الأوضاع الإقليمية المعقدة التي تحيط بالدول الإفريقية أصبحت حقيقة التقطتها قرون استشعار هذه الدول، حيث أصبح مناقشة هذه الأوضاع والإحاطة بأبعادها المختلفة ضرورة وحقيقة حتمية لا مجال إلا التعامل معها بواقعية، بعيداً عن الاستخفاف بنتائجها السالبة على دول القارة التي تحيط بها الأزمات من كل جانب، وكذلك بعيداً التهويل المقعد الذي يجعل هذه الدول تستسلم للأمر الواقع، لتترك مصيرها بيد غيرها من القوى الدولية التي تكرس لمفهوم أن الأفارقة عاجزون عن التصدي لقضاياهم، ما لم تتقدم هذه القوى لفرض الحلول من منطلقات مصلحية بحتة، قائمة على نظرة تاريخية مفادها (أن السيادة للرجل الأبيض). ولعل الجرأة التي تجلت في أحاديث قادة أجهزة الأمن والمخابرات في إفريقيا خلال عقدهم لمؤتمرهم الخامس في الخرطوم، تؤكد أن المسؤولين عن أمن بلدانهم لا ينظرون إلى القضايا والمهددات المحيطة بهم من خلف (النظارات السوداء)، التي هي علامة تميز رجالات الأمن على مر العصور، فالرؤية جاءت هذه المرة واضحة دون أي غبش ومنحازة إلى رغبات وتطلعات الشعوب في المقام الأول. فمنظمة السيسا في اجتماعها الثامن بالخرطوم تناقش مجمل الأوضاع الإقليمية المعقدة بالمنطقة ومن بينها التطورات الليبية، مؤشراتها وآثارها وطرق معالجتها، كما أوضح الفريق أول مهندس محمد عطا المولى عباس المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، الذي قال إن من الأجندة المطروحة للنقاش بحث الوضع القانوني للسيسا باعتبارها أحد الأجسام المنضوية تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، بجانب تقنين الوضع القانوني والإداري للسيسا في دولة المقر من حيث الحصانات وأوضاع العاملين فيها. إذن من واقع هذا الحديث فإن منظمة السيسا قد انتقلت من طور التكوين ومحاولة تنسيق المواقف بين مختلف الأجهزة إلى النضج الذي يجعلها آلية متكاملة وفاعلة ينتظر منها أن تكون عيناً فاحصة تتعرف على مكامن الأزمات التي يعاني منها الأفارقة، فضلاً على تقديم الحلول العملية لتلك الأزمات. فقد أكد المشير عمر البشير رئيس الجمهورية أن مؤتمر السيسا الأخير حظي بتداعي كبير لأجل التنسيق المحكم لمجابهة تحديات القارة، مشيراً إلى أنهم يشهدون للمنظمة النشطة بالجدية والمثابرة ويتابعون الجهود التي تبذل للحد من المخاطر التي تواجه أفريقيا ووقف الحرب والعيش بسلام ومحاربة المتاجرين بالفتن. ولعل هذا النضج الذي وصلت إليه السيسا هو ما دفع د. جيين بينغ رئيس مفوضية الإتحاد الأفريقي وهو يخاطب مؤتمرها بالخرطوم للإشارة لأهميتها كجهاز قاري لديه مسؤولية تجاه أعمال يصعب على مؤسسات أخرى القيام بها، بل ذهب إلى أن المفوضية والسيسا يحتاجان للعمل جنباً إلى جنب للتصدي للتحديات ومهددات السلم والأمن في القارة الإفريقية. ولعل هذه شهادة كافية لتأكيد ما ذهبنا إليه من أن السيسا بات ينظر إليها إلى أكبر من كونها مؤتمر عادي بلا فاعلية، وهذا ما يشير إليه أيضاً ارتفاع عدد الدول الأفريقية المنضوية لاجتماعاتها لتصل لقرابة ال(40) دولة. وقبيل انعقاد المؤتمر أكد الأمين التنفيذي للجنة أجهزة الأمن والمخابرات الافريقية (السيسا) اسحق مويو في المؤتمر الصحفي الذي عقد بالخرطوم أن السيسا تعتبر آلية لحشد المعلومات ذات الطابع الاستراتيجي والأمني للجهات التنفيذية للقارة الأفريقية، وذلك للتدخل لمنع الصراعات والنزاعات وتلافي آثارها، مشيرا لوجود تقسيم للأدوار بين المؤسسات الأفريقية