السودان شهد 6 آلاف معركة.. و17 ألف مدني فقدوا حياتهم    شاهد بالفيديو.. مذيعة تلفزيون السودان تبكي أمام والي الخرطوم "الرجل الذي صمد في حرب السودان ودافع عن مواطني ولايته"    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    واصل برنامجه الإعدادي بالمغرب.. منتخب الشباب يتدرب على فترتين وحماس كبير وسط اللاعبين    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مرحلة ما بعد بوش

هل هو خلاف مع القوة المهيمنة ؟ تقديم بروفسير بول مروكرافت من الشائع في منطقة الشرق الأوسط قيام أعداء الولايات المتحدة بإدانة الغرب ككل، وحتى في أوساط المراقبين الأكثر الماما تعتبر اختلافات الرأي بين أوربا والولايات المتحدة اختلافات شكلية أكثر منها حقيقية على الرغم من ان بعض البلدان تنظر إلى فرنسا كبلد مستقل استقلالا حقيقيا. وحتى في أوج الحرب الباردة كان أعضاء حلف الناتو يبدون اختلافات عديدة في سياساتهم، فقد رفضت بريطانيا على سبيل المثال المشاركة في حرب فيتنام كما عادت الولايات المتحدة مؤامرة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل لاحتلال قنال السويس ، وهناك اختلافات عديدة في الرأي حول السودان، والتي تكون بدورها مختلفة عن أراء واشنطون حول السودان، كما ان هناك مجموعات ضغط ذات توجهات مختلفة حول الشرق الأوسط بشكل عام، والسودان بشكل خاص. وعلى الرغم من ذلك فان سياسة الولايات المتحدة تحظي باهتمام أكبر على الأخص في وسائل الإعلام، وبناء على ذلك، ينصح أي وزير خارجية سوداني بإجراء تقييم حصيف لتلك الاختلافات وألا تنحصر مجهوداته فقط في تحريك الاختلافات في السياسة الغربية لمصلحة الخرطوم، فواشنطن تخطيء في اغلب الأحيان في تفسير المواقف والمؤشرات، وهي تختلف في ذلك عن السياسة البريطانية التقليدية التي تعامل بترفع السياسة الأمريكية المسنودة بالقوة لكنها في نفس الوقت تتسم بالصلف والسذاجة. ان الولايات المتحدة علي وشك الدخول في عهد ما بعد بوش. وإذا تم اختيار رئيس ديمقراطي جديد، خاصة إذا كان باراك اوباما، فانه على الأرجح سوف يدعم عرضا أكثر استنارة للقوة الأمريكية المهيمنة. إننا نجتمع هنا اليوم ليس لمجرد استغلال مقدراتنا الميكافيلية في تفحص الفروقات في السياسة الغربية لإكساب الخرطوم المزيد من الفوائد وإنما أيضا لدراسة المداخل التي يمكن طرقها عبر أفرع السياسة الغربية المختلفة ولرفض المداخل المسدودة، آملين في انبثاق توجهات جديدة ليس فقط في هذا البلد وإنما في هذه المنطقة التي ظلت تنادي للسلام بأكملها. الفترة الاستعمارية: تعود روابط السودان بالسياسة الأوربية إلى عهد بعيد . ولم تكن الفترة الاستعمارية في السودان مجرد رواية عن مغامرات انجليزية خلال فترة الهيمنة الانجليزية المصرية. وتسرد قصص التأريخ البريطاني روايات عن الجنرال غردون وهجمات كتائب الفرسان التي رواها ونستون تشرشل خلال معركة أم درمان، لكن هذه الكتب نادرا ما تأتي على ذكر النمساوي رودلف سلاطين (أو سلاطين باشا) أو الألماني أمين باشا اللذين عملا محافظين لمناطق بالسودان، اذ ان سير هاتين الشخصيتين سردهما آلان مورهيد سردا محكما في كتابيه الشهيرين (النيل الأبيض" و" النيل الأزرق). بعد أن نال استقلاله في عام 1956 ظل السودان مرتبطا بوشائج الحنين مع بريطانيا، بخاصة في المجالات التعليمية والثقافية، لكن تلك السنة أيضا مثلت امتحانا صعبا للدبلوماسية البريطانية والفرنسية حيث أرست سياسة الضغط التي مارستها الولايات المتحدة على بريطانيا وفرنسا لإثنائهما عن غزو مصر نمطا ساد فيما بعد، وبعدها صارت لندن تحرص على تجنب مناوئة الولايات المتحدة في النقاط الجوهرية بالسياسة الشرق أوسطية الا ان كبار مسئولي الخارجية البريطانية كانوا يبدون استيائهم من ذلك النهج، وقد استمر ذلك ألانصياع البريطاني إلى يومنا هذا كما وضح ذلك جليا في الغزو المشترك للعراق في عام 2003. وقد شعرت فرنسا في عام 1956م ان الولايات المتحدة قد خانتها وبدأت تميل بعد ذلك إلى تجنب