غني عن القول إن التعداد السكاني الخامس يكتسب أهمية قصوى تميزه عن بقية التعدادات التي سبقته في السودان، ففضلاً عن انه يوفر معلومات حقيقية ودقيقة مما يوفر فرصة لاتخاذ القرارات السليمة، فانه يأتي في مرحلة مفصلية في تاريخ السودان الحديث بعد توقيع اتفاق السلام الأخير بين الحكومة والحركة الشعبية. والمعروف أن السودان ظل يجري تعداداً للسكان كل عشرة أعوام ابتداء من 1956م وانتهاء بالعام 1993م، وطبقا لهذا النظام كان من المفترض أن يقام التعداد الخامس العام 2003م، ولكن لأسباب منطقية، كما قطع بذلك عبد الوهاب مضوي مستشار التعداد الخامس، تتعلق بالاتفاق نفسه، رأت الحكومة والحركة الشعبية ان يقام التعداد في السنة الثانية من الفترة الانتقالية للإرتباط الوثيق بين نتائج التعداد، وتنفيذ بنود الاتفاق. وطبقاً لاتفاقية قسمة السلطة في البند (8-1) الذي ينص على إجراء تعداد سكاني في كل ولايات السودان في نهاية العام الثاني من الفترة الانتقالية والأكثر من ذلك، يعتبر هذا التعداد من آليات تنفيذ بروتوكول مشاكوس وبروتوكول قسمة السلطة حيث ينص البروتوكول على إنشاء مجلس للتعداد بقرار رئاسي ويتم تمويله بواسطة حكومة الوحدة الوطنية على أن يقوم الجهاز المركزي للاحصاء، وجهاز الاحصاء في حكومة الجنوب بتنفيذ التعداد. وأكد مضوي، وهو يخاطب الصحافيين في الورشة التحضيرية للتعداد، التي انعقدت أخيراً تحت إشراف صندوق الأممالمتحدة للسكان والجهاز المركزي للإحصاء بأكاديمية السودان لعلوم الاتصال، على تميز التعداد الخامس عن بقية التعدادات لأنه مطلوب منه توفير معلومات دقيقة وموثوق بها من كل الأطراف في الداخل والخارج للاستعانة بها في تنفيذ بنود مهمة في اتفاق السلام، وهي الانتخابات العامة، وإعادة النظر في النسب المتفق عليها فيما يخص توزيع الثروة والموارد القومية وهذا فضلاً عن الاستفتاء الذي يقام لتقرير مصير الجنوب بعد نهاية الفترة الانتقالية. فعلياً وعلى أرض الواقع، تبدو الأمور مبشِّرة، بل ممتازة، فحسب جمال الأمين مسؤول برنامج التوعية بصندوق الأممالمتحدة للسكان، فان الاستعدادات التحضيرية كافة من دعم مالي وترتيبات فنية قد اكتملت لقيام التعداد. وذكر أن منظمات الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي مهتمون جداً بهذا الأمر حيث تدافعوا من اجل بذل المعونات لإنجاحه، وأخيراً تم الاتفاق على أن يقوم صندوق الأممالمتحدة للسكان بهذه المهمة. وكشف الأمين عن وجود (35) ألف عداد، و(7) آلاف مراقب، هذا فضلاً عن توفر (75) عربة لاندروفر للمساهمة في ترحيل العدادين مع ملاحظة أن السيارات كانت لا تتعدى العشرين سيارة في آخر تعداد. ويبدو ان ضربة البداية سوف يصاحبها اهتمام شديد حيث يقوم الصندوق بإقامة احتفال ضخم بمقره بالخرطوم الخميس القادم، بمشاركة مقدرة من الخبير الهندي الذي اشرف على تعداد العام 1993م الأخير، ود. عبد الرحمن احمد الحسن مدير جهاز الإحصاء المركزي ممثلاً لحكومة السودان، ود. لوكا ممثلاً للحركة الشعبية، ولفيف مقدر من ممثلي السفارات ومنظمات الأممالمتحدة بالخرطوم. وفي هذا المنحى، يجدر بنا أن نشير إلى أن هنالك مسحاً أولياً للمنازل في ولاية الجزيرة والولاية الشمالية، بترقيمها، كنوع من التحضير الأولي للتعداد. وحسناً فعلت أكاديمية السودان لعلوم الاتصال عندما أقامت الورشة التحضيرية للصحافيين، للقيام بدورهم التوعوي، قبل بداية الحملة، وتغطية نشاطات التعداد أثناء فترة التعداد، وهي من المرات القلائل التي تشرك فيها جهة ما في الدولة، الإعلام في القضايا الوطنية، وبمشاركة فعَّالة، ومقدَّرة من الصحافيين الذين شاركوا في فعاليات الورشة وقبل وقت كاف من البداية الفعلية للتعداد، وبلا شك أن استمرار التعاون بين الإعلام والجهات المنفذة للتعداد كالجهاز المركزي للإحصاء وصندوق الأممالمتحدة للسكان، في إعطاء المعلومة الأكيدة للصحافيين يسهم وبصورة