم يكن هذا الرجل الفاضل المفتون بالأندلس وأخبارها والمعجب بحضارتها ورجالاتها أندلسي الأصل والنشأة ولم ير الأندلس رأي العين، فقد كان المسلمون في عصره قد غلبوا على أمرهم في الأندلس واخرجوا منها، وطردت البقية الباقية منهم أو ذابت وفنيت في الكثرة الأندلسية الغالبة وتقلص ظلهم عنها تقلصاً تاماً، ولكن المقري ظل مع ذلك شديد التعلق بأخبار الأندلس دائم الإطلاع على تاريخها وأدبها وعلومها مثابراً على استقصاء تلك الأخبار وجمع شتى المعلومات وطلبها في مظانها الأصيلة ومراجعها الأمينة الموثوق بها. وقد ولد المقري في تلمسان ببلاد الجزائر ونشأ بها وحفظ القرآن وقرأ وحصل بها على عمه أبي عثمان سعيد بن احمد المقري مفتي تلمسان وكان عالماً فاضلاً وفقيهاً متمكناً، وكان المقري يقول عن بلده تلمسان إنها بلدة عظيمة من أحاسن بلاد المغرب وأنها في يد العثمانيين وهي الحد المضروب بين سلطانهم وسلطان المغرب. والمقري نسبه الى قرية من قرى تلمسان وإليها نسبة آبائه ويقول الاستاذ «ليفي بروفنسال» من دائرة المعارف الاسلامية ان المقري قد ولد سنة «1000» هجرية ولم يذكر بالذات المرجع الذي اعتمد عليه في ذلك وقد زاد الشك في صحة هذا التاريخ ان المقري توفي سنة «1041ه» كان بلا أدنى خلاف رجلاً ممتازاً ناشط الهمة ناهض العزم جيد التحصيل متوفراً على الدرس ولكن انتاجه الغزير وتواليفه الجمة ليست عمل رجل لم يعش في الدنيا سوى واحداً واربعين عاماً، وبخاصة إذا علمنا أن الرجل لم يكن منقطعاً للتأليف وكان له من أعمال وظيفته وأسفاره ورحلاته ما يستنزف وقته ويستأثر بجانب من جهده. ذكر لنا المقري في المقدمة الضافية التي صدر بها كتابه القيم الشهير «نفح الطيب» سبب تأليف هذا الكتاب ويتبين منها أنه خلال إقامته بدمشق كان كثيراً ما يتجاذب أخبار أعلام الأدب مع أدباء دمشق وكان ينجر الكلام الى ذكر البلاد الأندلسية فيورد المقري بدائع بلغائها ويذكر من كلام وزيرها الشهير لسان الدين بن الخطيب ما تقتضيه المناسبة وقد قسم كتابه «نفح الطيب» الى قسمين، كل منهما مستقل بموضوعه، الأول يتناول أخبار الأندلس والثاني في إبقاء بلاد الأندلس للمسلمين بالقياد وفتحها على يد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد.