تجعل ساعات الإنتظار الرحيبة في المطارات العالمية الإنسان يتأمل المكان والزمان، ويتفحص الزائرين: أمقيمين هم أم عابرين؟ ولكن كلما تطوفت على دولة من دولة الخليج العامرة بزائريها تتملكني مشاعر متناقضة من الغبطة والرجاء والخوف؛ غبطة بعظمة ما تحقق من تنمية وعمران، ورجاء بأن يمن الله على أهل البلاد بمزيد من المنعة والإقتدار وضبط المسار، وخوف باعثه أطواف البشر الغرباء الذين لا يهدأ تدفقهم على بلاد سخية المدد قليلة العدد. ولا يتعلق بالخوف هنا مطالبة بالتوقف عن مشروع النجاح، ولا إلحاح بالتراجع عن مشروعية التفوق. وهو قلق لا تبرره تفاصيل منطق معلوم، ولكنه أعمق قليلا من مجرد التحسب الوجداني لأضرار الحسد والعين. ففي النفس شيئ من رغبة الإطمئنان على المستقبل، الذي تشيد له هذه النجاحات الباهرة، وبعض الحس التضامني مع دول تنفق كسب حاضرها تأسيسا مبدعا لمستقبلها. ولكن طموحاتها كبيرة وشعوب بعضها صغيرة، والعالم الملهوف يضايقه العيش في مكانه، ويزحف إلى الرزق الوفير في مظانه، فهل يكفيه نصيبه من أجر العمالة؟ إن صحة ما يقوم به الخليجيون تكمن في نتائج نجاحاتهم العملية، أو فعالية إنجازاتهم ونجاحها في حل المعضلات التي تجابه قضية التنمية. فإذا كانت سياسة ما تؤدي إلى حل المشاكل العالقة في المجتمع بكل فعالية ونجاح، فهذا يعني أنها صحيحة، وإذا فشلت في ذلك، فهذا يعني أنها خاطئة. وهذا يدل على أن عقلية القيادة الخليجية هي عقلية براغماتية عملية، لا ثورية، ولا خيالية، ولا طوباوية مثالية. وثمة تجارب خليجية قد تبدو جديدة لكنها جديرة بالإحترام؛ فمن أسباب النجاح لدى كثير من دول مجلس التعاون الخليجي هي البحث عن الكمال والواقعية الشديدة في تحصيله، والكمال غالباً ما يكون مستحيلاً في ظروف لا يتكافأ فيها الطموح مع الموارد البشرية المحدودة لكل هذه الدول، إذا استثنينا المملكة العربية السعودية، التي تبذل جهودا مضنية في إلحاق مواطنيها بفعل التنمية الاقتصادية المباشر، وسعودة ما يمكن الاستغناء فيه من العمالة الوافدة، بتدرج لا تختل فيه معادلات النجاح الذي تحقق. ورحلة الألف ميل في المملكة لا تبدأ بخطوة واحدة، كما يوصي بذلك مثل التجربة الصينية، ولكن تتسع فيها الخطوات لتلحق بهدف متلازمات التنمية الوطنية، التي تتداخل فيها موجبات العناصر الداخلية مع ضرورات التماثل مع أشراط العولمة الخارجية. ومن ثم، فإن ربط الإنجاز بخطة ومنهج مرحلي يقوم الإختلالات السكانية، ويرتفع بمستويات العمالة الوطنية، سيجعل من فرص النجاح، الذي لا يتهدد به الأمن القومي، أمراً ممكناً. وقد كانت تجربة مجالس التعاون الخليجي واحدة من الخيارات المنقذة لكمالات هذه النجاحات الكبيرة على المستوى الاقتصادي، فخلال سنيه تشكلت الروح الخليجية المتقاربة، وتجانست كذلك الأهداف التنموية. ولم يعد ممكنا التعامل مع حركة اقتصاد دولة خليجية بمفردها دون التماس مع حقائق الاقتصاد الكلي لدول الخليج مجتمعة، ولا يمكن فصل نجاح قطر منها عن المناخ الخليجي العام، الذي صارت سمة التقارب الشديد فيه تطبع علاقاته البينية، التي تعززها سياسات التقارب والإندماج المتلاحقة. وبالتالي، فلكي نفهم سياسة عاصمة معينة من عواصمه، فإنه ينبغي علينا أن نتعرف على فلسفة مجلس التعاون الخليجي بأبعادها المختلفة، والبواعث العميقة التي تحرك العلاقات في محيطه الخارجي ومجمل روابطه الخارجية، وكذلك منهجية