يبدو أن المؤتمر الوطني في طريقه لخوض معارك شرسة في أكثر من جبهة خلال الفترة المقبلة. وهي معارك تختلف أسلحتها حسب الميدان والمضمار، خصوصاً وأن رؤية المنظر من عدة زوايا تجعله ملتبساً ولا يكاد يبين خيطه الأبيض من الأسود وبالتالي معايرة الربح والخسارة وزناً أو موضوعاً. وللتمثيل فقط فالوطني كحزب يمسك بمقاليد الدولة بموجب الانتخابات التي جرت أخيراً؛ يحاول عسكرياً - في المقام الأول- سد الثغرة المفتوحة في جنوب كردفان، ويحاول سياسياً إغلاق ملف دارفور المفتوح منذ العام 2003م بصورة نهائية، ويحاول دبلوماسياً نسف بؤر التوتر المحتملة مع دولة الجنوب المنتظر ولادتها الشهر المقبل، ويحاول فنياً التوصل لصيغة قانونية مقبولة تتواضع عليها القوى السياسية بشأن إعداد مسودة دستور دائم شريطة أن تكون الغلبة فيها للناظرين بعين الرضا. --- ومن النقطة الأخيرة (إعداد وثيقة دستور دائم) نحاول إجراء مسح متعجل على مواقف القوى السياسية من هذه الوثيقة القانونية بالغة الأهمية كونها تحكم علاقات الدولة مع المجتمع، وتنظم علاقات القمة، وتبت في نزاعات القاع بادئين بالموقف الدستوري بعد التاسع من يوليو أي عقب نهاية الفترة الانتقالية. ونجد أن المؤتمر الوطني مصر على حاكمية دستور الفترة الإنتقالية بعد إسقاط المواد المتعلقة بالجنوب وذلك لحين الفراغ من إعداد دستور دائم للبلاد. ونقتبس هنا مقولة علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية خلال فعالية سياسية جرت قبل ايام قال فيها: لحين إعداد دستور دائم، فالدستور الإنتقالي كامل المشروعية والدسم، واضح النصوص، ويحكم نشاط الدولة. هذا عن رؤية الحكومة، المختلفة بكل تأكيد عن رؤية قوى المعارضة، فبحسب رأي فاروق أبوعيسى القيادي في صفوف تحالف الإجماع الوطني (قوى جوبا) فإن الدستور وشرعية الحكومة وكل مؤسسات الدولة سينتهي أجلها بعد التاسع من يوليو، وطالب في حديثه مع (الرأي العام) المؤتمر الوطني بالبحث عن شرعية جديدة غير تلك المبنية على الانتخابات التي وصفها ب (المزورة)، وقال: حال استمرار حكومة الوطني فهذه (زندية). ذات الرؤية ذهب إليها عثمان عمر الشريف، القيادي بالحزب الإتحادي الديمقراطي (الأصل)، وزير العدل خلال حقبة الديمقراطية الثالثة، ولكن بصورة مخففة. عثمان أماط اللثام عن مشاورات تمت بينهم وقيادات في حزب المؤتمر الوطني بهدف تقريب وجهات النظر حول وثيقة الدستور الدائم، ومن ثم نقل وجهات النظر تلك لبقية القوى السياسية. وقال ل (الرأي العام) تلك المشاورات تعثرت عقب طرحنا لسؤال فني متعلق بالوضعية الدستورية التي تلي انفصال الجنوب؟ وأضاف: قبلنا دستور نيفاشا الثنائي حفاظاً على السلام وديمومته وبعيد رحيل الجنوب انتقلت المقاليد للوطني بمفرده، ونحن نرفض أن تحكمنا رؤية الحزب الواحد. وهي فرضية حملت الصحيفة لسؤاله: ثم ماذا بعد؟ ليرد هو: الوطني قبل وجهة نظرنا الباحثة عن حد دستوري أدنى يعيد الثقة بين مكونات الساحة السياسية وطالبنا بالتعبير عن وجهة نظرنا تلك كتابةً وقال: نحن الآن بإنتظار رده، ونقدر تماماً انشغاله بظروف البلاد الراهنة. هذا عن جدل الشرعية، فماذا عن جدالات الدستور نفسه؟ فالبعض يرى أن أشرس المعارك المتوقع إندلاعها في مساعي التوافق الدستوري تتمثل في مسألة الدعوة لإقامة الشريعة الإسلامية في قبالة المنادين بعكس ذلك وهم هنا دعاة الدولة المدنية. الوطني أكد أكثر من مرة استعداده للحوار المفتوح دون سقوف حول كل القضايا باستثناء وحيد يقر معه بأن الشريعة الإسلامية هي الثابت الوحيد لدى الحزب والشعب. وهو ما عارضه أبو عيسى بالقول انهم ضد الدولة الدينية ومع قيام الدولة المدنية (دولة المواطنة) وزاد: الوطني صدر إلينا شعار (الإسلام هو الحل) لحل مشكلاتنا وما حصل هو أنه ضيّع الإسلام، وعقد مشكلات الوطن. وفي سياق متصل، ومختص بشأن الإجابة على أهم ملامح الدستور الدائم الذي تريده القوى السياسية أوضح أبو عيسى بأن الدستور المتفق عليه هو القادر على الإجابة على تساؤلات من شاكلة؟ أيهما الأجدى النظام الرئاسي؟ أم البرلماني؟ هل ينص صراحة على مصادر التشريع؟ أم نلحق ببقية دول العالم التي أوقفت تلك (القضية) بإحالة كل القوانين لبرلماناتها. بينما يريد عثمان عمر الشريف للدستور أن يكون مرآة تعكس التنوع الذي يسود البلاد، ويعلي قيم المساواة أمام القانون، بجانب السير على قضبان (العدالة الاجتماعية) كمنهاج اقتصادي يراعي شكل علاقة سليمة بين الدولة والمواطن. أما المواعين التي يمكن أن تحمل كل تلك الرؤى فهي متوزعة بين دعوات المؤتمر الوطني للمشاركة في أمر الإعداد للدستور الدائم دون تحديد إطار محدد، ودعوات قوى الإجماع لإقامة مؤتمر دستوري يحدد الموجهات الدستورية العامة يستثنى منه الوطني (لفسالته) وعدم تقديمه رقاع الدعوة للقوى السياسية بحسب أبو عيسى، وبين التأسيس لمسودة دستور تعكف على إعدادها لجنة قومية ومن ثم تحيلها للجنة فنية تعرضها لاستفتاء عام أو على جمعية تأسيسية وفق ما يتفق عليه. على كلٍ، فالكل متفقون على ضرورة استصحاب الجميع دون استثناء في سفينة (الدستور الدائم) وحتى حديث أبوعيسى القائم على ردة الفعل يمكن تجاوزه حال عمدنا على الاستمساك بتلك الفرضية (استصحاب الجميع) كأساس للبناء الدستوري .