التحالف مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ما لم تبدي الأمم المتحدة أو الشارع العربي موافقتهما على ذلك، وقد كان إجلاء صدام حسين من الكويت شاهدا جليا على ذلك، وخلال حكم شارل ديجول تخلت فعليا عن التعاون مع حلف الناتو، على وجه الخصوص بسبب خلافاتها الرئيسية مع الولايات المتحدة حول شمال أفريقيا ، وخلال الشهور القليلة الماضية فقط اقترح الرئيس ساركوزي إعادة الدمج الكامل مع الناتو حيث صار أكثر اقترابا من سياسات الولايات المتحدة الشرق أوسطية والأفغانية، وقد أصبح الفرنسيون الآن محل ترحيب في البيت الأبيض على الرغم من ان عدد قليل من المسئولين البريطانيين يقرون علانية ان فرنسا كانت على الدوام على حق بالنسبة للعراق. ثورة عام 1989م: لقد أبدت معظم وزارات الخارجية الغربية اهتماما متواترا بالحرب في الجنوب، خاصة بسبب الارتباطات الإسرائيلية المبكرة أو لأن الخرطوم أثارت مشاكل في بعض الدول التسع المجاورة لها،والتي كان بعضها مستعمرات بريطانية أو فرنسية سابقة ، وبالمقابل سعت العديد من تلك الدول إلى إذكاء الحرب الأطول في أفريقيا والتي دارت رُحاها بين شمال وجنوب السودان ، وقد أبدت لندن في بعض الأحيان قلقها حيال حجم الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة للجيش الشعبي لتحرير السودان وتوابعه اللوجستية في يوغندا وكينيا التي هي مناطق ذات اهتمام خاص لبريطانيا. كانت الخرطوم في السابق تعتبر حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة، وخلال فترة بداية ومنتصف عقد الثمانيات كان السودان ثاني اكبر متلقي للمعونة العسكرية الأمريكية بأفريقيا بعد مصر، لكن في الفترة التي تلت عام 1989 الذي أقيمت فيه حكومة إسلامية ثورية تغير المزاج في واشنطن، وعلى النقيض من لندن، وضعت واشنطون السودان في مرتبة واحدة مع إيران (على الرغم من التناقض الصارخ بين الاثنين)، كذلك اتهمت واشنطون السودان بمناصرة صدام حسين إبان حرب الخليج. في عام 1990 أوقف الاتحاد الأوربي معونة التنمية لحكومة السودان بسبب القلق حول انتهاكات حقوق الإنسان والحرب في الجنوب، وعلى الرغم من وضع إجراء حظر الأسلحة موضع التنفيذ الا ان الاتحاد الأوربي لم يضع قيودا على استثمارات أعضائه في صناعة النفط السودانية النامية، لكن واشنطون على النقيض من ذلك منعت شركاتها من الاستثمار في النفط السوداني متيحة بذلك المجال للصين. وفي عام 1993 أدرجت إدارة كلينتون (عليَّ الآن ان أقول إدارة بيل كلينتون في حال تبوأت هيلاري كلينتون الرئاسة) السودان كدولة راعية للإرهاب، كما اتهمت الولايات المتحدة ودول أخرى السودان بالتورط في محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك. وفي 1996 فرضت الأمم المتحدة والولايات المتحدة عقوبات على السودان واغلقت السفارة الأمريكية في الخرطوم. وقد مالت وزارة الخارجية الأوربية إلى اتخاذ موقف أكثر مرونة من هذه التطورات وظلت السفارة البريطانية مفتوحة كدلالة رمزية على ذلك الموقف، وعلى عكس واشنطون استمرت لندن في مباشرة علاقات دبلوماسية كاملة مع السودان. وكان هنالك كذلك الإشكال المتعلق باستضافة الخرطوم لأسامة بن لادن خلال 1991 – 1996 إذ صارت تلك المسألة بعد 11 سبتمبر تزداد أهمية بأثر رجعي بالنسبة لكل من الولايات المتحدة والسودان ، وتشير الإفادات الرسمية من الخرطوم إلى ان السودان كان مستعدا لتسليم أسامة بن لادن للولايات المتحدة، لكن بعض ضباط المخابرات الغربية دفعوا بأنهم لم يقبلوا ذلك العرض لأنه لم يكن جادا، وقد كان هناك الكثير من اللغط – خاصة في أوساط المخابرات – بأنه لو تم إرسال اسامة بن لادن إلى الولايات المتحدة وتمت محاكمته لكان العالم مختلفا عما هو عليه الآن. دعوني الآن اذكر لكم مقتطفات من حوار طويل كنت قد أجريته في عام 2002 مع الفريق قطبي المهدي، رئيس المخابرات السودانية السابق: (عندما كان أسامة بن لادن هنا كان تحت المراقبة، كنا نراقبه بينما كان هو مشغولا بأعماله .. لقد كان طرده