قيادته الهادئة في الفعل ورد الفعل، أي في معالجة القضايا المطروحة دون كثير صخب أو ضوضاء. ولا يمكن بالقطع اختزال جهود الحكومات الوطنية الخاصة في مجرد تمثل لقرارات مجلس تتباعد لقاءاته، أو تقليد كل قطر لسياسات الآخر، أو إعتبار أي من دوله امتداداً للأخرى، بالرغم من أنها تسعى جميعا أن تكون امتداداً استراتيجيا لأمن الأخرى، أو تقبل طواعية أن تشكل زرعاً ودرعا واقيا لها في زمن العولمة الجديد، ولكنها دول لا تزال مستقلة بسياداتها الوطنية، وكل دولة لها شخصيتها وسماتها الخاصة، رغم ما يجمع بينها من مشتركات لا تفتأ تتعاظم، وأصبحت نموذجا لتكامل يتقصد الإندماج ولا يستعجله. ولكن قبل أن ندخل في صميم ما نستشعره من خطر تسارع النجاح الاقتصادي، وما يستقطبه من عمالة وباحثين عن الثراء، على سرعة لحاق المجتمعات الخليجية والتأهل العددي والمهني المفضي لإمتلاك حقائق هذا النجاح والسيطرة المقتدرة على تحدياته واتجاهاته، ينبغي أن نطرح هذا السؤال: ما هي الفلسفة وراء سياسة الأبواب المفتوحة، التي لا تكاد تدخر جهدا في تحقيق مزيد من النجاحات، والتي تجتذب المزيد من القادمين الجدد؟ وفي الواقع لا نملك إجابة تغيب عنا حقائقها، ولكنه تساؤل مشفق يسعفه مجرد التطمين على أن المسيرة بالغة أهدافها، أو كمن ينتظر من يفند له خطأ السؤال كأفضل إجابة يحصل عليها. أو تقول له الإجابة المفترضة إنه على عكس ما يتوهم، فإن كل شيئ محسوب بقدره، ومسطور بتمامه، وأن النجاح الذي يتسابق عليه الخليجيون جميعا مشروط بالسياق الذي يولد فيه، والذي لا يكون إلا خليجيا، ولمصلحة الخليج وأمنه. فالسياق الخليجيى ولّد تجربة ذات سمات وملامح تختلف عن النجاحات، التي ولَّدتها السياقات العربية الأخرى، لأنها، أي الخليجية جاءت بمنطق سياسي مغاير للثوريات وحماس الإنفعالات، وبدأت متدرجة، وهادئة، ومستوعبة للحقائق الواقعية المعاصرة، محليا وإقليميا وعالميا. وهذا لا يعني بالطبع أنه لا توجد سمات مشتركة بين مختلف السياقات العربية. فالواقع يحدثنا أنها جميعها قائمة على التساؤل الآني عن الجدوى الإستراتيجية للتنمية الاقتصادية، والمحاججة العقلانية عن ضماناتها لتماسك عرى الأمن القومي، وليس على التسليم والإبتهاج بها كطفرات تقفز بالتسرع اللاهث للنجاح عن حقائق هذا الواقع، المأزوم بضروراته، والمهموم بتكاثف تحدياته. ورغم أن هناك خصوصية للتجربة الخليجية، ولكن ما يهمنا هنا هو الكشف عن ما يجول بخواطرنا عندما تدهشنا قصص نجاح جديدة، يستوقف تعبيرات الفرح فيها سؤال الغد، الذي تتخفى في باطنه الإجابة. ولكننا، بالغوص المتعمد في حرز الحقائق، نكتشف أن الأمور أكثر تعقيداً من مجرد الإنطباع العابر بالفرح أو الخوف، وأن هناك استقلالية متميزة للقيادات البارعة، التي تقف خلف كل إبداع يجاهرنا ببنيانه وبيانه. وأن المحاذير، التي نستشعرها، تدرسها مؤسسات راسخة في العلم بما هو حادث، وعليمة بما هو مقبل ومحتمل، غير خوفنا الحريص يرفدها بالحفز على التقصي، لأن العابر يرقب بالإنطباع جدةوجدة ما تخمده عادة المعايشة. فإن تراكم التحديات لا يحصل دفعة واحدة، وانما على مراحل تستغرق زمن الملاحظة ذاتها. والأمن القومي الخليجي مرتبط بالطريقة التي تتشكل فيها عوامل النهضة يوماً بعد يوم، بل وبالطريقة التي يتزاحم فيها العالم للمساهم بأقوام لا يرجعون من حيث أتوا، وتتجاوز مطالبهم أجور العمل إلى حقوق المواطنة.