والسيسا. وفيما يتعلق بالتوترات في شمال إفريقيا والنزاعات الأفريقية الأخرى وإثرها علي استقرار الدول وأمنها وبنيتها التحتية، أعرب مويو عن قلق السيسا معترفاً بوجود قصور إفريقي كبير وفشل في تقدير حجم الأخطار التي تحدق بالدول الافريقية، لكنه في الوقت نفسه أشار لخطر الأجندة الأجنبية التي تهدف بعض الدول لتحقيقها من وراء تلك النزاعات. ومع هذا الاعتراف بالقصور إلا أن الأفارقة لا يتحملون وحدهم وزر عدم الاستقرار الذي يلازم الأوضاع في قارتهم، فللعالم الغربي نصيب وافر في تحمل مسؤولية ما تعانيه القارة السوداء من تخلف وتوترات مستمرة، ابتداء من تعامله معهم بدونية ارتبطت بعصر الرقيق واستعمار بلدانهم، وهي مرحلة وإن كانت قد ولت إلا أن مفهوم الغربيين القديم للتعامل مع الأفارقة لم يفارق سلوكهم وتعاملهم مع قضايا القارة على مر الحقب التالية. هذه الحقيقة أدركها القادة في مؤتمر السيسا، فقد دعا فيليب أوبارا رئيس الدورة الحالية للسيسا ومدير عام جهاز المخابرات بالكنغو، الاتحاد الأفريقي وقادته ألا يقفوا موقف المتفرج من القرارات التي تصدر من المجتمع الدولي في قضاياهم، فالدول الأفريقية تظن أنها أحسنت فعلاً بالانضمام لميثاق روما لكنها قدمت آلية لدول العالم الغربي للكيل بمكيالين، إذ أنها رفضت التوقيع على ميثاق روما وحرصت على حماية مواطنيها، بينما تثير المشاكل لقادة إفريقيا وناشد اوبارا الحكومات لاستخدام الحوار بدلاً عن السلاح لأنه يحميهم من فرض الأقوياء في العالم لإرادتهم. ويري الفريق أول محمد عطا أن الوضع الإقليمي يحتاج لتضافر الجهود والتكاتف الإفريقي لمزيد من التعاون والتنسيق في الأجهزة الأفريقية الذي أكد أهمية الوقوف صفاً واحداً أمام الاستعمار الحديث الذي جاء بثوب جديد لغزو إفريقيا في أسواقها البكر والمفتوحة ومواردها الطبيعية، بعد أن أصبحت قبلة للغرب ودعا أن تصمد إفريقيا لأنها قارة المستقبل وقد باتت مصنعاً للأحداث والمعلومات. وتمثل التطورات الداخلية التي تشهدها بعض البلدان الأفريقية تحدياً كبيراً لقادة أجهزة الأمن والمخابرات الذين يجتمعون في الخرطوم، وإن كانت الرؤى قد اتفقت على خطورة ما يجرى فيها وضرورة التعامل الجاد معها. فالثورات في شمال إفريقيا مثلت منعطفاً جديداً وخطيراً جذب اهتمام العالم كله، وهو ما يستدعي دراسة ما يجري فيها والخروج حوله بقرارات واضحة توضع أمام طاولة الحكومات في البلدان الأفريقية لتتحس الطرق المثلي للتعامل مع رغبات الشعوب المتطلعة للحرية والكرامة وتطبيق الديمقراطية والحكم الراشد واحترام حقوق الإنسان، فضلاً عن إيجاد طرق أخرى للتداول السلمي للسلطة غير الصراعات المسلحة التي أقعدت بكثير من شعوب إفريقيا. أما الأوضاع في البلدان المأزومة مثل الصومال فتتطلب جدية أكثر في إيقاف معاناة شعوب استمرت لعقود من الزمان. ومع تركيز جدول أعمال المؤتمر الثامن للجنة أجهزة الأمن والمخابرات في أفريقيا (السيسا) على الأوضاع الداخلية في البلاد الأفريقية، فإنه يتعين عليها ردم الهوة ما بين طموحات الشعوب واحتياجات البلدان لتفادي الكثير من الصراعات وبناء الأمن والسلم الذي تطمح إليه القارة لتلتفت إلى التنمية وبناء قوية تستطيع مواجهة التحديات، وهو ما يتطلع له الجميع خاصة أن استضافة السودان لهذه الدورة تحمل رمزية خاصة نتيجة لدوره الفاعل في تجمع أجهزة المخابرات الأفريقية ولتاريخه الناصع في مساندة حركات التحرر الأفريقية وتبنى قضايا القارة.