خطأَ كبيرا). وفيما بعد أخبر الرئيس كلينتون صحيفة صنداي تايمز اللندنية ان عدم قبول العرض السوداني كان أكبر خطأ خلال فترة رئاسته. وقد نشب جدال في كل من واشنطون ولندن حول جدية العرض الخاص بتسليم أسامة بن لادن. وقد أرادت عناصر في ال FBI ووكالة المخابرات المركزية التسليم بجدية عرض السودان لكن عناصر أخرى بالإدارة الأمريكية لم تقر بمصداقية العرض، مفترضة ان السودان كان يرغب في حوار استخباراتي لصيق لإضعاف العقوبات المفروضة على دولة (مارقة) تحاول الولايات المتحدة عزلها، وفي لندن اتخذ البريطانيون موقفا سلبيا على الرغم من ادعائهم الأصلي بأن السودان اكسر انتماء للعمليات الاستخباراتية البريطانية. في عام 1998 ألقت الولايات المتحدة باللائمة على أسامة بن لادن في حادثتي قصف السفارتين بتنزانيا وكينيا، وعلى اثر ذلك قصف البنتاجون السودان وافغانستان بصواريخ موجهة، وفي الخرطوم كان هدف تلك الصواريخ هو مصنع الشفاء للأدوية والذي ينتج عقارات مضادة للملاريا ومنتجات بيطرية وليس أسلحة كيمائية، وعلى الرغم من علمهم بذلك آثر البريطانيون الصمت بدلا من إحراج بنو عمومتهم عبر الأطلسي، وقد أيدت لندن الهجوم بشكل رسمي. الحرب على الإرهاب: بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر احست الخرطوم أنها على مرمي من قذائف الولايات المتحدة، وقد ألقت الخرطوم اللوم على واشنطون لتصويرها في شكل دولة شيطانية لأن فكرة دولة إسلامية لم تكن تروق لها، وعليه أدرجت السودان كدولة إرهابية ، وقد دفعت الخرطوم بأن الأمريكيين هم الإرهابيون الحقيقيون لأن واشنطن قامت في أوقات مختلفة بتشجيع كل من يوغندا وارتريا وإثيوبيا على دعم المسلحين والمعارضة التقليدية على اختراق السودان، وقد قدمت واشنطون الدعم الدبلوماسي والمالي للجيش الشعبي لتحرير السودان بالجنوب بشكل منتظم بسبب الضغط الذي مارسته مؤتمرات الأحزاب للأمريكيين السود بالكونغرس، وعلى الرغم من ان الدول الأوربية قد وفرت الدعم الأساسي للجنوب لكنها لم ترسم السودان بالصورة الشيطانية التي رسمته بها الولايات المتحدة كما لم تكن السياسة الأوربية منصاعة لمجموعات الضغط المحلية كما هو الحال في الولايات المتحدة، وقد قامت فرنسا على سبيل المثال بإبرام صفقة مع الخرطوم لتسليم كارلوس(الثعلب) ، فلو كانت الولايات المتحدة قد تبنت نفس النهج لكان بن لادن الآن في احد السجون الأمريكية. وبعد الحادي عشر من سبتمبر توجس السودان حدوث نسخة مكبرة من مأساة مصنع الشفاء فعمدت الخرطوم إلى تصعيد جهودها الدبلوماسية، ونتج عن ذلك تعاون استخباراتي لصيق مع وكالتي الاستخبارات الامريكية والبريطانية (ام آي6 ) على الرغم من ان الوكالتين استجابتا بشكل مختلف، فقد كانت المخابرات البريطانية على سبيل المثال غير راغبة في تفحص الملفات العديدة التي زودتها بها المخابرات السودانية عن القاعدة. وقد نتج عن التعاون الاستخباراتي الذي وفرته الخرطوم تذويب العلاقات مع بعض الأقسام بالإدارة الأمريكية لكن العقوبات الأمريكية ظلت كما هي، وعلى النقيض من ذلك، طرأ تحسن بالعلاقات بين الاتحاد الأوربي والسودان. وفي أكتوبر 2002م تم رهن التطبيع الكامل واستئناف العلاقات بعملية السلام بين الشمال والجنوب، ثم أسقطت العقوبات المفروضة من قبل الأمم المتحدة (باستثناء حظر السلاح) ولم تعترض الولايات المتحدة على أي من هذه الخطوات، وبدأ السودان يخرج من عزلته الدبلوماسية، ونتيجة للتعاون الاستخباراتي وإسقاط حسن الترابي والتحسن في المفاوضات مع الجيش الشعبي لتحرير السودان والازدهار الاقتصادي الملحوظ بالإضافة إلى عامل النفط سلم الاتحاد الأوربي بأن الخرطوم قد بدأت تسقط عنها بعض سماتها الإسلامية الأصولية. وكانت الولايات المتحدة اقل انبهارا بتلك التطورات، وظلت العقوبات كما هي وظل السودان مدرجا تحت قائمة الدول التي ترعى الإرهاب. حلول السلام: احدث توقيع اتفاقية نيفاشا بتاريخ 9 يناير 2005 تغييرا كليا في علاقة أوربا بالسودان، وقد كانت نيفاشا آنذاك رمزا