كبيرة، في إنجاح هذا التعداد. وبالعودة إلى حديث عبد الوهاب مضوي فان التعداد -أي تعداد- يوفر قاعدة أساسية من المعلومات عن السكان للاستفادة منها في مجالات عديدة أهمها: - التخطيط التنموي واتخاذ القرار الإداري. - توزيع الخدمات الضرورية للمواطنين على المستوى الولائي والمحلي والاتحادي كالصحة والتعليم، والمياه والطرق. - توزيع الموارد القومية على المستوى الولائي والمحلي. - توفير معلومات للبحوث العلمية. - توفير الإطار السكاني لتنفيذ المسوحات الميدانية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية. - الاستفادة من معلومات التعداد في رسم السياسة السكانية وربطها بالتخطيط التنموي الإستراتيجي للبلاد. - توفير معلومات للمقارنات الدولية ومتابعة أهداف الألفية. - استغلال معلومات التعداد وتحديد فجوات النوع (Gender) - وليس بعيداً عن هذه الأهداف الآنفة للتعداد، فانه يدخل لاعباً أساسياً ومهماً في العديد من المؤشرات المطلوبة لتحسين نوعية خدمات الصحة الإنجابية، وذلك باستخدام هذه المؤشرات، كما يذهب بذلك الخبير د. مصطفى نميري، وهو من المهتمين بالصحة الإنجابية، في رسم السياسات والاستراتيجيات وتخطيط وتنفيذ ومتابعة وتقييم برامج الخدمات. ويضيف نميري أن معدل الخصوبة العام يقاس عادة في المعلومات التي تجمع من التعداد السكاني وزيادة معدلات الوفاة الناتجة عن الولادات المتكررة. ويؤكد أن المعدل الحالي في السودان حسب مسح الأمومة الآمنة عام 1999م هو (509) حالات لكل مائة ألف ولادة حية. مشيراً إلى أن احد الأهداف التنموية للألفية تحسين صحة الأمومة، وذلك بخفض معدل وفيات الأمهات لأسباب تتعلق بالحمل والنفاس بمعدل (75%) بحلول العام 2015م. ويرى نميري أن إجراء تعداد جيد ودقيق يسهم في التخطيط والمتابعة والتقييم لهذه الأهداف. وحتى لا يلقى الحديث على عواهنه، فان ارتباط التعداد الخامس باتفاق السلام، بالرغم من تميزه وأهميته، لكنه يحمل مخاوف عديدة، ومنطقية. وهذه المخاوف تبدت بعد ارتفاع الأصوات التي تنادي بالجهويات في كل مناطق السودان ابتداء من الجنوب، ومن ثم دارفور، وشرق السودان وشماله، وأخيراً الجزيرة، فارتفاع هذا الصوت السياسي الحاد القائم على الاستقطاب للجهة ربما يدفع بعض الجهات السياسية إلى (تكبير كومها) بإيراد معلومات مغلوطة عن العدد الفعلي للأسرة، مما يعني زيادة عدد الأفراد، وبالتالي زيادة النسبة المقررة من الثروة والموارد الطبيعية للإقليم حسب كثافته السكانية. وفي هذا الصدد يقلل ابوبكر وزيري رئيس اللجنة الإعلامية للتعداد من فرصة قيام المواطنين بهذا الأمر، نسبة للوعي الذي انتشر في أوساط الناس حسبما ذهب إليه. والملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا، انه لابد من التشديد على العدادين بأخذ المعلومات الدقيقة من المواطنين، وان على المواطنين عدم الانجراف وراء هذه الأصوات النشاز. والأمر الجديد في التعداد الخامس هو دخول المناطق الجنوبية التي كانت تحت سيطرة الحركة الشعبية الى حيز الحصر الفعلي، وليس النظري، كما كان يحدث في التعدادات السابقة. ويبقى تحد جديد وربما يتحول إلى عقبة أمام التعداد الخامس وهو الأوضاع غير المستقرة في دارفور. فمن المعلوم أن أحداث دارفور قد أحدثت تغييراً ديمغرافياً وسكانياً على الأرض بنزوح آلاف المواطنين من قراهم ولجوئهم إلى دولة تشاد أو أفريقيا الوسطى، وآلاف السكان داخل المعسكرات المنتشرة في ولايات دارفور، وحدوث تداخل بين سكان المعسكرات والمدن الكبيرة، هذا فضلاً عن وجود العديد من السكان داخل المناطق التي تسيطر عليها حركتا العدل والمساواة وتحرير دارفور في مناطق واسعة من الإقليم. ولكن الصورة لا تبدو قاتمة كما كانت في جنوب السودان، فغرب السودان بوضعه الآن لا يمكن أن يقارن بجنوب السودان قبل اتفاق السلام، وهو ما تراهن عليه الجهات المناط بها القيام بالتعداد السكاني الخامس. أخبار اليوم