مثلما كان وردي دوما نافورة متدفقة فنا وإبداعا وجمالا ، كان يوم رحيله أيضا مناسبة للإبداع وموسقة الكلمات المعبرة عن حرقة رحيله . ذات يوم نصحني أستاذ الفلسفة بالجامعات المصرية الدكتور نصار عبد الله بان تمجيد الموتى لا يكون بالبكاء والعويل عليهم ، بل بتكملة ما بدأوه من أعمال .وإذا كانت البداية عند الهرم الافريقي النوبي محمد وردي هي الابداع ، فهي مناسبة لنرى ماذا قالت صحف الخرطوم في رثاء ونعي فنان افريقيا الأول .. فقد كان رحيله امتحانا قاسيا للمبدعين من حملة الاقلام ورؤساء الفرق الاخبارية الموسيقية التي تعزف أجمل الحانها كل يوم دون أن يلتفت اليها أحد . قالت الاحداث : وداعا نور العين ، وقد كان وردي كذلك ، بل كان مثل المها حين تزداد شدة سواد العين في شدة بياضها. وقالت السوداني : وردي « قلت أرحل « وأكلمها من عندي .. وأسوق خطواتي من زول نسى الالفة .. وأهاجر ليك من مرسى لي مرسى .. روحت وجيت .. في بعدك لقيت كل الارض منفى. هاجر وردي الى اثيوبيا ومصر واريتريا ولندن وأمريكا ، وهناك اشتد عليه المرض فعاد الى الدوحة في مساء يوم خريفي حزين يحمل أوجاعه باحثا عن كلية تعيد اليه الامل في الحياة ..هناك كان ينتظره صديقه المبدع والموسيقار بمفهوم عزف مشارط التطبيب لإزالة الأوجاع الدكتور الفاضل الملك .. لم تكن مجرد عملية جراحية كانت صحبة جميلة بين فنان وهب حياته للفن ، فأحسنت الدوحة وفادته، وإعادته الى اهله طيبا معافى. ولم تكذب الرائد اهلها فقالت : وردي يا أعز الناس في رحاب الله . ومزجت الصحافة بين الفن والسياسة وذلك ما كان يعشقه الراحل فقالت ورحل وردي عاشق الحرية والسلام . كان وردي محبا للحرية والسلام . ذات يوم حمله حظه للسفر على طائرة أثيوبية من أديس ابابا الى القاهرة وهو في عنفوان معارضته للحكومة ، واضطرت الطائرة لسبب فني للهبوط بمطار الخرطوم وفوجئ رجال الامن بالفنان الكبير ضمن قائمة ركاب الطائرة فطلبوا من الكابت انزاله لأنه مواطن سوداني مطلوب للتحقيق وسوف يسمح له بمواصلة الرحلة بعد اكمال التحقيق معه ، لكن قائد الطائرة الاثيوبية رفض الطلب الحكومي رفضا باتا متسلحا بإرث قديم للخطوط الأثيوبية . وعاد وردي الى الخرطوم وغنى في حضرة الانقاذ عندما طاب له ذلك ، هكذا وردي أحببناه عندما غنى : انت يا مايو الخلاص ، ويا سيف الفدا المسلول .. ولأكتوبر الاخضر ولعصافير الخريف . وقالت الأهرام اليوم رحيل أسطورة الغناء وردي .. وهكذا كان وردي أسطورة قلما يجود الزمان بمثلها . وتفردت الرأي العام حقيقة لا مجاملة .. سامح دمعتنا المعذورة وداعا وردي . وسقطت بعض الصحف في امتحان الابداع وتطويع الكلمات .. فقالت التيار : في ذمة الله وردي .. واليوم التالي وفاة الفنان الكبير وردي ، وجاء في آخر لحظة في ذمة الله .. محمد وردي . هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي قالت : رحل كروان أفريقيا محمد وردي وأتبعت الخبر بمقطع قصير من أغنية من غير ميعاد مع تعريف للمستمع العربي بفنان السودان الاول وكروانه المغني . وربطت بين موته ورحيل نجمة البوب الامريكية وتني هيوستن ، ويا لها من صدفة حين قررا الرحيل معا ، ولمثل هذه التزامنية اكثر من معنى في عالم هوليوود ، وهي صدفة و من غير ميعاد. وبكت الخرطوم ونيوجرسي عندما سكتت عصافير الخريف في ذات المساء. أرجو المعذرة على هذه القراءة الصحفية لعناوين نعي الراحل وردي في عدد من الصحف السودانية وأهمس في أذن زملائي ، بأنه لا يليق أن تنعى قامة مثل وردي بتلك الكلمات المألوفة لسبب بسيط هو ان الراحل قيمة متفردة في كل شيء.