لآمال أفريقيا حيث وضع توقيع تلك الاتفاقية النهاية لأطول الحروب الأفريقية ، وبعد انقطاع في العلاقات مع الاتحاد الأوربي دام خمسة عشر عاما وقعت بلجيكا مع السودان ورقة استراتيجية قطرية بتاريخ 25 يناير من نفس العام رصد بموجبها مبلغ 400 مليون يورو للفترة 2005 – 2007 ، وكانت هناك بالتأكيد تفاصيل يستوجب استكمالها، بما في ذلك ديون السودان لبنك الاستثمار الأوربي، ولكن الرسالة الصريحة كانت هي ان المفوضية الأوربية قد أبدت حرصها على تقديم حصة السلام للسودان، وقد صارت تلك الخطوة فيما بعد جزءا من إستراتيجية الاتحاد الأوربي نحو أفريقيا، والتي استهلت في ديسمبر 2005، وكانت تدعو إلى الحكم الراشد والسلام والتبادل التجاري والأمن،
أي إنها كانت تتضمن الكثير من البلاغة اللفظية تضمنت أيضا التمويل من بنك التنمية الأوربي. لقد كانت اتفاقية السلام الشامل نصرا دبلوماسيا نادراً لإدارة بوش لأنها لم تختر ان تفاخر به بسبب النفوذ المتواصل لمجموعات الضغط الجبارة المعادية للخرطوم بواشنطون، لكن واشنطن كانت قد لعبت دورا رئيسا مع المملكة المتحدة والنرويج في تقريب وجهات النظر لإحلال السلام بالجنوب، وقد استثمرت الدول الغربية الكثير من الوقت والصبر ورأس المال السياسي لتحقيق اتفاقية السلام الشامل، وبانتهاء أطول الحروب كان السودان والغرب موعودين بعهد جديد، لكن فجأة تبدد كل شيء بسبب أزمة اسمها دارفور. دارفور: ستتم مناقشة دارفور في أوراق أخرى، لكن دعوني هنا ابدي بعض الملاحظات البارزة. وأود أولا ان انوه بأنني قد أحرزت سبقا صحفيا نتيجة لاعتقالي بالخرطوم ، فقد تم اعتقالي بواسطة وزير العدل شخصيا في صباح أول يوم من أول زيارة لي في عام 1996م. نعم لقد كانت زياراتي اللاحقة أكثر ودا، لكنني لا أجامل الحكومة حين أقول أنها مظلومة في دارفور أكثر منها ظالمة. لقد كانت دارفور آخر شيء ترغب فيه الخرطوم التي لم تبدأ تلك الحرب بالتأكيد، لقد كانت تحركاتها الأولية المقاومة للتمرد قاسية لكن ذلك يندرج تحت طبيعة الاستراتيجيات الخاصة بالعمليات المقاومة للتمرد، إنني أتحدث بصفتي دارسا لعمليات مقاومة التمرد من خلال خبرتي بوزارة الدفاع كموجه رئيسي بأكاديمية ساند هيرست العسكرية الملكية، وقيادة الخدمات المشتركة بالمملكة المتحدة وكلية الأركان إضافة لعملي كمراقب بالخطوط الأولي لأكثر من 30 حربا مماثلة. وقد أعلنت صراحة في أعمدتي بالصحف والبث المرئي والمنتديات العامة العديدة ان دارفور ليست حرب إبادة، وان فظائع عديدة قد ارتكبت من قبل جميع الأطراف وانه يتوجب على حوالي 12 فصيل متمرد الإسراع بالموافقة على مفاوضات سلام ذات مغزى، ان فرض المزيد من العقوبات على الخرطوم سيكون ذا مردود عكسي، وسوف يؤدي بشكل خاص إلى إعاقة التنمية الاقتصادية التي تعد جوهرية بالنسبة للتنمية التي يرغب فيها أهل دارفور، وفي اغلب الأحيان يتم إبراز الخرطوم بالولايات المتحدة (وليس في أوربا) على إنها دولة متسلطة . إنني اختلف مع ذلك الرأي، تواجه الخرطوم الآن مشاكل السلام في الجنوب – لا زالت اتفاقية السلام هشة للغاية – إضافة للحروب في الشرق والغرب، وينتابني القلق من ان السودان سوف ينفجر من الداخل ويصبح مثل الصومال. إن التصور الغربي للتدخل في دارفور بواسطة الأمم المتحدة (بغض النظر عن كونه عملية للأمم المتحدة وليس الولايات المتحدة) سوف يغذي على الأرجح الطموحات الجهادية بالمنطقة بدلا من إرساء للسلام، وقياسا على ذلك أن أكثر من 160 ألف جندي من قوات التحالف لم يستطيعوا إخماد التمرد في العراق، فان قوات الأمم المتحدة التي ينقصها التنسيق والكفاءة لن تستطيع فرض السلام في دارفور التي ليس بها سلام ليحفظ. وأنا أري انه ينبغي على القوى الغربية تكرار ما بذلته في نيفاشا من حيث الزمن والطاقة والصبر والفعالية لحث الحركات المسلحة لقبول اتفاقية سلام دارفور، ربما ببعض التعديل. دعونا نلقي نظرة عابرة على اختلافات سياسات الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي حول دارفور، لقد