رأينا ان نخصص مساحة لنسجل حديثاً عن هؤلاء الفنانين المؤثرين على مسار الابداع السوداني فكان لا بد من أن تجيئ سيرة أحمد عبد العال لاضافاته الفنية الكبرى الفعالة في حركة التشكيل تنظيراً وتطبيقاً هذا وستواصل المساحة تسجيل السير من حين الى حين. (المحرر) ... التفكر الجمالي.. هو لحظات زمنية مستدقة.. وخاطفة، قد لا نتعرف على عمقها بمعيار الزمن العادي عند تذوقنا لعمل فني ممتاز. إنها لحظات توحدنا مع العالم المستقل في ذلك العمل وكيفما كانت طبيعة الاداء التشكيلي فيه، واقعية مماثلة للمرئي بكيفية ما، أو استذكاراً لحدث بعينه، أو حلماً أو خيالاً مُبتدعاً بمنطق اللون والخط والكتلة التي يحتويها الفراغ، كل هذه التناولات وغيرها مادة «للتفكر الجمالي» الذي قد يجئ مُنجماً في لحظاته القصيرة، أو قد يتدفق في دفعة واحدة. هي الحدس أو أقرب ما تكون إلى الحدس. ولا تتيسر محاولة «التفكر الجمالي»إلاّ بتدريب ملكة التخيل، التي تستعين ببعض الذي خبرناه في تجاربنا، أو ذاك الذي تقنا إليه يوماً، أو بشيء مما لا يُقال بالكلام، أو بعض الذي تعرفت عليه حواسنا في مسيرة حياتنا الفردية على خلفية من تاريخنا الثقافي والحضاري. وهذه المخيلة الابداعية مباينة للخيال العادي.. الذي هو التوهم.. هذا الأخير لا يولد فناً ولا تذوقاً للفن.. لأن التوهم سليل الخلط والتلفيق والخيال المبدع وحده هو الذي ينظم الخيارات الجمالية الممكنة وما يحلق بها من تراكيب ورؤى وصيغ متواشجة الدلالات البصرية والمعنوية، ويفتح أيضاً المداخل للمتلقي لتذوق «الصورة» بمعناها الأوسع في الفن. هذا عينهُ ما اسميه «المسعى التوحيدي» في الفنون.. حيث يتحول الزمن بابعاده الثلاثة المعلومة من ماضٍ وحاضر ومستقبل الي زمن واحد، الى طاقة حية هي من محمولات الصورة بمعناها الأوسع، وهي طاقة بطبيعتها تطلب الاتصال بوعي الآخرين، بل وتطلب أيضاً الاتصال مجدداً بوعي الفنان المبدع نفسه، لأنه وبفعل هذه الطاقة الحية وحدها يتاح للفنان القدر الأعمق من تطوره. ... وبعد، في متتاليات المخاض الحتمي للتشكيل العربي والاسلامي الحديث، الذي نشأ على ارتباط وثيق بالتيارات والحركات الفنية الغربية منذ أوائل القرن الماضي، ينبغي انجاز مهمة اساسية، هي الفكاك من الالتحام السلبي بالمنجز الجمالي الغربي. لا يتم هذا الفكاك إلاّ بتعميق تجربة التفكر الجمالي في الصورة بمعناها الأوسع تصويراً كانت، أم نحتاً، أم ايضاحاً، أم تصميماً، أو قرافيك إلكترونياً، أو كما هي في بقية حقولها الأخرى ذات التأثير المتنامي في عالم اليوم، في التلفاز والسينما والمسرح والإعلان وفي القصة والرواية والشعر. فالصورة بمعناها الأوسع أصبحت مفاعلاً مهولاً للاستنساخ الثقافي بين يدي العولمة الطويلتين الممتدتين الى كل شيء. في متتاليات مخاضه الحتمي وضمن حلقات تطوره المأمول، لا يمكن للتشكيل العربي والاسلامي الحديث ان يصرف الفكر والبصر عن وقائع «دراما» الذات العربية والاسلامية الراهنة. ومن المؤكد ان وعياً حضارياً مسؤولاً عن وضعية هذه الذات سيجد سُبلاً لا حصر لها إلى ابداع صور لتعبيرات جديدة.. وليس إلى صياغة اشكال «بحتة» كما يتمثل في محاولات الحروفيين العرب. إنها ضرورة حضارية تستدعى معرفة مُخلصة لمقتضيات الانعتاق الابداعي، الذي لا يتأسس - كيفما كانت المسوغات - على مجرد الانعتاق الفردي أو الهجرة والاغتراب الروحي والوجداني فالحضارة العربية الاسلامية في تجربتها التاريخية لم تنشأ بمعزل عن عالمها يومذاك. لقد كانت عبقريتها المؤكدة عبر قرون ازدهارها في قيامها بتسوية وتمثل الذي ورثته من تقاليد فنية وبناءات معرفية وتطبيقية، ثم اعقبت ذلك الطور بانشاء لإبداع جديد على هدى من مثلها الأعلى «التوحيد». الآن، ها هو عالمنا بمكتسباته الجمالية والمعرفية والتطبيقية المتقدمة، يقدم مادة لتسوية وتمثل توحيدي تنهض على أثره شواهد ابداعين عربي وإسلامي جديد. وعليه، يكون استحضار مخيلة ابداعية جديدة ضرورة للانعتاق، كواحدة من مقدمات النهوض الحضاري، مخيلة ابداعية يتكشف عبرها المجال الحيوي «للصورة» المختلقة في تلك الفجاج العميقة المترامية وراء مجرد الشكل «البحت» للحرف العربي. هناك في تلك الفجاج، حيث تهل «الصورة» بكل تعيناتها وبكل عناوينها الممُكنة من مستودع الروح والعرفان والعلم، ومن المدركات المعنوية والمادية، ومن المشاعر والذكريات والآمال ومن انسجام الإرادات وتناقضها في هذا العالم.