الحوادث العظيمة لا بد أن تحمل أسراراً عظيمة ... كنا نظن أن إعلان الحروب وغزو الدول وغير ذلك من الأمور الخطيرة ، تنعقد لها المجالس وتُجند لها مراكز الدراسات وتستنفر لها خلايا التفكير. ولكن تبين أن ذلك كله مما لا تدعو إليه الحاجة. لقد صدر في فرنسا كتاب يقول أول سطر فيه: (إذا كنت تعتقد أن أمريكا غزت العراق للبحث عن أسلحة الدمار الشامل فأنت واهم جدا، واعتقادك ليس في محله). كتاب الصحفي الفرنسي (جان كلود موريس) بعنوان: (لو كررت ذلك على مسامعي فلن أصدقه) ينقل عن الرئيس الفرنسي السابق شيراك قوله: (تلقيت من جورج بوش مكالمة هاتفية في مطلع عام 2003م. فوجئت فيها بالرئيس الأمريكي وهو يطلب مني الموافقة على ضم الجيش الفرنسي للقوات المتحالفة ضد العراق، مبررًا ذلك بتدمير آخر أوكار «يأجوج ومأجوج»، مدعيًا إنهما مختبئان الآن في الشرق الأوسط-قرب مدينة بابل القديمة, وأصر على الاشتراك معه في حملته الحربية التي وصفها بالحملة الإيمانية المباركة،, ومؤازرته في تنفيذ هذا الواجب الإلهي المقدس الذي أكدت عليه نبوءات التوراة والإنجيل). ولو أن الرئيس الأمريكي حاول مع شيراك مرة واحدة لاعتبرت المحاولة مزحة ، ولكنه كرر المحاولة ، فقد عاد بوش للاتصال قبيل الحرب بأسابيع مؤكداً مرة أخرى أن هذه الحرب تستهدف القضاء على (يأجوج ومأجوج)، اللذين يعملان على تشكيل جيش إسلامي من المتطرفين في الشرق الأوسط لتدمير إسرائيل والغرب. وكم كانت دهشة (شيراك) عظيمة عندما سمع (بوش) يخبره في مناسبة أخرى عبر الهاتف، ويقول له حرفياً: (إنه تلقى وحياً من السماء لإعلان الحرب على العراق، لأن يأجوج ومأجوج انبعثا من جديد في العراق،, وهو في طريقه إلى مطاردتهما، لأنهما ينويان تدمير الغرب المسيحي). شعر (شيراك) حينها بالخجل والفزع،لكنه لم يكن يتصور أبداً أن تطرف بوش وميوله الدينية نحو تحقيق نبوءات التوراة على أرض الواقع يقودانه إلى ارتكاب مثل هذه الحماقات، وازدادت مخاوف (شيراك) عندما صار (بوش) يعيد تكرار الإشارة إلى (يأجوج ومأجوج) في مؤتمراته الصحفية والسياسية. طلب الرئيس الفرنسي من مستشاريه أن يكلفوا خبراء لإعداد معلومات عن يأجوج مأجوج ، ويقدموا له تقريراً يستطيع في ضوئه أن يستوعب الموضوع. وقام بالمهمة أستاذ سويسري تخصص في الفقه اليهودي،ليوضح: «أن يأجوج ومأجوج ورد ذكرهما في سفر (التكوين ، وأنهما أي يأجوج ومأجوج سيقودان جيوشاً جرارة لتدمير إسرائيل ومحوها من الوجود،, وعندئذ ستهب قوة عظمى لحماية اليهود، في حرب يريدها الرب،, وتقضي على يأجوج ومأجوج وجيشيهما ليبدأ العالم بعدها حياة جديدة). هذا ما جاء بالنص في كتاب (جان موريس) ، والكتاب يطفح بالكثير من الأوهام التي قادت جورج بوش إلى غزو العراق ، ومنها المنازلة الخرافية الكبرى التي يطلقون عليها (هرمجدون)، هي المعركة المنتظرة التي خططت لها المذاهب اليهودية المتعصبة، واستعدوا لخوضها في الشرق الأوسط، ويعتبرونها من المعارك الحتمية الفاصلة. وإذا كان من تعليق على هذا ، فنقول إن ذكر يأجوج ومأجوج وارد في القرآن الكريم في كل من سورتي الكهف والأنبياء، كما ورد في الحديث الصحيح. ويرد في الكلام عن قوم يأجوج ومأجوج في المراجع الدينية الإسلامية أقوال منقولة عن الإسرائيليات ، غير أن غالب مفسري القرآن ممن أخذ المسلمون تفسيرهم بالقبول لم يذكروا تعيين هؤلاء القوم ولا أسماء قبيلهم ، كما يقول ابن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير. والمهم هو أنه لم تقم على قصة يأجوج ومأجوج في تفكير المسلمين عقائد منحرفة ، مثل تلك الخزعبلات والأساطير التي صارت ترد في تصريحات الرؤساء الأمريكيين منذ الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ريغان). ويذكر معجم «لاروس» الفرنسي يأجوج ومأجوج باعتبارهما رمزاً للشر في الأديان الثلاثة ؛ الإسلام والمسيحية واليهودية. ولا نعلم كيف استحالت الحقائق الدينية إلى أساطير توجه السياسة إلى أعمال لا يصدقها العقل. في شهرين فقط قتلت القنابل الأمريكية في أفغانستان أربعة آلاف شخص على الأقل ، بمعدل (62) قتيلاً في اليوم. وكما تورد إحدى الدراسات الموثقة؛ حدث ذلك في بلد ميزانيته السنوية عندما وقع الغزو الأمريكي (83) مليون دولار، عشر تكلفة قاذفة واحدة من طراز (ب 52)! أذكر أن دار نشر سودانية تحمست لترجمة وطباعة كتاب (النبوءة والسياسة) للأمريكية (جريس هالسال) ، وذلك في منتصف التسعينيات ، وقد جعلني حسن الظن بالسياسة الدولية آنئذٍ ألا آخذ ذلك الكتاب بجدية ، واعتباره من الكتب الدعائية. ومما جاء فيه كيف نشطت المحطات التلفزيونية في تناول معركة (هرمجدون) ، إلى درجة أن برنامجاً لأحد الكهنة كانت تبثه تسعون قناة تلفزيونية وثلاث وأربعين محطة إذاعية. ومما يثير القلق أن أصحاب هذه التوجهات يصلون إلى مواقع صناعة القرار ، ويكون لهم القدرة على فرض نفوذهم على الحكومات والشعوب. إذن حرب العراق لم تكن وليدة المسؤولية الدولية كما قالوا لنا للقضاء على أسلحة الدمار الشامل ، ولا إقامة نظام ديمقراطي في العراق ولا التخلص من النظام العراقي الديكتاتوري ، إنها بكل بساطة كانت لمطاردة يأجوج ومأجوج ، ولو لم يكشف الرئيس الفرنسي مكالمة بوش بصوته للصحفي الفرنسي ، لأمكن التشكيك في الواقعة. ولكن هؤلاء المهووسين مؤمنون بباطلهم إيماناً عجيباً... وقد سئلوا بعد احتلال العراق : هل وجدتم ما كنتم تبحثون عنه حقاً؟ فأجابوا في ثقة يحسدون عليها : لا لم نعثر على يأجوج ومأجوج في بابل لأنهما فرا هرباً نحو الشرق ، ويتنقلان الآن بين إيرانوأفغانستان وباكستان.