كانت المفوضية الأوربية للشئون الإنسانية – التي هي الذراع الإنساني للاتحاد الأوربي – أكثر المانحين سخاء لتشاد ودارفور، كما لعبت المنظمات الأوربية غير الحكومية، بخاصة أطباء بلا حدود، دورا بطوليا، لكن الاستجابة السياسية للاتحاد الأوربي كانت مختلطة. إن السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي ككيان متوحد هي الآن في حالة انصهار دستوري لأن الجدل المرهق حول دستور الاتحاد الأوربي الجديد قد حال دون استثمار الطاقات في سياسات فعالة إزاء البلقان (والشاهد على ذلك الخلاف حول كوسوفو) أو أفريقيا، وعلى الرغم من الدافع لدمج السياسة كجزء من اتفاقية لشبونة الحالية الا ان عناصر ما يسمي (بإعادة تأميم) السياسة الخارجية قد كان واضحا أحيانا باتساق مع أهداف الولايات المتحدة وأحيانا بمعارضتها. لقد ذكرت فرنسا الشهر الماضي أنها قد تخلت عن سياسة التدخل الأحادي التقليدية في إفريقيا لكن يمكن المجادلة بأن أهدافها في تشاد لا زالت قومية وذات خصوصية ملائمة بالنسبة لها في الوقت الذي تمارس فيه نشاطها تحت راية الاتحاد الأوربي وتسمح لجنرال ايرلندي بقيادة قواتها بالاتحاد. وقد دعمت بريطانيا حظر الطيران بدارفور على الرغم من انه وجد معارضة شديدة بالاتحاد الأوربي وقيادات الناتو العسكرية ، وعند استلامه السلطة من توني بلير جعل رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون الالتزام بالسلام في دارفور احد أهدافه الرئيسية. وعلى الرغم من ان بريطانيا لم تحذو حذو الولايات المتحدة بوصف حرب دارفور بالإبادة الجماعية فان براون قد تحدث عن فرض المزيد من العقوبات على السودان، وكان من الأفضل له التحدث عن فرض عقوبات على متمردي دارفور الذين رفضوا الانضمام لاتفاقية سلام دارفور التي لعبت فيها بريطانيا دورا لا يكل. على الرغم من ان سياسات الاتحاد الأوربي اقل تشددا من الناحية الفكرية وأقل تأثرا بمجموعات الضغط المحلية فان الاتحاد الأوربي قد ساير منحي الولايات المتحدة مدفوعا بالعادة السائدة في الناتو والمتمثلة في الولاء ومسايرة الآخرين، وفي الحالة الفرنسية حاول الاتحاد الأوربي مؤخرا رأب الصدع الناجم من الخلافات حول العراق. وقد ساير الأوربيون معظم قرارات الأمم المتحدة المرسومة من قبل الولايات المتحدة، بما في ذلك قرار مجلس الأمن رقم (1556) والمطالب المستحيلة المتمثلة في نزع سلاح الجنجويد في غضون ثلاثين يوما ، فلو عكسنا الصورة يمكننا بنفس المقياس مطالبة قوات الولايات المتحدة الجبارة نزع سلاح المليشيات العراقية في نفس الفترة، ان هذا المثال يضع نيفاشا في الصورة تماما، لقد دعم الأوربيون عملية الاتحاد الأفريقي وآزروا بالدعم اللوجستي والمالي ثم وافقوا على توسيع القوة الهجين للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة. نعم، لقد اثبت الاتحاد الأفريقي عدم مقدرته على مجابهة التحدي بدارفور – على الرغم من ان هذا الأمر نجم عن تباطؤ الأوربيين في إمداد الدعم المادي ، لقد كان محتوما على عملية الاتحاد الأفريقي ان تفشل في غياب السند الخارجي، خاصة الدعم اللوجستي وطائرات الهيلكوبتر، وحتى لو عبأنا 100 ألف جندي من القوات الغربية المدربة فإنها لن تتمكن من إحلال السلام بدارفور لأن ذلك الأمر لن يتم الا بضغط مشترك المتحدة بين الولايات وأوربا على الفصائل المتمردة للانضمام للسلام. وفي اعتقادي ان الصين قد ساعدت في هذا الأمر لكن تصور الأوربيين والأمريكيين لدور الصين في أفريقيا يختلف بشكل ملحوظ، فقد فشلت المساعدات ومشاريع التنمية التي قدمتها الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة لأفريقيا، خاصة فيما يتعلق بفرض الحكم الراشد، وهذا الأمر يتطلب مجالا أرحب للنقاش لكننا ينبغي ان نشجع الصين لا أن نثنيها عن نشاطها الاقتصادي في القارة الأفريقية. تقارب (السياسة الغربية) أم تباعدها؟ لقد قمت مؤخرا بتنظيم مؤتمر في لندن عن المحكمة الجنائية الدولية بالتعاون مع معهد الخدمات المتحدة الملكي لدراسات الدفاع والأمن الذي هو واحد من اعرق وابرز مؤسسات الفكر الأمني، وبريطانيا هي عضو كامل بالمحكمة لكن الولايات المتحدة تعارضها، ولا يعود السبب الأوحد في ذلك إلى عدم رغبتها في جر جنودها ليحاكموا بلاهاي، فهناك اختلافات رئيسية في وجهات النظر حول مفهوم القانون الدولي إضافة إلى الاستراتيجيات السياسية المختلفة التي تقع على كاهل القوة الوحيدة المهيمنة على العالم ، وباختصار شبهت الولايات المتحدة بأنها كوكب المريخ بالمقارنة مع كوكب الزهرة، الذي هو الاتحاد الأوربي. وبعد اصطدامهم بالحقيقة على ارض الواقع، فان المحافظين الجدد في واشنطون يبشرون الآن بعهد السلطة الصلبة بينما اختارت أوروبا التي قهرها قرن من الحرب الأهلية مسار السلطة الناعمة والقيم الاقتصادية والأخلاقية بدلا من السلطة الناشطة المتمثلة في المدافع والدبابات والصواريخ العابرة ، ان هذه المقارنة ممعنة في البساطة لكنها تعطينا جوهر الاختلافات بين أوروبا والولايات المتحدة. وقد غطي مؤتمر المحكمة الجنائية الدولية هذه المواضيع ضمنا بطرحه للسؤال المتعلق بما إذا كانت المحكمة التي تمثل النهج القانوني ذات مردود عكسي في حالة تعاملها مع القضايا المحالة للمحكمة – والتي تختص جميعها بالنزاعات في أفريقيا ، ففي حالة يوغندا بالتحديد كان يمكن ان تؤدي إدانة الأعضاء القياديين في جيش الرب إلى إعاقة وتأجيل التسوية مع الحكومة اليوغندية، فلماذا يبرم جوزيف كوني ورفاقه صفقة مع الحكومة اليوغندية مع علمهم بأنهم سوف يجرون إلى محاكمة بلاهاي ويواجهون عقوبة التأبيد؟ ونفس الأمر ينطبق على الإدانات لكلا الجانبين بدارفور، وينبغي التنويه هنا إلى ان السودان لم يوقع على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية، ربما ينبغي عليه ان ينضم لتلك الاتفاقية. وقد كان تشارلس تايلور، وليس روبرت موغابي، هو أول رئيس أفريقي تجري محاكمته، ان للمحكمة الجنائية الدولية أهدافا نبيلة، لكن من الناحية العملية تعتبر من قبل العديد من الأفارقة كأداة للامبريالية الأوربية. إنني لا أحبذ ذلك النهج – إذ ينبغي ان تطبق مثل الأمم المتحدة الخاصة بالعدالة الدولية وحقوق الإنسان على الجميع، وإذا طالبنا أفريقيا بأقل من ذلك فان تلك المطالبة سيشوبها نوع من العنصرية، وقد أقر الاجتماع الأكاديمي المهذب للمؤتمر اعتبار النماذج الأفريقية للعدالة، مثل عملية الحقيقة والتصالح بجنوب أفريقيا، مكملة لأهداف المحكمة الجنائية الدولية وليست بالضرورة بديلا صارخا لها. وهكذا – ولأسباب عملية خاصة بإحلال السلام بدارفور وبالسودان بشكل عام – سيكون تدخل المحكمة الجنائية على الأرجح ذا مردود عكسي، وكما أشار زميلي ريتشارد داودن مدير الجمعية الأفريقية الملكية في عبارته المتوارد : "لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية ان تفرض العدل في السودان كما تفرضه في سوري. وأنا بالمناسبة اقطن بمقاطعة بسوري واستطيع ان أؤكد لكم ان المحكمة لا تؤدي دورها بالشكل الأمثل في مقاطعتها الأم، والأكثر جدية من ذلك ان داودن يورد تصريحات الأفراد الذين يجلسون باسترخاء في سوري : إذا لم تستطع المحكمة إسباغ السلام والمصالحة على ضحايا الحرب فما هي جدوى عدالتها؟ لمن شكلت هذه المحكمة؟ إنني اشك في أنها قد شكلت لنا نحن الذين نشاهد هذه الحروب على التلفاز، إننا نطالب بإسقاط الحصانات عن الجرائم الوحشية، ورؤية الأشقياء وهم يقتادون إلى السجن، ربما كان الغرض من المحكمة تهدئة ضمائرنا لأننا في المقام الأول لا نفعل أي شيء حيال هذه الحروب. من الناحية العملية ينبغي لنا ان نتخذ بعض الخطوات حيال هذه الحروب، ان دارفور الآن تهدد بإعاقة اتفاقية السلام الشامل بالسودان، وإذا أصبح السودان دولة فاشلة فان ذلك سيؤدي إلى انهيار الشمال الأفريقي بأكمله، وفي تلك الحالة سوف تنطلق الحركات الجهادية من الجزائر إلى زنزبار لتعم جنوب أوربا في أعقاب أزمة هجرة جماعية تنقل عدد لا يحصي من الأفارقة من شمال أفريقيا إلى أوروبا، ولكن يكون هذا تهديدا للأمن فحسب وإنما تهديد اجتماعي أيضا، فقد حلت الهدرة محل الإرهاب كمصدر رئيس لقلق البريطانيين. إن إشكال دارفور هو في المقام الأول أزمة سياسة يمكن تسويتها في بضعة أشهر، لكن المسببات الأساسية الخاصة بالبيئة والمناخ تحتاج إلى مجال زمني أوسع وجهد أكبر، لكن هذا الموضوع عريض ومثير للجدل. مجابهتين حديثتين للسياسة الخارجية: أود ان أورد هنا باختصار قضية الدب الدمية التي حدثت العام الماضي حيث قامت سكرتيرة ساخطة بالخرطوم بالكيد للمدرسة التي تعمل بها بدافع شخصي، الأمر الذي نجم عنه أزمة دولية، ولن ادخل هنا في التفاصيل المعروفة، ولكني اذكر ان هذا الأمر قد سبب الحرج لحكومة الخرطوم التي كانت متيقظة الذهن تجاه معارضيها الأكثر تشددا، وفي هذا إشارة إلى هشاشة الإدارة التي ذكرتها سابقا. وقد أثار ذلك الأمر عاصفة بوسائل الإعلام بالمملكة المتحدة لأنه كان من المواضيع التي خلقت عاصفة بالمملكة المتحدة، ان المدرسة جيليان جيبونز كانت حسنة القصد لكنها ساذجة ، وإذا كان ذلك الأمر قد حدث
بالمملكة العربية السعودية لربما كانت الأوضاع قد اختلفت، لقد قضت جيبونز حوالي أسبوع في غرفتها الخاصة بمحطة الشرطة وزودت بسرير جديد والكثير من الفواكه. وقد كان تدخل اللورد احمد والبارونة وارسي العضوين بمجلس اللوردات عاملا رئيسيا في حل الأزمة ، قد طاروا للخرطوم للتدخل رغم معارضة الخارجية البريطانية، وبعدها أعادوا المدرسة إلى بريطانيا ، وقد أزاحت تلك الخطوة الضغط عن كاهل حكومة الخرطوم ، والاهم من ذلك ان القادة المسلمين البريطانيين قد شوهدوا وهم يتخذون خطوات حيال ما يعتبره البريطانيون ظلم إسلامي ضد مواطن بريطاني، وقد حمل المتظاهرون المسلمون لافتات أمام سفارة السودان بلندن كتب عليها (ليس بأسمى ) قد ابدي العديد من المسلمين البريطانيين استياءهم من ذلك الحدث مثلهم مثل المواطنين البريطانيين. ولم ينزع لورد احمد الفتيل عن أزمة بالسودان فحسب، وإنما عن تحد رئيسي بالمملكة المتحدة، فان ما يسمي بالحرب على الإرهاب قد صعدت التوتر المتنامي نحو الجالية المسلمة ببريطانيا والذي ازداد حدة بالتصريحات الخرقاء التي أدلي بها أسقف كانتربري مؤخرا عن الشريعة الإسلامية ، فإذا وقع الآن حادث إرهابي رئيس بالمملكة المتحدة، مثل تفجير بالأنفاق – وهو للأسف أمر محتمل الحدوث – فان الجالية سوف تهاجم سياسيا وجسديا، وهذا بالضبط هو ما تريده القاعدة لاستقطاب الجاليات لازدهار نزعتها المتطرفة. ربما كان لورد احمد قد تبوأ مكانة في التاريخ عن غير قصد منه بمساعدته في تفادي تلك السيناريوهات. لقد أوردت ما سبق لعدة أسباب، إحداها انه يمكن لدمية دب صغيرة ان تخلق أزمة كبري في السياسة الخارجية ، لقد سببت تلك الأزمة صداعا للخارجية البريطانية لكنها حلت بمبادرات شخصية ، كذلك أبرزت تلك الأزمة القضايا الإسلامية المختلفة بأوربا، أبرزها تلك التي حدثت مؤخرا مرة أخرى بالدنمارك، وتحرص ألمانيا على الحد من نشاط أفراد الأقلية المسلمة الذين يرعون التطرف، لكن في الولايات المتحدة تكون مسألة النشاط الجهادي المحلي في أوساط المواطنين الأمريكيين مختلفة كلية وينظر إليها على أنها تمثل تهديدا أقل مما تمثله في المملكة المتحدة وذلك لعدة أسباب منها توفر التعليم والاندماج في المجتمع وتوفر الأمن. من الأهمية بمكان دراسة الاختلافات الثقافية الهامة في ردود أفعال الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة وكذلك ما يسميه العلماء ب(الشخصيات الإستراتيجية) عند الاستجابة للازمات، وقد لاحظت شخصيا اختلافات في المواقف إزاء القانون الدولي والتجربة المحلية للحرب. وعلى الرغم من هوسها المفهوم بالإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر فان الولايات المتحدة لا تحس بالانزعاج جراء ما يسميه المحافظون بالطابور الخامس. وباختصار، صارت النقاشات والمخاوف المحلية حول التطرف الإسلامي تحدد بشكل مطرد السياسة الخارجية. وقد حدثت مؤخرا أزمة أخري أكثر خطورة بين السودان والاتحاد الأوربي بخصوص الرسوم الدنماركية المسيئة للنبي (صلعم) التي أعيد نشرها، وقد قامت الحكومة السودانية (وعلينا ان نتذكر أنها حكومة وحدة وطنية تمثل أيضا ملايين المسيحيين ) بدعوة المسلمين لمقاطعة السلع الدنماركية مؤكدة ان الدنماركيين غير مرحب بهم في السودان، وقد سيرت الحكومة مسيرة مسالمة مشحونة حيث قال الرئيس البشير(لن تطأ السودان بعد الآن أي قدم دنماركية). فهل شمل ذلك الأمر الدبلوماسيين والخبراء الدنماركيين العاملين في المعونة الإنسانية والأطباء الدنماركيين في دارفور والجنود الدنماركيين ببعثة الأمم المتحدة؟ كم عدد الدنماركيين الذين يعيشون في السودان؟ فيما يخص المعايير الدبلوماسية لم تخضع ردة الفعل تلك للدراسة الدقيقة لأنها بنيت على سوء فهم أساسي لكيفية عمل النظم الديمقراطية، إذ انه لا يمكن للحكومة الدنماركية منع أي صحيفة من نشر أي مادة تعتبر قانونية في الدنمارك. ان هذه المقاطعات التي تحدث في الوقت الذي يحاول فيه السودان إنهاء عزلته تعتبر قصيرة النظر، كما إنها ذات مردود عكسي ويمكن لردود فعل مماثلة ان تؤلب أوربا بكاملها ضد السودان وعلى المسئولين ان يفهموا ان ما يتم تفهمه في المساجد المحلية يوم الجمعة لن يتم بالضرورة تفهمه في أوربا آو في الولايات المتحدة. أسباب للتفاؤل: لقد حاولت ان اشرح بشكل عام الفروقات في ردود الفعل بين الولايات المتحدة وأوربا نحو السودان، وقد ذكرت في بداية حديثي انه لا ينبغي ان يستغل المتشددون بالخرطوم فهم تلك الاختلافات لكي يفرقوا ويسودوا، وعلى النقيض من ذلك ينبغي ان يستغل فهم تلك الاختلافات ذلك النوع من التحالف بين الولايات المتحدة وأوربا الذي حقق الكثير في السابق، على وجه الخصوص مع القادة الأفارقة بنيفاشا، لقد أوضح الأوربيون في بعض الأحيان أنهم حققوا تعاونا اكبر من إدارة كلينتون أو بوش مع الخرطوم نسبة لخبرتهم الامبريالية وعدم تمسكهم بأيدلوجيات وقلة مجموعات الضغط السياسي لديهم. أود ان انهي خطابي هذا بنغمة متفائلة ويمكنكم ان تسموني ليبرالي من الطراز القديم – لكن لاحظوا ان الأمريكان قد تعدوا على انجليزية الملكة حيث تحمل كلمة(ليبرالي) في السياق السياسي الأمريكي معان جارحة، لكنني أؤمن بالفلسفة الليبرالية التي تفضل المحاورة على القتال خاصة بالنسبة للأعداء بما فيهم القاعدة. وبالتأكيد هذا المفهوم لا يتواجد بمصطلحات الدبلوماسية الأمريكية ، ربما وجد صدي لدي اوباما لكن من غير المحتمل ان يجد صدي لدي ماكين. هناك رئيس أمريكي جديد يبشر بتفاؤل جديد حول سياسة خارجية أمريكية ذات ميول عسكرية اقل، وسيكون من المثمر والمفيد للأوربيين ان يختلفوا مع الولايات المتحدة ومع بعضهم البعض ، لقد استغرق الاتحاد الأوربي زمنا طويلا في توفيق سياسته الخارجية على حدة من الناتو وواشنطون ، وعلى الرغم من كل عيوبه اثبت الاتحاد الأوربي انه ناجح تماما في توجهه الرئيسي، لقد انشيء الاتحاد لإنهاء الحرب في أوربا، وبعد قيامه لم تتحارب أي دولة من دوله الأعضاء مع دولة أخرى. وتظل إمكانية تطبيق تلك التجربة المكتسبة بعد عناء على الحروب بالسودان أمرا مفتوحا للنقاش، إنني اشعر بالتفاؤل خاصة بعد توقيع اتفاقية نيفاشا لكن لا ينبغي لأهل دارفور ان يجلسوا في انتظار رئيس أمريكي جديد. ان بإمكان الاتحاد الأوربي لوحده ان دعي الأمر استغلال نفوذه لإلحاق الممتنعين بطاولة المفاوضات بدارفور، وان يتعاون مع الصينيين خاصة قبل انتهاء الألعاب الاولمبية لدعم اتفاقية السلام الشامل أيضا. وفي هذه الأثناء ينبغي على السودانيين ان يتحاورا، ولن يكون هناك سلام حقيقي الا إذا تحاورا مع بعضهم البعض، لقد تجادل الأوربيون وتحاربوا لعدة قرون، وعليكم الآن ان تفعلوا نفس الشيء في عدة أشهر وليس عام، وهذا مطلب صعب حتى لشعب يمتلك مثل هذه المقدرات. -- الدكتور بول موركرافت هو مدير مركز محللي السياسة الخارجية بلندن وبروفسور زائر لكلية الصحافة ووسائل الإعلام والدراسات الثقافية بجامعة كادريف --


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.